العيون التركية.. شراكة استخباراتية ناشئة تمتد من سهول آسيا الوسطى إلى الأناضول
تناول تقرير صادر عن أكاديمية الاستخبارات التركية التعاون الأمني المتنامي بين أجهزة الاستخبارات في الدول الناطقة بالتركية، مسلطاً الضوء على أبرز الفرص والتحديات التي تواجه هذا المسار.
جاء التقرير تحت عنوان «تبادل المعلومات الاستخباراتية في العالم التركي: الفرص الاستراتيجية للأمن المشترك»، من إعداد الباحث محمد كوشاك، إذ أكد أن تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول التركية أصبح خلال العقود الثلاثة الماضية أحد أعمدة التعاون الاستراتيجي ومتعدد الأبعاد الذي يربط هذه الدول.
وأشار التقرير إلى أن العوامل الرئيسية لتعزيز هذا التعاون تعود إلى تحولات واضحة في سياسات الدول الأعضاء، إذ منحت تركيا العالم التركي أولوية استراتيجية ضمن رؤيتها للسياسة الخارجية النشطة ومتعددة الأطراف، فيما جعلت أذربيجان من العالم التركي محوراً رئيسياً لسياستها الخارجية عقب انتصارها في حرب قره باغ عام 2020.
أما كازاخستان وقرغيزستان، فقد انتهجتا سياسة موازنة علاقاتهما مع القوى الكبرى عبر محور العالم التركي، في إطار سعيهما إلى تحقيق استقلالية القرار السياسي والأمني، فيما دخلت أوزبكستان، منذ تولي الرئيس شوكت ميرضيائيف، الحكم، مرحلة جديدة من الانخراط الفاعل والمستمر في أنشطة منظمة الدول التركية (TDT)، لتصبح عنصراً محورياً في منظومة الأمن الإقليمي التركي.
كما أشار التقرير إلى أن هذا التعاون لم يعد مقتصراً على تبادل المعلومات فحسب، بل تطور ليشمل بناء القدرات المشتركة والتدريب المتبادل ووضع معايير موحدة لحماية البيانات الحساسة، الأمر الذي يعزز من تماسك المنظومة الأمنية التركية الناشئة ويمنحها دوراً متزايداً في محيطها الإقليمي والدولي.
السرية والثقة في التعاون الاستخباري
تُجمع الخبرات الدولية على أن التعاون الاستخباراتي لا يقوم على النيات الحسنة وحدها، بل يتطلب أطراً عملية ومنظَّمة توازن بين السرية والثقة، والانفتاح والرقابة.
في هذا السياق، تصنّف الدراسة الصادرة عن أكاديمية الاستخبارات التركية النماذج العالمية للتعاون الاستخباراتي في ثلاث آليات رئيسية تمكّن من تقليص المخاطر وضمان فاعلية تبادل المعلومات بين الدول.
أولاً: نموذج الثقة المتبادلة العالية
يُعدّ تحالف "العيون الخمس" (Five Eyes) -الذي يضم الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا- النموذج الأوضح لهذا النوع من التعاون. فالعلاقات التاريخية والثقافية المتينة بين هذه الدول، إلى جانب تقارب رؤاها الأمنية، أوجدت مستوى استثنائياً من الانفتاح والثقة في تبادل المعلومات.
في هذا الإطار، تتبادل أجهزة الاستخبارات الأعضاء البيانات الأولية غير المعالجة مباشرةً، في نموذج يعكس درجة نادرة من الثقة المتبادلة لا تكاد تتوافر في أي تحالف استخباراتي آخر، إذ يُبنى التعاون على أساس من الشفافية العملياتية والالتزام المتبادل بأمن المعلومات.
ثانياً: النموذج المؤسسي القائم على الرقابة
يمثل قسم الدمج الهجين التابع لمركز الاستخبارات والموقف الأوروبي (INTCEN) نموذجاً متقدماً للتعاون القائم على الرقابة المؤسسية والمعايير الموحدة داخل الاتحاد الأوروبي.
يهدف هذا النموذج إلى ضمان سلامة البيانات وحماية مصادرها من خلال فرض قيود صارمة على إعادة مشاركة المعلومات، إضافةً إلى وجود هيئات رقابية مستقلة تعمل بإشراف مباشر من المجلس الأوروبي. كما يجري اعتماد قوالب موحدة للتقارير لضمان الاتساق وتجنب التباين في أسلوب تبادل المعلومات بين الدول الأعضاء.
مع ذلك، يواجه هذا النظام تحدياً مزمناً يتمثل في تحقيق التوازن بين الشفافية والأمن، إذ تظل طبيعة العمل الاستخباراتي قائمة على مبدأ السرية المطلقة، ما يجعل مطلب الشفافية الكاملة محدود التطبيق داخل الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً: النموذج الهرمي
يبرز التعاون بين الولايات المتحدة واليابان في مجال الاستخبارات الإشارية (SIGINT) بوصفه نموذجاً مختلفاً يعتمد على الهيمنة الهرمية. فالولايات المتحدة، التي تدير أكثر من مئة منشأة استخباراتية على الأراضي اليابانية، تتحكم في المعايير التقنية، وأولويات التشغيل، والإطار العملياتي العام، فيما يقتصر دور اليابان على مستوى محدود من المشاركة، أقرب إلى "الطرف الثالث" في المنظومة.
ويشمل الدور الياباني تبادل بيانات منخفضة المستوى مثل معلومات تحديد الاتجاهات في نطاقات HF/VHF، دون الوصول إلى المواد التشفيرية الحساسة أو البنى التقنية المتقدمة، ما يعكس طبيعة غير متكافئة للعلاقة الاستخباراتية بين الطرفين.
أنماط هجينة ومتداخلة
تشير الدراسة إلى أن هذه النماذج الثلاثة نادراً ما تظهر بصورتها الصافية في الواقع العملي، إذ تتداخل وتتكيف تبعاً لمستوى الثقة السياسي وموازين القوى بين الأطراف. فعندما تتراجع الثقة، تميل الدول إلى تشديد الأطر المؤسسية أو فرض إشراف هرمي مباشر لضمان ضبط عملية تبادل المعلومات.
ويُقدَّم نموذج رابطة الدول المستقلة (BDT) مثالاً بارزاً لهذا التداخل، حيث يجمع بين الثقة المؤسسية الموروثة من الحقبة السوفييتية والهيمنة الروسية القائمة على التفوق التقني والاستخباراتي، ما يجعله نظاماً هجيناً يجمع بين خصائص النموذجين المؤسسي والهرمي في آنٍ واحد.
تعميق التعاون الاستخباراتي بين الدول التركية
أشار التقرير إلى أن العلاقات بين تركيا والجمهوريات التركية المستقلة بعد الحرب الباردة، تطورت بسرعة على أسس الروابط التاريخية واللغوية والثقافية المشتركة، لتتحول مع مرور الوقت إلى إطار مؤسسي من التعاون السياسي والاقتصادي والأمني.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي، أصبحت هذه العلاقات أكثر تنظيماً، وبرزت كإطار للتضامن الأمني الإقليمي في ظل التحولات الجيوسياسية في أوراسيا.
كما أوضح التقرير أن القمة الأولى لرؤساء الدول الناطقة بالتركية، التي استضافتها أنقرة عام 1992 بمشاركة أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان، مثّلت نقطة البداية لبناء تعاون استراتيجي سمح لأنقرة بتعزيز حضورها في آسيا الوسطى، وأدى في الوقت ذاته دوراً موازناً للنفوذين الإيراني والروسي في المنطقة.
وجرى إرساء الأساس المؤسسي للتعاون الاستخباراتي بين الدول التركية في 20 مايو/أيار 1998 من خلال بروتوكول مؤتمر أجهزة الاستخبارات للدول الناطقة بالتركية الذي وُقّع بين أذربيجان وكازاخستان وقرغيزستان وتركيا وتركمانستان.
ومنذ ذلك التاريخ، تعقد الدول الأعضاء اجتماعات سنوية بالتناوب لمناقشة ملفات مكافحة الإرهاب والتطرف والجريمة المنظمة، بالإضافة إلى أمن الممرات التجارية وخطوط الطاقة. وأشار التقرير إلى أن هذه الاجتماعات تحظى بدعم مباشر من القيادات السياسية في الدول المشاركة، ما منحها بعداً استراتيجياً متزايداً.
في هذا الإطار، لفت التقرير إلى أن لقاء باكو عام 2019، الذي استضاف فيه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف، رؤساء أجهزة الاستخبارات، مثّل تحولاً مؤسسياً محورياً تُوج بتأسيس الأمانة الدائمة لمؤتمر أجهزة الاستخبارات التابعة لمجلس الدول التركية في أنقرة.
كما أشار التقرير إلى أن تصريحات الرئيس القرغيزي صدر جباروف، عام 2022، التي أكد فيها أن “التفاعل الوثيق يعزز الأمن”، جاءت لتعبّر عن اتساع الإطار الدبلوماسي والاستخباراتي لهذا التعاون. وبيّن أن العمل الاستخباراتي لم يعد مقتصراً على مستوى القيادات، بل شمل أيضاً تنسيقاً مباشراً بين الإدارات والأقسام الفنية في الأجهزة المختلفة.
وأظهر التعاون الاستخباراتي بين الدول الأعضاء نتائج ميدانية ملموسة، خصوصاً في مكافحة التنظيمات الإرهابية. فمنذ عام 2016، نفَّذ جهاز الاستخبارات التركي (MIT)، بالتعاون مع أجهزة الاستخبارات في كازاخستان وقرغيزستان وأذربيجان وأوزبكستان، عمليات نوعية ضد تنظيم فتح الله غولن الإرهابي في آسيا الوسطى.
وأشار التقرير كذلك إلى أن التعاون التركي-الأذربيجاني أسهم في كشف خلايا جديدة لتنظيم داعش الإرهابي داخل أذربيجان، فيما بيّنت الأنشطة المشتركة مع كازاخستان تقدماً ملحوظاً في مجال تبادل المعلومات المتعلقة بمكافحة الإرهاب والتطرف العابر للحدود.
أطر قانونية وبنية مؤسسية مشتركة
ترافقت الإنجازات الميدانية مع تطور مؤسسي وتشريعي متزامن، عزّز الإطار القانوني للتعاون الأمني بين الدول التركية.
ففي 5 أغسطس/آب 2022، جرى توقيع بروتوكول حماية المعلومات السرية المتبادلة بين تركيا وكازاخستان، الذي دخل حيز التنفيذ في اليوم ذاته، ونص على تبادل المعلومات الاستخباراتية والعسكرية والتقييمات الفنية في إطار قانوني يضمن السرية المتبادلة.
كما أشار التقرير إلى أن الاتفاقية الموقَّعة بين أذربيجان وكازاخستان نصَّت على حظر نقل أي معلومة إلى طرف ثالث دون موافقة خطية مسبقة، مما جعل مبدأ “عدم إعادة المشاركة” قاعدة قانونية ملزمة للطرفين.
وتمثل هذه الخطوات تحولاً نحو بناء بنية تحتية مشتركة ومعايير موحدة للتعاون الاستخباراتي، بما يعزز التكامل الاستراتيجي طويل المدى ويؤسس لمرحلة جديدة من الأمن التشاركي المستدام بين دول العالم التركي.