انهيار الرواية الإسرائيلية.. عندما تصبح الجريمة أكبر من قدرة الدعاية على إخفائها
تواجه إسرائيل أزمة شرعية عميقة بعد حرب غزة، إذ لم يعد التلاعب بالصورة أو اتهام المتطرفين كافياً لإخفاء مسؤولية الدولة والمجتمع عن الإبادة، فيما تفشل الدعاية والحرب المعلوماتية في مواجهة الحقائق الموثقة.
في قلب النقاش الدائر حول صورة إسرائيل بعد حرب غزة تبرز مفارقة يصعب إغفالها: الدولة التي لطالما قدّمت نفسها بوصفها "ضحية مهدَّدة" تجد نفسها اليوم أمام أزمة عميقة في شرعيتها الأخلاقية والسياسية، أزمة لا يمكن تعليقها على شماعة أشخاص أو حكومة بعينها، مهما حاولت المؤسسة الحاكمة الإيحاء بذلك.
فالمقاربة الأكثر رواجاً داخل الأوساط الإسرائيلية في محاولة احتواء التدهور غير المسبوق في صورتها ترتكز على فصل الجريمة عن الدولة ونقلها إلى أفراد اليمين المتشدد؛ حملة تصوّر بن غفير وسموتريتش وغيرهما باعتبارهم أصل المأساة.
لكن هذه المقاربة، في جوهرها، ليست سوى جزء من التنافس الانتخابي الداخلي، حيث يحاول بعض الساسة طرح أنفسهم كبديل "منقذ" يعيد إلى إسرائيل ما تعتبره صورتها الطبيعية أمام العالم. ومع ذلك تُكذّب البيانات هذا الادعاء: فاستطلاعات الرأي تشير إلى أنّ أكثر من 80% من الإسرائيليين أيّدوا الحرب على غزة، واستمر التأييد واسعاً لخيارات بالغة التطرف تجاه سكان القطاع.
وحتى التراجع النسبي في التأييد لم يكن بدافع الرفض الأخلاقي للقتل الجماعي، بل نتيجة الكلفة المادية وتعثر تحقيق الأهداف المعلنة.
هذا يعني أن تصريحات الوزراء المتطرفين، مهما بدت صادمة-من دعوات لقطع الغذاء عن غزة إلى التلويح باستخدام السلاح النووي أو التهجير الجماعي-لم تكن انحرافاً عن المزاج العام، بل امتداداً لمنظومة سياسية ومجتمعية متقبّلة لهذه النزعات.
وحتى عندما يحاول بعض القادة العسكريين السابقين، مثل موشيه يعلون، حصر المشكلة في نتنياهو وائتلافه، فهم يقدّمون قراءة مريحة للذات الإسرائيلية أكثر من كونها تفسيراً موضوعياً للمشهد.
ما لا تريد إسرائيل الاعتراف به علناً هو أن الأزمة التي تواجهها اليوم ليست أزمة علاقات عامة، بل أزمة شرعية. ومع ذلك تتعامل قيادة الاحتلال مع تدهور صورتها وكأنه خلل يمكن إصلاحه بأدوات دعائية وتقنية.
تصريحات نتنياهو الأخيرة، التي أقرّ فيها بالعزلة المتزايدة والدعوة إلى تعزيز الاكتفاء الذاتي، تعكس فهماً ضمنياً بأنّ "الفجوة الأخلاقية" باتت تهديداً استراتيجياً.
" فشل الهسبراه "
تتقاطع معظم المؤسسات في دولة الاحتلال حول تقييم واحد: فشل مشروع "الهسبراه"، الذراع التقليدية للدبلوماسية العامة. ولهذا اتجهت الدولة إلى تصعيد ما تسميه "حرب المعلومات"، بدءاً من إنشاء غرف عمليات إعلامية تعمل بالذكاء الصناعي للرد السريع على أي انتقاد، وصولاً إلى تخصيص 150 مليون دولار للدبلوماسية العامة، وهي ميزانية وُصفت إسرائيلياً بأنها "غير كافية" قياساً بحجم الضرر.
لكن المشكلة ليست في حجم الإنفاق، بل في طبيعة الأزمة: فالصورة التي تضررت لا يمكن ترميمها بتكتيكات سريعة، ولا برحلات شبابية تنظمها الحكومة، ولا بمنشورات مؤثرين على "إنستغرام". فالمستوى الاستراتيجي -حيث تتكدس الأدلة الميدانية وتقارير المنظمات الحقوقية- لا ينفع معه خطاب ترويجي أو تغطية رقمية محسّنة.
ومنذ السابع من أكتوبر، أُنتج أكثر من 56 فيلماً إسرائيلياً موجهة للجمهور الغربي بهدف تبرير الحرب والتشكيك في المسار القانوني الدولي. هذا التوسع المفاجئ في إنتاج المحتوى لم يكن تعبيراً عن "إبداع ثقافي"، بقدر ما كان محاولة لتعويض الانهيار الخطابي الرسمي، عبر ضخ الأموال في شركات علاقات عامة تسعى لإعادة صياغة إدراك الجمهور العالمي.
ولذلك تعاقدت إسرائيل مع شركات كبرى -من بينها "كلوك تاور إكس"- لإغراق الإنترنت بسرديات مصمّمة لتحسين ترتيب الرواية الإسرائيلية في محركات البحث والتأثير على الجيل زد، من خلال توجيه الأطر الذهنية لا الحقائق ذاتها.
في السياق نفسه ظهر مشروع “إستر”، الذي يدفع آلاف الدولارات لمؤثري وسائل التواصل لنشر محتوى مؤيد لإسرائيل. لكن المفارقة أن لقاء نتنياهو بهم أثار موجة انتقادات أخلاقية واسعة، ونتج عنه تراجع في شعبية بعض المؤثرين أنفسهم.
ورغم كل ذلك، يبقى العامل الأكثر تأثيراً في انهيار صورة إسرائيل هو ما يصدر عن المؤسسات القانونية والحقوقية الدولية. فإسرائيل أدركت أن القرارات والإجراءات التي اتخذتها أو تدرس اتخاذها محكمة العدل الدولية والمحاكم الجنائية تشكّل تهديداً يتجاوز "الخطاب"، لأنها قد تفتح الباب أمام خطوات عملية من دول وهيئات.
ولهذا صعّدت إسرائيل اتهاماتها لهذه الجهات بمعاداة السامية، وشنّت حملة لنزع الشرعية عن القضاة وتقويض عملهم. وفي الوقت نفسه استخدمت نفوذها لدى الولايات المتحدة لعرقلة المسارات القانونية أو تعطيل أثرها.
تواجه إسرائيل اليوم أزمة لا يمكن احتواؤها بحيلة تواصلية ولا بإدارة صورة. فمحاولة فصل الجريمة عن الدولة قد تنجح تكتيكياً في الداخل، لكنها لا تقنع جمهوراً دولياً شاهد -لحظة بلحظة- وقائع الحرب ومساراتها ونتائجها الإنسانية الكارثية. ورغم ما تملكه من أدوات تأثير، يبدو أن المعركة التي تخوضها إسرائيل ليست مع النقد الخارجي، بل مع حقيقة باتت أوضح من أن تُوارى: صورتها لم تتضرر لأنها فشلت في رواية قصتها، بل لأنها نجحت في تنفيذ ما لا يمكن تبريره.
جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كتّابها، ولا تعبِّر بالضرورة عن TRT عربي.