مع انعدام السيولة… السودانيون يلجؤون إلى المقايضة والدَّين
في ظل الانهيار شبه الكامل للنظام المصرفي بعد أكثر من عامين من الحرب، باتت المقايضة والدَّين الوسيلتين الأساسيتين لتأمين الاحتياجات اليومية في السودان، حيث يضطر السكان إلى العودة إلى أبسط أشكال التبادل للحصول على الغذاء والوقود.
وفي مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، الخاضعة لحصار قوات الدعم السريع منذ أبريل/نيسان 2023، يقول الموظف الحكومي علي: "لم أحمل ورقة نقدية منذ أكثر من تسعة أشهر”.
ويشير إلى أنه اضطر في إحدى المرات إلى مقايضة محراث وكرسي بثلاثة جوَالات من الذرَة الرفيعة، وهي من الحبوب الأساسية في أجزاء واسعة من إفريقيا.
وتحوّلت الملابس والأجهزة المنزلية في المدينة، كما في مناطق أخرى، إلى "عملة" بديلة، يُستبدل بها مقابل بضعة كيلوغرامات من الدقيق أو الأرز، أو لترات قليلة من الوقود للمركبات والمولدات. ومع غياب النقد وانقطاع الاتصالات عن معظم المناطق، توسّع اعتماد الأهالي على هذا الشكل البدائي من التبادل.
المتطوع المحلي الصادق عيسى أوضح أن سائقي الدراجات النارية والركشات يتقاضون الزيت والصابون بدلاً من الأجرة النقدية، مضيفاً أن بعض العائلات يعرض الذرة أو الدقيق أو السكر في مقابل خدمات مثل صيانة المركبات.
وتعود جذور الأزمة المالية إلى الأسابيع الأولى من الحرب، حين أُحرق مقر البنك المركزي في الخرطوم-المتصل بشبكة سويفت الدولية- قبل أن تستولي عليه قوات الدعم السريع لمدة تقارب العامين.
وبعد إغلاق البنوك ونهب محتوياتها وإفراغ الخزائن، انهارت قيمة العملة المحلية، إذ قفز سعر اليورو من 450 جنيهاً سودانياً قبل الحرب إلى 3,500 جنيه في السوق السوداء.
المعاملات الرقمية
قبل اندلاع الحرب، كان السودان يقترب من تحوّل اقتصادي مهم، مع بدء رفع العقوبات المفروضة عليه منذ عام 1997 على خلفية اتهامات بدعم جماعات إسلامية، وهو ما فتح الباب تدريجياً أمام إعادة إدماج البلاد في النظام المالي العالمي.
وبحسب البنك الدولي، لم يكن أكثر من 15% من السودانيين يمتلكون حسابات مصرفية في ذلك الوقت، غير أن المعاملات الرقمية، خصوصاً عبر تطبيق Bankak التابع لبنك الخرطوم، كانت تنتشر بسرعة في المناطق الحضرية.
ويقول ويليام كوك، الخبير في مجموعة التشاور لمساعدة الفقراء (CGAP) في واشنطن، إن القطاع المالي في السودان كان "على وَشْك تحوّل كبير نحو سوق أكثر انفتاحاً، على غرار تجارب كينيا وتنزانيا وغانا"، قبل اندلاع الصراع في عام 2023، مضيفاً أن الحرب وقفت جانباً كبيراً من هذا التقدم.
وفي أم درمان، التي استعاد الجيش السوداني السيطرة عليها في الربيع الماضي، يقول البقال دفّاع الله إبراهيم إنّ "حمْل النقود بات أمراً محفوفاً بالمخاطر".
أما بالنسبة إلى المقيمين في المدن التي يسيطر عليها الجيش، أو القادرين على الاتصال الآمن بالإنترنت، فيظل تطبيق Bankak بمثابة شريان حياة يتيح تلقي الرواتب والمساعدات من الخارج والأموال التي توزعها البرامج الإنسانية.
مخاطر الاحتيال
يقول التاجر عبد الرحمن إنه يعتمد على نظام يقوم على الثقة لتمديد خطوط ائتمان لزبائنه، موضحاً: "أطلب منهم الدفع عندما يعود تطبيق Bankak للعمل، وأسجل ديونهم في دفتر خاص”.
ومع تعطل شبكات الاتصالات المحلية في عدد من المناطق، انتشرت هوائيات ستارلينك التابعة لشركة إيلون ماسك، بعد دخولها البلاد بطرق التهريب، حيث كان أصحابها يؤجّرون خدمة الاتصال بالإنترنت بالساعة.
وكان جزء كبير من هذه الأجهزة تحت سيطرة قوات الدعم السريع، قبل أن تُصدر السلطات العسكرية قراراً بحظر استخدامها وبيعها في ديسمبر/كانون الأول 2024.
ويؤكد الموظف يوسف أحمد أن قوات الدعم السريع، عندما كانت تسيطر على الخرطوم، "كانت تفرض عمولة تصل إلى 25% مقابل توفير السيولة النقدية عند التحويل عبر تطبيق Bankak”.
وتتطلب المعاملات الرقمية امتلاك حساب مصرفي وجواز سفر وهاتف، وهي شروط لا تتوفر لكثير من السكان، خصوصاً في المناطق الريفية.
ونتيجة لذلك، يلجأ كثيرون إلى الاعتماد على الجيران أو المعارف لتلقي التحويلات المالية نيابة عنهم، بالاستناد إلى شبكات اجتماعية محلية قوية، لكن من دون أي ضمانات في حال اختفاء الأموال أو إساءة استخدامها.
وللحد من هذه المخاطر، سمح بنك الخرطوم في ديسمبر/كانون الأول الماضي بفتح الحسابات عن بُعد، واستخدام وثائق الهوية المنتهية الصلاحية، غير أن إدخال السلطات الموالية للجيش عملات ورقية جديدة في المناطق الخاضعة لسيطرتها أدى إلى زيادة تفكك النظام النقدي.
وبذلك بات السودان فعلياً منقسماً مالياً بين المناطق الشمالية والشرقية والوسطى الخاضعة للجيش، والمناطق الغربية والجنوبية التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.