"تحت راية الطوفان".. ملامح من عالَم رجل الأنفاق محمد حمد زكي
ما يلي هو محاولة لتقديم عالم محمد، عالم متشابك يبدأ من أسرة مكوّنة من عشرة أفراد، ويمرّ عبر مجتمع عائلي قوي وقاسٍ، وبلدة حدودية ، وجهاز عسكري ودعوي نشِط، ومسجد عامر بالحياة، ولا ينتهي عند مجتمع طلبة العلم في غزة ودار القرآن الكريم والسنة.
أول مرة رأيت فيها الشهيد محمد حمد زكي مؤلف كتاب "تحت راية الطوفان" كانت في مجلس علم بمعهد شرعي يشرف عليه الشيخ سلمان الداية في غزة، لم تجمعنا يومها إلا أحاديث عابرة وقصيرة سرعان ما توارت في الذاكرة، خاصة بعد أن تركتُ الدراسة مبكراً في المعهد الذي التحقتُ به رفقة ثلّة من خيرة أبناء القطاع، استُشهِد أكثرهم لاحقاً. من بين هؤلاء كان ابن بيت لاهيا الشهيد علّام المصري، رحمه الله، كما كان معنا شقيق الشهيد محمد، ورفيقه وشريك أسراره عبد الرحمن حمد.
تجدد اللقاء مع عبد الرحمن عند معبر رفح، خلال محاولات سفره المتكررة من قطاع غزة، ثم توثّقت معرفتنا أكثر في تركيا، حيث أنهى درجة الدكتوراه وعمل في "هيئة علماء فلسطين".
وخلال قراءتي لكتاب الشهيد "تحت راية الطوفان.. خندق خباب"، لم يبخل عليّ عبد الرحمن بالجواب عن الأسئلة والملاحظات التي أثارها الكتاب، ثم جمعتني به جلسة عامة امتدت أكثر من ثلاث ساعات، تلاها لقاء خاص وعدد من المحادثات. كما استفدت في هذا النص من الحديث مع عدد من أصدقاء الشهيد في غزة وخارجها، جزء كبير منهم فضل عدم ذكر اسمه في النص.
حين بدأتُ قراءة الكتاب أردتُ مقاربته بعقلٍ بارد محايد يسعى إلى تتبّع أحوال هؤلاء الرجال، لكني أدركت سريعًا أن هذا الكتاب لا يُقرأ بالعقل وحده، بل بالقلب أيضاً.
وليس في ذلك ما يضير البحث الجاد؛ فأنا على قناعة بأن مقاربة المجتمعات والبشر بعقلية باردة تقود في كثير من الأحيان إلى نتائج مضلِّلة، فالعواطف، أو ما يخالج النفوس من مشاعر، عنصرٌ أساسي في فهم سلوك الأفراد والجماعات، سياسيًا واجتماعيًا، بل وفي فهم ما سيقبلون به وما سيرفضونه لاحقاً.
في العادة تقوم العلاقة بين القارئ والكتاب على تَفاعُلٍ يجعل اليد العليا للقارئ؛ يسأل، يعلّق، يحاكم النص ويشكّك إن أراد. غير أنك مع كتاب محمد، رحمه الله عليه، تشعر منذ الصفحات الأولى أنك تجلس في أحد مجالسه العلمية؛ تستقيم في جلستك، وينقلب ميزان العلاقة إلى شيخ وتلميذ.
لا أخفي أنني حاولت مراراً تجاوز هذه الهيمنة وهذا الحضور القوي الذي يفرضه الكتاب وكلماته الحادّة الموجَّهة، غايتي من تلك المحاولات كانت فهم ما يدور في نفوس هؤلاء الرجال؛ فحكاياتهم وما مرّوا به لا تزال بعيدة عن التوثيق العام، على الأقل حتى الآن، لأسبابٍ منها الأمني ومنها غياب التدوين المنتظم، فجاء كتاب الشهيد محمد، محاولة جريئة لكسر هذه الحلقة.
ما يلي هو محاولة لتقديم عالَم محمد، عالًم متشابك يبدأ من أسرة مكوّنة من عشرة أفراد، ويمرّ عبر مجتمع عائلي قوي وقاسٍ، وبلدة حدودية في مواجهة عدوّ متربّص، وجهاز عسكري ودعوي نشِط، ومسجد عامر بالحياة، ولا ينتهي عند مجتمع طلبة العلم في غزة ودار القرآن الكريم والسنة.
"الحوانين"
يُعرف سكان بيت حانون بـ"الحوانين"، وهم من سكان المواطنين الذين لم يُهجَّروا عام 1948. وتتميّز البلدة ببنية اجتماعية تقوم على العائلات الممتدة المتنافسة والمتقاتلة في أحيان أخرى، وتأتي عائلة حمد ضمن أكبر العائلات في البلدة بعد المصري والكفارنة.
تميّزت عائلة حمد بحضور مختلف، إذ صعدت عبر التعليم العالي شخصيات سياسية واجتماعية بارزة تولت رئاسة بلدية بيت حانون لسنوات طويلة، وبرز منها أول "حانوني" يشغل منصب وزير في الحكومة الفلسطينية، ورئيس جامعة، وعضو في اللجنة المركزية لحركة فتح.
في كنف هذه العائلة الكبيرة نشأت أسرة زكي حمد والد الشهيد محمد، المكوّنة من عشرة أبناء: ستة ذكور وأربع إناث. درس زكي الفلسفة وعلم الاجتماع في الجامعات المصرية خلال سبعينيات القرن الماضي، في ذروة صعود الصحوة الإسلامية التي تأثر بها وحملها معه إلى بيت حانون، بعد رحلة دراسية كان رفيقه فيها الشيخ صلاح شحادة، أحد مؤسسي كتائب القسام.
أما من جهة الأم، فينتمي أخوال محمد إلى عائلة نعيم، وكانت أم حسام، والدة محمد، شخصية محورية في العائلة، فقد حصلت على المرتبة الأولى في امتحان الثانوية العامة على مستوى شمال غزة، وتميزت بقدرتها الفريدة على الحفظ وتحديداً القرآن الكريم الذي سمعته في جلسة واحدة.
في ظل هذا الجوّ الاجتماعي وُلد محمد في يوليو/تموز 1994، وقد ورث من الحوانين حدّتهم وعنادهم، ونظرتهم إلى الحياة، أما العائلة ومحيطها الاجتماعي فتكفّلا بصقل شخصيته وبناء طباعه، في حين أسهم ذكاء والدته واهتمامها الاستثنائي بالتعليم والتعلّم-إلى جانب الجوّ الأسري المنضبط٠في تعزيز ميله الدائم للمعرفة.
ويصف شقيقه عبد الرحمن هذه الخلاصة قائلاً: "حمادة-كما تناديه العائلة-هو الذي استقرت فيه خبرات الجميع. الوحيد بيننا الذي اختصر الطريق؛ ما كنا نحتاج سنة لإنجازه، كان يتمه في شهر".
القرآن وداره
بدأ محمد خطواته الأولى داخل حركة حماس من مسجد العجمي شرق بيت حانون؛ المسجد ذاته الذي شهد انطلاقة الشيخ صلاح شحادة في مساره الدعوي ثم التنظيمي والعسكري لاحقاً.
ويحظى المسجد في بنية العمل الإسلامي بغزة بمكانة محورية، فهو نقطة الاحتكاك الأولى مع المجتمع، ومساحة الاستقطاب وبوابة التصعيد التنظيمي، ومن خلال لجانه المتعددة ومركز تحفيظ القرآن الكريم تتشكّل الكوادر وتُصقل قدراتها.
ومن حلقات التحفيظ بدأ محمد رحلته، قبل أن يندمج سريعاً في الهيكل التنظيمي، ويتدرّج في العمل الدعوي والإداري حتى أصبح أميراً للمسجد في السابعة والعشرين من عمره، وهو الموقع الذي يعد الوجه التنظيمي الأول للحركة والمسؤول المباشر عن التفاعل مع القضايا الاجتماعية والسياسية.
وفي مسجد العجمي، الذي كان يضم مئات المصلين والعاملين، حافظ محمد على دوره القيادي بالتوازي مع حضوره الدائم في مركز التحفيظ الذي ارتبط به طوال مساره.
هذا المسار المسجدي توازى مع مسار قرآني وعلمي بدأ مبكراً؛ ففي سن العاشرة أتمّ محمد حفظ القرآن الكريم كاملاً، ثم اتجه مبكراً أيضاً إلى طلب العلم الشرعي قبل أن ينتقل إلى كلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية حيث أنهى البكالوريوس والماجستير برسالة حملت عنوان: "القيم الإعلامية في الخطاب القرآني".
وتتلمذ خلال ذلك على نخبة من علماء القطاع، مثل الشيخ سلمان الداية والشيخ رامي الدالي والشيخ بسام الصفدي والشيخ يونس الأسطل والشيخ محمد محمد الأسطل والشيخ الشهيد وجدي سلامة والشيخ زكريا شحادة، ورأى هؤلاء فيه مشروعَ عالمٍ من الجيل الجديد لطلبة العلم في غزة، جيلٍ اتجه إلى مزيد من التخصّص والتراكم الشرعي بعيداً عن الاكتفاء بالعمل الحركي والتنظيمي.
خصّ محمد القرآن بالجزء الأكبر من وقته وجهده؛ فبعد إتمام الحفظ انتقل إلى القراءات وعلومها، وقرأ على عدد من القرّاء في غزة، منهم الشيخ حميد أبو وردة والشيخ رائد المدهون والشيخ بلال عماد والشيخ هاني العلي المجاز عن الشيخ كريم راجح، شيخ قراء الشام، ما جعله من أقوى القرّاء سنداً في القطاع وقبلةً لطالبي الإسناد. لكنه وضع لقبول طلابه شرطين لا يتنازل عنهما: الإتقان التام، والجهاد في سبيل الله.
هذا الانشغال المكثّف بالقرآن حفظاً وتجويداً وخدمةً قاده إلى العمل في دار القرآن الكريم والسنة، إحدى أهم المؤسسات القرآنية في غزة، حيث تولّى إدارة مشروع أكاديمية دار القرآن الكريم والسنة الإلكترونية العالمية، وأشرف على تسجيل المصحف كاملاً.
أما المشروع الأبرز الذي ارتبط باسمه فهو مشروع "صفوة الحفاظ"، الذي كان لمحمد الدور الأكبر في صياغته ثم تحويله إلى واقع. فقد بدأت الفكرة كتحدٍّ شخصي خاضه لسرد القرآن دون خطأ، قبل أن تتّسع لتصبح مشروعاً جماعياً التحق به نحو 1471 حافظاً وحافظة قبل اندلاع الحرب على غزة بشهرين فقط.
بيت حانون وأنفاقها
تُعرَف بيت حانون بكونها منطقة ذات موقع جغرافي معقّد؛ فالبلدة محاصرة من الشرق والشمال بالاحتلال الإسرائيلي، بينما تحيطها في الجنوب أراضٍ زراعية مفتوحة من الحدود شرقاً حتى مدخل البلدة غرباً المعروف محلياً بـ"الكَفّ".
أمّا الجهة الغربية فيمرّ فيها شارع صلاح الدين، الشريان الرئيسي لقطاع غزة، والسيطرة عليه تعني عملياً عزل البلدة تماماً عن باقي المناطق. هذا الواقع جعل من بيت حانون مكاناً يسهل تطويقه وإغلاقه في أي مواجهة عسكرية.
إزاء هذا التحدي، عملت المقاومة على خلق واقع موازٍ تحت الأرض عبر شبكة أنفاق ربطت أحياء البلدة ببعضها، ووصّلتها بالبلدات المجاورة. واستثمرت المقاومة في هذا المشروع إمكانات بشرية ومادية كبيرة.
يُقسَّم هيكل كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس عادة إلى ألوية وكتائب وسرايا وفصائل ومجموعات. وفي لواء الشمال، تتولى السرية والفصيل الذي كان محمد أحد مقاتليه مهمة خط الدفاع الأول عن شرق غرب بيت حانون، في مواجهة الاحتلال المتمركز قرب موقع إيرز، وهو محور أساسي في محاولات جيش الاحتلال الإسرائيلي تطويق البلدة وعزلها.
بدأ محمد مشواره العسكري عام 2011 وهو في السابعة عشرة، وهي سن مبكرة قياساً بالعادة التي تقضي الالتحاق بالكتائب بعد إنهاء الثانوية العامة. وبعد أقل من ثلاث سنوات، خاض تجربته القتالية الأولى في حرب 2014، حين كُلّف مع ثلاثة مقاتلين تنفيذ كمين متقدم. وبالرغم من استشهاد مجموعة سابقة قبل وصولهم، تمكنت المجموعة من تنفيذ عمليات هجومية ضد القوات المتوغلة، وأسفر عن مقتل عدد من جنود الاحتلال.
كان محمد وإخوانه في الفصيل من أوائل الوحدات العسكرية في كتائب القسام ببلدة بيت حانون التي نجحت في الاشتباك مع قوات الاحتلال وإيقاع قتلى في صفوفها، وذلك بعد محاولة القوات المتوغلة في الأطراف الشرقية للبلدة تدمير الأنفاق الهجومية في تلك المنطقة.
أميراً للفصيل
استمرّ محمد في نشاطه العسكري، وترقّى داخل الجهاز حتى تولّى قيادة فصيلٍ ضمن كتيبة بيت حانون، ثم انتقل لاحقاً إلى قيادة فصيل في قوات النخبة التابعة للكتيبة، وهي الوحدات التي أعلنت عنها كتائب القسام للمرة الأولى خلال حرب 2014، قبل أن يشغل منصب نائب قائد سرية.
والعمل أميرَ فصيل مهمة شاقّة تتطلّب قدراً كبيراً من الانضباط والحضور؛ فالفصيل هو الوحدة الميدانية الأكثر أهمية، وعلى قوامه تُبنى كمائن القسام في أوقات الحرب بوصفها ركناً مركزياً في الخطة الدفاعية العامة، كما يشير أحد أصدقائه في حديثه لـ TRT عربي. ويضيف أن فصائل النخبة تُعد جزءاً من تشكيلات هجومية أوسع، وقد خدم الشهيد محمد قائداً في المستويين: الاعتيادي والنخبوي.
ويؤكد أن صعوبة مهمته تتضاعف بحكم طبيعة المنطقة التي ينتشر فيها فصيله، إذ تقع في نطاق حدودي ملاصق لمواقع الاحتلال، ما يجعل المهام اليومية التي يضطلع بها محمد وإخوانه عملياتٍ بالغة الخطورة بطبيعتها.
وتستنزف إمارة الفصيل وقت قائده وجهده، إذ يتعيّن عليه متابعة الواجبات الروتينية في الجهاز العسكري التي نادراً ما يخلو يوم منها، كما يجب أن يبقى قريباً من مقاتليه اجتماعياً ونفسياً وروحياً، وفق ما يؤكده صديقه القديم خليل في حديثه لـ TRT عربي.
ولهذا، وفي ظل مهامه الأخرى في دار القرآن الكريم والسنة وإمارة المسجد وطلب العلم، كان الوقت المتاح لمحمد لنفسه أو حتى لنومه محدوداً للغاية.
"مدرسة الثلاثين يوماً"
في الحرب الحالية، حظيت بلدة بيت حانون بأولوية قصوى لدى قوات الاحتلال، التي وضعت نصب عينيها تدمير البلدة الملاصقة لسديروت، أكبر التجمعات الاستيطانية في غلاف غزة. وبعد عشرين يوماً من القصف التمهيدي ــ نالت بيت حانون الجزء الأكبر منه ــ بدأت القوات البرية بالتقدم عبر محاور متعددة داخل البلدة. وفي نطاق فصيل محمد تحديداً، حاولت القوات تطويق المدينة، ليكون فصيله أول من يوقع قتلى في صفوف جيش الاحتلال داخل بيت حانون.
الدمار الهائل وحجم القوات المتوغلة أدّيا إلى عزل الفصيل عن بقية الكتائب ومحاصرته تحت الأرض. وجد المقاتلون أنفسهم يواجهون غازات القصف التي كانت تتسلل إلى الأنفاق بعد كل ضربة، ويعانون استنزافاً سريعاً في مخزون الماء والغذاء حتى بلغ بهم العطش حدّاً لا يُحتمل.
واستمر هذا الوضع شهراً كاملاً، إلى أن أُعلنت الهدنة الإنسانية الأولى في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وهي المرحلة التي وصفها محمد في كتابه بـ "مدرسة الثلاثين يوماً".
عاد محمد بعدها إلى أهله وأحبّته الذين انقطع عنهم الاتصال لأسابيع وظنّوا أنه رحل. لكن عودته كشفت له واقعاً أشدّ قسوة؛ فعلى الرغم من معرفته بوحشية الاحتلال من موقعه القتالي، فإن الاحتكاك المباشر بالناس ورؤية حجم الدمار جعلاه أكثر وعياً بفداحة الحرب التي يشنّها الاحتلال.
عالم المقاتلين
في صفحات الكتاب، ترافق محمد في عالم المقاتلين: تسمع مخاوفهم وتضرّعهم، نقاشاتهم وانتقاداتهم السياسية، لحظات اهتزازهم ويقينهم، ثم ترافقهم في الاشتباكات ولحظات الشهادة، وفي البحث المضني عن الماء والطعام. مشاعر متداخلة تحكمها طبيعة الأنفاق وساعات الانتظار الطويلة في جوف الأرض.
كما وثّق محمد ورفاقه سلوك جنود الاحتلال عبر المراقبة بالكاميرات وبالعين المجردة: من عشوائية البحث عن الأنفاق وضعف أساليب مكافحتها، إلى الجندي المنهك الذي يدخل منزلاً لتأمينه ثم ينهار تعباً جسدياً وربما نفسياً.
وكان محمد قليلاً ما يغادر الأنفاق متوجهاً إلى مدينة غزة لإنجاز مهام محددة ثم يعود إليها من جديد، في مشهد يعكس مدى تشابك شبكة الأنفاق واتساعها. وفي الحملة الأخيرة الشرسة للاحتلال على شمال غزة، المعروفة بـ "خطة الجنرالات"، بقيت بيت حانون وكتيبتها تقاتلان حتى اللحظة الأخيرة.
ومع الهدنة الثانية في يناير/كانون الثاني 2025، انتقل محمد إلى العمل الإغاثي، فنفّذ مع أخيه أبو سعيد وعدد من الشبان مشاريع إنسانية متعددة، مواصلاً تحدي الاحتلال من خلال تجهيز مركز إيواء لا يبعد سوى خطوات عن مواقع تمركز قواته.
لم تصمد الهدنة طويلاً، فعادت الحرب إلى سيرتها الأولى. وهكذا عاد محمد إلى خطوطه، قبل أن يرتقي في قصف جوي في يوليو/تموز 2025. قبل استشهاده بخمسة أيام، أنهى كتابة مؤلَّفه "تحت راية الطوفان.. خندق خباب"، ووصل الكتاب إلى شقيقه عبد الرحمن قبل استشهاده بثلاثة أيام. وكأن الشهادة تُنبّه صاحبها إلى اقتراب الموعد، فقد سلّم محمد صديقاً له كلمة سرّ تفتح ملفاً في حاسوبه يضم وصيته إلى زوجته وطفليه: زكي وترتيل.
يقول محمد في أحد فصول كتابه: "ما كان للمثلث الأحمر أن يظهر إلا بعد مشوار طويل من إعداد سابق وتدريب ورباط".. وهذا النص محاولة للاقتراب من ذلك العالم الذي عاشه محمد، وعاشه معه آلاف المقاومين قبل ظهور "المثلث الأحمر" وقبل الإبادة. هذه محاولة لتقديم قصص حياتهم قبل أخبار وفاتهم.