الاعتراف بـ"أرض الصومال".. بوابة إسرائيلية جديدة لاختراق القرن الإفريقي
إعلان الاعتراف المتبادل بين الاحتلال وإقليم "أرض الصومال" الانفصالي يكشف محاولة تمدد إسرائيلية في القرن الإفريقي، واستثماراً للهشاشة والانقسام العربي وتآكل الردع الدولي لتشجيع الانفصال وبناء نفوذ يهدد استقرار الإقليم والبحر الأحمر.
أعاد إعلان الاعتراف المتبادل، في 26 ديسمبر/كانون الأول، بين دولة الاحتلال الإسرائيلي وإقليم "أرض الصومال" الساعي للانفصال عن الصومال منذ ثلاثة عقود، تسليط الضوء على التحولات الجارية في الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه منطقة القرن الإفريقي. فإقامة كيان جديد في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية جيوسياسية لا يمكن فصلها عن اشتداد التنافس الإقليمي والدولي على الممرات البحرية، ومواقع النفوذ، وترتيبات الأمن الإقليمي.
تقليدياً، شكّلت منطقة القرن الإفريقي أحد ميادين ما عُرف في الأدبيات الإسرائيلية بـ"سياسة شدّ الأطراف"، التي استهدفت تطويق العالم العربي عبر اختراق بيئته الإقليمية، وإضعاف دوله، ودعم الأقليات، وتأجيج الصراعات الداخلية، غير أن التحولات العميقة التي أصابت النظام الإقليمي العربي خلال العقود الأخيرة، من تراجع وتفكك وضعف مؤسسي، جعلت البيئة أكثر ملاءمة لتوسيع هذا الدور مقارنة بالماضي، حين كان الموقف العربي أكثر تماسكاً نسبياً في مواجهة سياسات الاحتلال.
في هذا السياق، لا يمكن فصل التحركات الإسرائيلية المتسارعة في القرن الإفريقي عن أربعة متغيرات رئيسية، أولها: تداعيات أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحرب الإبادة في غزة، التي كشفت درجة غير مسبوقة من العنف المنفلت وانتهاك قواعد القانون الدولي، ودفعت الاحتلال إلى البحث عن ساحات نفوذ بديلة لتخفيف عزلته الأخلاقية والسياسية.
ثانيها: صعود تحالف الاتفاقيات الإبراهيمية بوصفه إطاراً عملياً لإعادة هندسة المنطقة إقليمياً، بما يتجاوز القضية الفلسطينية ويعمل على تصفيتها سياسياً. ثالثها: حالة الانقسام العربي الحاد، التي وفّرت للاحتلال فرصة اختراق الصف العربي، مستفيداً من انخراط بعض الأنظمة في سياسات التطبيع والتماهي مع أولوياته الأمنية والاستراتيجية. أما المتغير الرابع فيتمثل في ضعف النظام الدولي وتواطُئِه، أو عجزه، عن كبح انتهاكات الاحتلال، ما شجعه على التدخل في شؤون الدول الهشة وتقويض سيادتها.
ضمن هذه البيئة، وجد الاحتلال في القرن الإفريقي مجالاً مناسباً لتوسيع نفوذه. فدول المنطقة تعاني هشاشة داخلية بفعل الحروب الأهلية والصراعات السياسية، كما أن أطرها الإقليمية، مثل الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) وجماعة شرق إفريقيا والاتحاد الإفريقي، باتت رهينة لإرادات الحكومات الوطنية، ما يحدّ من قدرتها على فرض مواقف جماعية فوق وطنية صلبة، خصوصاً تجاه فلسطين.
ترتكز الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة على استثمار الصراعات القائمة، كما في السودان وجنوب السودان، وعلى توظيف التوترات الإقليمية بين دول القرن الإفريقي نفسها، إضافة إلى استغلال التنافس العربي بدل العمل على تنسيق المصالح. هذا الواقع يجعل الإقليم (القرن الإفريقي الكبير) ساحة مفتوحة لتدخلات خارجية سالبة، في مقدمتها التدخل الإسرائيلي، الذي يتغذى على الفوضى والانقسام.
في هذا الإطار، يمكن فهم الاعتراف الإسرائيلي بـ"أرض الصومال" بوصفه تتويجاً لمسار طويل من سياسات التفكيك وإعادة تشكيل الخرائط، في ظل تآكل قواعد النظام الدولي. فدولة الاحتلال لا تكتفي اليوم بدعم أطراف محلية أو تغذية صراعات داخلية، بل تنتقل تدريجياً إلى مرحلة أكثر طموحاً تقوم على تشجيع مشاريع الانفصال في المناطق الاستراتيجية، وربطها بشبكة علاقات أمنية وسياسية معها، بما يعزز دورها بوصفها راعياً إقليمياً لمشاريع التقسيم.
وعليه، فإنّ الدور الإسرائيلي "الجديد" في القرن الإفريقي لا يهدد فقط استقرار دول المنطقة، بل يكرّس نموذجاً جديداً من عدم الاستقرار الإقليمي، قوامه تفكيك الدول الهشة، وتغذية النزاعات، وتحويل الإقليم إلى ساحة صراع مفتوح، ستكون كلفته الأمنية والسياسية باهظة على شعوبه وعلى الأمن الإقليمي ككل.
وبناء على ذلك فإنّ نموذج "أرض الصومال" والاعتراف المتبادل الذي أقدمت عليه دولة الاحتلال لا يُعَدّ سوى فاتحة لمرحلة إسرائيلية جديدة، لا تكتفي بتكريس الهيمنة على الشرق الأوسط فحسب، بل تسعى إلى التمدد خارج حدوده التقليدية نحو مجالاته الجغرافية الحيوية، وإعادة تشكيل موازين القوة الإقليمية عبر إزاحة القوى الصاعدة أو تلك التي لا تزال تشكّل ركائز للنظام الإقليمي "القديم".
وفي هذا السياق، لا تُقرأ الانقسامات الحادة حول ملفات مثل السودان وأرض الصومال بين محور يضم السعودية ومصر وتركيا وقطر، ومحور آخر تقوده دولة الاحتلال، إلا بوصفها مقدمات لمواجهة إقليمية أوسع مرشحة للتفجر في القرن الإفريقي وحوض البحر الأحمر، وربما في نطاقات جيوسياسية أبعد من ذلك.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.