59 يوماً من العتمة.. معاناة تسنيم الهمص داخل معتقلات الاحتلال
اختُطفت الممرضة الغزية تسنيم الهمص واحتُجزت 59 يوماً بين التحقيق والتعذيب والعزل، للضغط على والدها الأسير الطبيب مروان الهمص. عاشت ظروفاً قاسية في عسقلان والدامون قبل أن تُفرج عنها، ويبقى قلبها معلّقاً بوالدها خلف القضبان.
لم تكن تسنيم الهمص، ذات الثلاثة والعشرين عاماً، تعرف أن الضوء يمكن أن يكون أمنية، وأن الهواء يتحول إلى حلم مؤجل، ملامحها الهادئة لا تُخبر أن هذه الشابة التي تعمل ممرضة، وتحمل قلباً خُلق ليضمد الجراح، ستمسي هي الجرح ذاته.
ابنة الطبيب الأسير مروان الهمص لم تكن في ذلك الصباح من الثاني من أكتوبر/تشرين الأول تبحث سوى عن طريقها نحو النقطة الطبية في خان يونس جنوب غزة كانت تمضي بخطوات مسؤولة تُشبه المهنة التي اختارتها، قبل أن تتقاطع خطوتها مع مركبة تقل قوة خاصة متعاونة مع الاحتلال، توقفت قربها، انفتح بابها بعنف، وامتدت الأيدي نحوها فاختطفتها في وضح النهار وهددت كل من يقترب منها بالقتل، نُقلت بسرعة شرق خان يونس، ثم سُلّمت لجيش الاحتلال الإسرائيلي الذي اعتقلها فوراً بلا ذنب واضح، سوى أنها ابنة طبيب فلسطيني معتقل.
وحيدة بين الزنازين
نُقلت تسنيم إلى سجن عسقلان، حيث وُضعت عمداً في المكان الذي يحتجز فيه والدها، لا لشيء إلا لخنق الأب من الداخل، والضغط عليه بقلب ابنته، كانت الفتاة الأسيرة الوحيدة بين زنازين مخصصة للرجال، زنزانة صغيرة، متر ونصف فقط، عتمة لا تُفرّق بين الليل والنهار.
يدان مقيدتان إلى الخلف، وعينين مكبلتين، تستعيد تسنيم تلك اللحظات وكأنها لم تخرج منها بعد: "جرى اختطافي واعتقالي دون أي ذنب. وُجهت إليّ تهم لا أعرفها. عشت أياماً قاسية بين الخطف والتحقيق الوحشي والعزل والضغط النفسي اللي كان هدفه ابتزاز والدي”. تضيف: "التحقيق الأول في عسقلان كان سلسلة طويلة من الإهانة والشتائم والتهديد بقتل عائلتها".
بقيت تسنيم هناك 27 يوماً قبل أن تُنقل إلى سجن الدامون في حيفا، بعد أن قضت في آخر أيامها للتحقيق 72 ساعة متواصلة جالسة على كرسي التحقيق، يداها مكبلتان خلفها، وعيناها معصوبتان، ممنوعة من رفع رأسها.
المحققون كانوا يدخلون ويخرجون، يأكلون ويشربون ويدخنون. ثم يعودون بالسؤال ذاته:
"أين المختطفون؟ أين هدار غولدن -الجندي الإسرائيلي الذي أسرته المقاومة الفلسطينية في 2014-؟"، كانت تجيب: "ما باعرف شيء". فيصرخون، ويغادرون، ثم يعودون ليقولوا: "تذكَّرتِ؟" بينما كانت آلام قلبها تتفاقم من الضغط والإرهاق.
تقول لـTRT عربي: "كيف يسألونني عن هدار جولدن وأنا كنت وقتها طفلة عمري 12 سنة؟" لكن جوابها لم يكن يعني شيئاً للمحققين، في نظرهم، كل من في غزة "مخرب" حتى لو كان طفلاً أو امرأة.
لحظة مواجهة الأب
رغم التعذيب والضغط، لم يكن شيء أقسى على قلبها من اللحظة التي وُضعت فيها فجأة داخل غرفة التحقيق أمام والدها في زنزانة عسقلان، دخلت مكبلة اليدين، رأسها للأسفل نزعوا العصبة عن عينيها، فرأت أباها للمرة الأولى منذ اعتقالها: جسد نحيل، ويدان مكبلتان خلف ظهره، ووجه يغطيه التعب يجلس على كرسي التحقيق، حين رفع رأسه ورآها… بكى.
وتقول تسنيم: "أول مرة باشوف والدي يبكي، بكاه حرق قلبي". اقتربت منه، قبّلت رأسه رغم قيود يديها، مسحت دموعه بوجهها، ثم جلست على الأرض وقبّلت قدميه.
هنا، بدأ الجنود بالصراخ أمطروا الغرفة بالتهديد، وواصلوا الضغط عليها كي تسأل والدها عن ملف هدار غولدن. قال لها والدها بصوت مكسور: "أنا ما باعرف يا بنتي… وأنتِ تعرفين”. وفق رواية تسنيم.
وبعد أن فقد محققو سجون الاحتلال الأمل من الضغط على تسنيم ووالدها الطبيب قرروا نقلها إلى سجن الدامون بمدينة حيفا شمال فلسطين، سارت تسنيم في ممرات السجن مكبلة، معصوبة العينين، كانت تصرخ تنادي على والدها: "بابا… سامعني؟ راح ينقلوني على سجن دامون". وجاءها صوت الأب من خلف الزنازين كان آخر ما سمعته منه: "هيني يا تسنيم… الله يسهل عليكِ… توكلي على الله يابا”.
الدامون عذاب آخر
في الدامون، وُضعت تسنيم في غرفة تضم أسيرات "أمنيات"، لتبدأ مرحلة جديدة من التعذيب: حرمان من الحمام، حرمان من الفورة (هي الفسحة اليومية في ساحة السجن، لكنها في الحقيقة مساحة ضيقة محاطة بجدران عالية وأسلاك شائكة، تخضع لرقابة قاسية ومدة محدودة لا تتجاوز ساعات قليلة، وأحياناً نصف ساعة فقط للأسرى المعزولين)، إهانات وشتائم مستمرة، غطاء غير موجود، أدوات نظافة شخصية وصحية معدومة، ماء بارد للاستحمام طوال الشتاء، ضرب، تنكيل.
تصف مشاهد من التنكيل بالأسيرات الفلسطينيات داخل السجون والتي لا تفارقها: "شاهدت أسيرة فلسطينية رش جنود الاحتلال غازاً حارقاً على وجهها وهي مكبلة، تسقط أرضاً فيغمى عليها، فيجبرها الجنود على الوقوف من جديد، أخريات تضرب رؤوسهن بالجدران، وهن يركضن لتجنب الهراوات، أما التفتيش العاري ونزع الحجاب، فكان جزءاً من سياسة الإذلال اليومية".
فيما كشفت تسنيم خلال روايتها عن ظروف اعتقالها عن "المعبار" -المنطقة التي تُنقل عبرها الأسيرات والأسرى الفلسطينيات والفلسطينيون بين السجون، بلا كاميرات، بلا رقابة، مما كان يعطي مساحة من الحرية للجنود لتعذيب الأسرى دون حسيب أو رقيب في هذه المنطقة، فكانت تشاهدهم تسنيم في أثناء تنقُّلها وتتذكر والدها فتنهار.
وتؤكد الأسيرة المحررة أنها طيلة اعتقالها، لم ترَ محامياً، ولم تُبلَّغ بتهمة واضحة، كانت تقول وهي تُضرب أو تُركل من المحققين "فدا أبوي" مما يزيد من قسوة التعذيب، وكأن حب الأب تهمة إضافية.
تذكر أنها في فترة اعتقالها أيضاً لحظة اقتحمت فيها جندية غرفتها، واصطحبتها إلى غرفة على جدرانها صورة لغزة مدمرة. قالت لها الجندية الإسرائيلية: "هذه غزة… خلص، ما في غزة”.
فأجابتها تسنيم: "لا… غزة راح تعمر من جديد”. كان الجواب كافياً ليكون سبباً لضربها بشدة، لدفع رأسها نحو الجدار، لإجبارها على الصمت. لكنها لم تصمت وظلت تكرر: "غزة راح تتعمر من جديد".
ظلت تنتقل بين المحاكم الإسرائيلية دون معرفة مصيرها، حتى جاء يوم لم تتوقعه، في السادسة فجراً، كانت قد أنهت صلاة الفجر حين ناداها سجان، اعتقدت أنه عقاب جديد، ارتدت ثوب صلاة خيطته بنفسها من قماش مهترئ، بخيط صنعته بمسمار من باب الزنزانة، ثم قال لها السجان: "بدك تروّحي على غزة؟" ولم تصدق إلا حين فُكت القيود، وعاد الضوء إلى عينيها لأول مرة منذ 59 يوماً.
حينها كان الشعور متناقضاً بالنسبة إلى فتاة غزية تحررت لكن والدها لا يزال أسيراً في سجون الاحتلال، وقد عاشت التجربة وتعي تماماً ما يتعرض له من تعذيب وانتهاكات كباقي الأسرى والأسيرات، تنفست الهواء كأنها تضع العالم كله في رئتيها.
لا تزال فرحة الخروج من السجون الإسرائيلية منقوصة لتسنيم وعائلتها. خرج جسدها، لكن قلبها بقي معلقاً خلف قضبان سجن عسقلان، عند والدها الطبيب مروان الهمص.