بعد الحرب والنزوح.. زراعة الزيتون والفستق والتين تعيد الأمل لسكان إدلب
بعد دمار الحرب واقتلاع الأشجار في إدلب، بدأ مزارعون يعود لإحياء أراضيهم بزراعة الزيتون والفستق والتين، رغم الجفاف وغلاء التكاليف، فيما تدعم مديرية الزراعة جهودهم لإعادة الحياة والاقتصاد الريفي.
يسير المزارع محمد العلوش ببطء بين أرضه التي بدّلتها الحرب، يتأمل أشجارها الميتة وشقوقها وآثار القذائف التي شوّهت ملامحها.
تختلط رائحة التراب بالبارود، لكنه يرفض اليأس، متمسكاً بالأمل بأن تبقى الأرض خضراء، فالفأس في يده لا تعرف الاستسلام رغم الخراب.
عاد المزارع محمد العلوش (52 عاماً) أخيراً بعد سقوط نظام الأسد، إلى منزله في بلدة جرجناز جنوبي إدلب، فوجد أشجار الزيتون التي يملكها مقطوعة ومحروقة بالكامل، وعن ذلك يقول: "القطع لا يجب أن يكون نهاية الأرض، بل اختبار لصبرنا وإرادتنا في إحيائها، وإعادة التأهيل لا تحتاج إلى معجزة، بل إلى إرادة وكثير من الصبر، فلتكُن هذه المرحلة بداية وعي جديد وزراعة حياة”.
ويلفت العلوش في حديث مع TRT عربي إلى أن أشجار الزيتون في إدلب كانت مصدر دخل أساسيّاً لأهلها، كما يستخدم حطبه للتدفئة وتُستخرج منه مواد لصناعة صابون الغار، إضافة إلى كون زيت الزيتون مكوناً أساسيّاً في كل بيت سوري عموماً وإدلبي خصوصاً.
ويُعَدّ القطاع الزراعي مصدر دخل استراتيجيّاً لسكان محافظة إدلب، إلا أن آلاف العائلات خسرت موردها من الزراعة نتيجة ممارسات قوات النظام المخلوع في إدلب وريفها، حيث عمدت قوات النظام إلى اقتلاع الأشجار وإحراقها، لدواعٍ انتقامية، وكذلك لسرقة حطبها وبيعه.
وبعد إسقاط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 بدأ المزارعون في إدلب زراعة أراضيهم المتضررة والاستئناف بعد عودتهم من رحلة النزوح القاسية، لزراعة أشجار التين والزيتون والفستق الحلبي التي اقتُلعَت أو أُحرِقَت، فيما تعمل مديرية الزراعة في إدلب على دعم جهود المزارعين من خلال إحصاء الأضرار، وتقديم بعض مستلزمات الإنتاج الزراعي مثل الغراس والسماد وغيرهما.
تدمير ممنهج
كان المزارع عبد الرزاق العبود (60 عاماً، من مدينة خان شيخون) يعتمد على موسم الفستق الحلبي في أرضه مصدراً وحيداً للدخل، وبعد عودته لم يجد أي أثر للأشجار، التي أكد أنها اقتُلعت من جذورها، ولم يعُد أمامه سوى العمل من جديد. يقول: "نزحت منذ عام 2018 إلى مدينة إدلب، وبعد التحرير تَحقَّق حلم العودة إلى مدينتي، المدينة التي لم أكن أتخيل أنني سأتمكن من العودة إليها. فوجئت حين رأيتها؛ لم نتركها هكذا، كأنني في صحراء لا طائر فيها ولا شجر ولا بشر، وكأن تعب 40 سنة في الأرض ذهب هباءً منثوراً… لكن سنعيد بناءها، وسنعيش فيها مع أبنائنا”.
يشير العبود في حديث مع TRT عربي إلى أنه اشترى شتلات الفستق الحلبي من جديد، وبدأ بغرسها في أرضه، ولكن الجفاف الذي حلّ بالأراضي نتيجة قلّة الأمطار يدفعه إلى الاعتماد على الصهاريج في الري، رغم ارتفاع أسعارها.
ويطالب العبود الجهات الحكومية بتقديم الدعم والاهتمام المطلوب للمزارعين من أسمدة ومبيدات ومياه للري، لأن أغلبهم يعاني ظروفاً اقتصادية قاسية تدهورت خلال سنوات النزوح الماضية، فلم يكُن أمامهم خيار سوى اقتراض المال من الآخرين لتأمين احتياجات أراضيهم وإصلاح منازلهم المهدَّمة.
طوق نجاة
من جهته، تَحدَّث المهندس الزراعي محمود العدل (45 عاماً ) من مدينة إدلب، مع TRT عربي عن الزراعة قائلاً: "في بلد أنهكته الحرب، وتآمر عليه الجفاف وتقلّبات المناخ، عاد المزارعون إلى مناطقهم وقد خسروا كل ما لديهم خلال سنوات النزوح، فوجدوا الزراعة من جديد طوق النجاة الوحيد، فأصبحت كل غرسة شاهدة على أن البقاء ليس حكراً على الأقوياء بالسلاح، بل هي حق للمثابرين على حفظ الحياة، ولو وسط الأنقاض”.
ويؤكد العدل أن الزراعة كانت مصدر الدخل لمئات الآلاف من أهالي محافظة إدلب وريفها، سواء الشجرية والبعلية، فهي مصدر رزقهم وخيرهم، يحرثونها ويفلحونها ويستثمرون خيراتها في كل موسم، كما يمنح وجود الأرض مالكيها شعوراً بالأمان، إذ تمثل الحلّ الذي يخفّف كربهم في أوقات الأزمات الاقتصادية، وتشكّل سنداً دائماً أمام تقلبات الحياة، لكن الحقول تحولت خلال سنوات الحرب إلى خرائب، وما كان نظاماً بيئيّاً زراعيّاً متكاملاً صار مشتَّتاً بين أملاك مهجورة، ومخلفات حرب، وغلاء في أسعار المياه والآلات والبذور”.
يضيف: "الواقع الذي واجهه العائدون فاق توقعاتهم، وإمكانياتهم الاقتصادية وقدراتهم المالية، ما أدى إلى عزوف مئات المدنيين عن زراعة أراضيهم بسبب ارتفاع أسعار البذور والأسمدة، أو اللجوء إلى بيع أجزاء من الأراضي، خياراً صعباً لتخفيف أعبائهم ومواجهة الأزمة الاقتصادية التي يمرون بها، وسداد الديون التي تراكمت عليهم خلال سنوات النزوح الماضية”.
ويؤكد العدل أن دعم القطاع الزراعي في محافظة إدلب هو ضرورة ملحّة لإعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى المنطقة، وذلك من خلال دعم المزارعين وتأمين مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة ووقود، وتقديم الخدمات الإرشادية وتبادل الخبرات بين الفنيين والمزارعين، وتقديم النصائح، فضلاً عن تأهيل البنية التحتية الزراعية، وإصلاح قنوات الري وتوفير المعدات الزراعية بأسعار معقولة، بهدف زيادة الإنتاج المحلي، وخفض أسعار المواد الأساسية، وتراجع الاعتماد على المساعدات الغذائية، وإعادة إنتاجية المناطق الشمالية المتضررة إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
الحكومة على الخط
وأفاد مدير المكتب الإعلامي لمديرية الزراعة في محافظة إدلب عبد الغني زبيدة لـTRT عربي، بأن مديرية الزراعة بعد سقوط النظام أجرَت على يد الفنيين المختصّين مسحاً أوّليّاً للمناطق المتضررة.
وقد تبيّن وفقاً لزبيدة أن الضرر الحاصل لم يشمل البشر والحجر فقط، بل شمل الشجر بالحرق والقطع والقلع، فقُدّرَت المساحة المتضررة بـ47 ألف هكتار، وكانت نسبة الضرر فيها 40-50%، فبلغ عدد الأشجار المتضررة 1.5 مليون شجرة زيتون، و350 ألف شجرة فستق حلبي، و100 ألف شجرة تين، بالإضافة إلى تأثر الأشجار المتبقية نتيجة نزوح أصحابها، وقلة الخدمة من خلال الإصابة بالحشرات، منها حشرة الكابنودس، وكذلك حفار الساق ذو القرون الطويلة، وحشرة التين الشمعية على أشجار التين.
وقد قُدر مبلغ 75 دولاراً أمريكيّاً للشجرة الواحدة من الزراعة إلى الإنتاج، فبلغ إجمالي الضرر 147مليون دولار أمريكي، مقدراً أنها تحتاج إلى عشرة أعوام تقريباً للإنتاج الكامل، مؤكّداً أن هذا الضرر كله حدث بيد عناصر النظام البائد وعناصر مأجورة لديه، خلال فترة وجودهم ضمن هذه المناطق.
وأشار زبيدة أن أبرز تحديات غياب الغطاء النباتي ضمن هذه المناطق ليس الأشجار المثمرة فحسب، بل فقدان الأشجار الحراجية أيضاً الذي سبّب زيادة حدّة التغيرات المناخية في المنطقة من ارتفاع في درجات الحرارة وقلة الأمطار ومن ثَمّ سيطرة الجفاف.
وأضاف زبيدة: "جميع اللقاءات وورشات العمل التي تنفّذها مديرية الزراعة مع كل الجهات، حكومية كانت أو منظمات عاملة بالقطاع الزراعي تصب في مصلحة دعم القطاع الزراعي ضمن هذه المناطق المتضررة من مشاريع تشجير أو توزيع غراس مجاناً، أو تأمين غراس بسعر مدعوم أو تعويض الإخوة المزارعين المتضررين ولو جزئياً”.
ونوّه بـ”إطلاق حملات تشجير في الحراج، كما تعمل المديرية على تسليط الضوء على واقع هذه المناطق عبر كل أشكال التواصل الاجتماعي وفي كل المناسبات والاجتماعات واللقاءات، لأن إعادة المنطقة إلى سابق عهدها مكلفة جداً، وبحاجة إلى تضافر كل الجهود حتى المبادرات المجتمعية للمساهمة في البناء”.
ولفت زبيدة إلى توزيع المديرية 60 ألف غرسة زيتون بأسعار رمزية، و10 آلاف غرسة فستق حلبي بأسعار رمزية، و4300 غرسة تفاح مجاناً، وسوف توزّع وزارة الزراعة 200 ألف غرسة زيتون مجاناً.