سميرة محمد، سيدة فلسطينية بلغت الخمسين من عمرها، تبدأ رحلتها اليومية منذ السابعة والنصف صباحاً، بحثاً عن "ربطة خبز"، ساعات طويلة تقضيها قبل الحصول على ربطة خبز بوزن كيلوغرامين.
وتضم الربطة الواحدة من وزن كيلوغرامين ما مقداره 23 إلى 24 رغيفاً متوسط الحجم من الخبز، ما يعني أن كل فرد من عائلة محمد البالغ عددها 20 فرداً سيحظى برغيف واحد يُقسم على وجبتي الإفطار والسحور ليوم واحد فقط.
ويضطر فلسطينيو غزة إلى الوقوف في هذه الطوابير أمام المخابز القليلة العاملة في القطاع والمدعومة من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة التي يدعمها بالوقود والدقيق، للحصول على كمية قليلة من الخبز.
ويشتري الفلسطينيون ربطة الخبز تلك من هذه المخابز بسعر رمزي يصل إلى شيكلين و3 شواكل (الدولار يعادل 3.64 شيكل) في نقاط التوزيع، بما يشكل ما نسبته 25 إلى 30% من سعرها الحقيقي.
وقال الخبير الاقتصادي الفلسطيني محمد أبو جياب، إن أزمة الخبز في قطاع غزة لم تعد تتعلق فقط بوفرة الدقيق، إنما بغياب وسائل إنتاج وتصنيع الخبز.
وأضاف: "المواطن لا يمتلك الغاز الذي يمكّنه من صناعة الخبز، وكذلك المخابز الأسرية أو البلدية توقف معظمها بسبب إغلاق المعابر".
وأوضح أن بعض العائلات ورغم توفر كميات محدودة لديها من الدقيق فإنها تعجز عن خبزها بسبب عدم توفر الغاز أو الحطب أو الكهرباء.
وأشار إلى أنه خلال الفترة التي امتدت منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار وحتى إغلاق المعابر، كان الفلسطينيون يخبزون خبزهم بأنفسهم، لكن مع الأزمة الجديدة توجهوا إلى الوقوف في طوابير أمام المخابز.
انتظار طويل
يختزل مشهد طوابير الخبز في غزة عمق المأساة التي يمر بها قطاع غزة وسكانه، فلكل شخص حكاية ولكل شخص رحلته الخاصة في البحث والسعي للحصول على ربطة الخبز، سعياً لتكون حاضرة على طاولة الإفطار والسحور.
بعينين غائرتين ويدين مجعدتين، تلوّح المسنّة فاطمة أبو شعر، ذات الأعوام الثمانين، مستنكرةً الحصار الخانق الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع، قائلةً بأسى: "لا ماء، لا كهرباء، لا طعام كما لدى الآخرين، حتى النوم بات بلا راحة”.
وعلى مقربة منها، تجلس امرأة فلسطينية من ذوي الإعاقة على كرسيها المتحرك، تحدّق في الطابور الممتد أمامها، تنتظر بصبر منهك حصتها من الخبز، الذي بالكاد يكفيها ليوم واحد. تهمس بصوت متهدج: "المعاناة طالت كل شيء... لا خبز، لا ماء، لا كهرباء”.
أما محمد غنيم، فيقف لساعات في طابورٍ طويل أمام أحد مخابز خان يونس، يتنفس بأسى قبل أن يقول: "هنا، لا شيء متاحاً... كل شيء أصبح خارج متناول أيدينا." ويضيف مستفيضاً: "إغلاق المعابر حرمنا من الطحين وغاز الطهي والمواد الغذائية، فارتفعت الأسعار بجنون، كأن الجوع وحده لا يكفينا".
رائد أبو معتز، الفلسطيني الذي يكافح يومياً لتوفير قوت عائلته، يقف عاجزاً أمام الواقع القاسي، ويقول بغصّة: "كل يوم يزداد الحصار قسوةً، والأسعار تحلّق كطيرٍ جائع، تلتهم قدرتنا على تأمين حاجياتنا الأساسية".
ويتابع بأسى: "للمرة الأولى، يمرّ رمضان علينا بهذه القسوة... جوعٌ، وحصارٌ، وظلامٌ لا ينقشع".
وفي 3 مارس/آذار الجاري، صرّح المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحفي، بأن إغلاق الاحتلال الإسرائيلي المعابر المؤدية إلى غزة أعاق دخول البضائع، مما تسبب في ارتفاع أسعار المواد الغذائية بأكثر من 100 ضعف، ليغرق سكان القطاع في معاناة تتفاقم يوماً بعد يوم، حيث يقترب شبح المجاعة أكثر فأكثر.
وأكد الخبير الاقتصادي أبو جياب أن المخابز المدعومة من "الأغذية العالمي" باتت ملجأ فلسطينيي غزة الوحيد للحصول على الخبز.
وتابع: "تسعيرة ربطة الخبز تصل إلى شيكلين وتُباع في نقاط التوزيع بـ3 شواكل، وهذه القيمة تشكل ما نسبته 25 إلى 30% من السعر الحقيقي لربطة الخبز".
ولفت إلى أن المبلغ الذي يتقاضاه المخبز يغطي جزءاً من مصاريفه التشغيلية.
وأرجع حالة الاكتظاظ أمام المخابز إلى تكلفة الخبز الأقل مقارنةً بصناعة الخبز في المنزل في ظل ارتفاع أسعار الدقيق منذ إغلاق المعابر، إذ يصل الكيس وزن 25 كيلوغراماً إلى 100 شيكل، صعوداً من 30 إلى 40 شيكلاً.
إلى جانب ذلك فإن الفلسطينيين يفضلون الاحتفاظ بما تبقى لديهم من دقيق خشية حدوث مجاعة قوية في الأسابيع القليلة القادمة فيجدون حينها ما يسدون به رمقهم، وفق قولهم.
وحذر أبو جياب من أزمة جوع حقيقية خلال الأسابيع القادمة في حال استمر إغلاق إسرائيل المعابر.
وخلال أشهر الإبادة، عانى الفلسطينيون من مجاعة جراء القيود المشددة التي فرضتها إسرائيل على دخول المساعدات، ما دفعهم إلى تناول بدائل، مثل أعلاف الحيوانات والحشائش، وتقليص الوجبات اليومية وكميتها.
وبدعمٍ أمريكي، ارتكبت إسرائيل بين 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 و19 يناير/كانون الثاني 2025، إبادة جماعية في غزة خلَّفت أكثر من 160 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود.


















