(Reuters)
تابعنا

لم تكن حرارة الصيف وحدها التي ضربت العاصمة الباكستانية إسلام آباد في تلك الليلة من شهر يوليو/ تموز، فلم تكد تمر 24 ساعة على إغلاق صناديق الانتخابات حتى خرج أنصار لاعب الكريكيت السابق والمرشح حينها للانتخابات عمران خان للاحتفال بفوزه رغم عدم ظهور النتائج الرسمية بعد، والتي تأخرت عن المعتاد.

وينضم الرجل سريعاً إلى الاحتفالات معلناً نفسه رئيساً جديداً لوزراء باكستان في خطاب وصف فيه الانتخابات بأنها "الأكثر شفافية" رداً على منافسيه الذين ادّعوا حدوث "تزوير سافر" وتدخل من الجيش لصالح خان، المرشح الذي تنبأت وسائل الإعلام المحلية قبل الانتخابات بتقدم حزبه "تحريك وإنصاف".

لم يكن خطاب خان مجرد خطاب انتصار فحسب، ولكنه كان بمثابة تدشين لنهجه القادم في الحكم خلفاً لرئيس الوزراء السابق نواز شريف المتهم بالفساد بعد حملة قادها عمران بنفسه ضده، ليخرج واثقاً بنفسه معلناً بدء عهد مكافحة الفساد والفقر في البلاد.

لكن تطلعات عمران سريعاً ما اصطدمت بمعضلة السياسة الخارجية الباكستانية؛ حيث يواجه خان ضغطاً خارجياً أميركياً على إثر خلافات متصاعدة مع واشنطن، وفي نفس الوقت آياديَ صينية مفتوحة للتعاون الاقتصادي، بينما يريد الخصمان/ السعودية وإيران اجتذابه، وهنا يجد خان نفسه راقصاً بمضرب الكريكيت على التناقضات، بين أوضاع اقتصادية متردية، والحاجة لمساعدات خارجية لا توقع باكستان في أزمة مع تحالفاتها القديمة.

ورث خان شبكات علاقات خارجية في أوج تعقيدها، تتربع العلاقات مع الولايات المتحدة على رأس مشكلاتها التي يتوجب على الرجل التعامل معها بأسرع ما يمكن، حيث الفتور المشوب بالغضب من جانب الطرفين، فلا إسلام آباد ترى وعود واشنطن الاقتصادية السابقة تتحقق في ظل أعباء متزايدة، ولا واشنطن عادت ترى إسلام آباد تؤدي دوراً إيجابياً كحليف في معركتها بأفغانستان، وعلى ذلك لجأت واشنطن إلى سلاح العقوبات التأديبية لإعادة باكستان الغاضبة إلى الطريق القديم.

لم تنتظر إسلام آباد طويلاً حتى بدأت البحث عن منافذ أخرى خارجية لإنقاذها قبل فوات الأوان، خاصة مع اتساع معدلات الفقر وتآكل الطبقة المتوسطة، الأمر الذي كان ينذر بكارثة محققة، اضطر على إثرها الجيش إلى استبدال رئيس الوزراء السابق نواز الشريف، بعمران خان الوجه المقبول شعبياً لدى هذه الطبقة بصفته صاحب برنامج إصلاحي، ربما يخفف الضغط عن الجيش في الأوساط الشعبية.

يأتي خان مُمهَّداً له الطريق، ببرنامجه الذي يؤكد على تصفير المشاكل مع الجيران سريعاً بالتفاهم مع الجيش للتفرغ للمعضلة الداخلية، لكنه يصطدم في ذات الوقت بمشكلة التصادم الإقليمي بين السعودية الحليفة المرجوة في الإنقاذ الاقتصادي، وبين الجارة طهران من جانب آخر، ليضطر خان أن يتعامل مع موازنة من نوع جديد، لعدم خسارة فرص الرياض المتاحة، وفي نفس الوقت عدم الحيد عن برنامجه الإصلاحي مع الجيران، وخاصة الجارة طهران التي تربطه بها علاقات أمنية واقتصادية إستراتيجية.

وبجانب التخاذل الأميركي في إنقاذ باكستان، ومحيطها الإقليمي المشتعل بين السعودية وإيران، تتسلل الصين فاتحة أذرعها لإسلام آباد بقروض إنقاذية ميسرة أُعلن عن بعضها، ودُس البعض الآخر في الخزينة الباكستانية بصمت، ضمن وعود استثمارية مباشرة وغير مباشرة، من خلال إنشاء الممر الاقتصادي الإستراتيجي بين البلدين، ولم تكف الصين أيضاً عن محاولة توفير بديل عسكري لباكستان المعتمدة بشكل كبير على واشنطن لملء الفراغ الذي تركته بعقوباتها العسكرية على إسلام آباد، لتجد باكستان خان نفسها في خضم تناقضات دولية وإقليمية صعبة، سيحاول خان اللعب على أوتارها ذات الجذور القديمة لتخطي أزمة البلاد الاقتصادية التي جاء من أجلها.    

الجذور

تشعر باكستان بالخذلان من حليفها الرئيس الولايات المتحدة الأميركية، حيث يشعر قادتها أن البلاد لم تتلقَّ دعماً كافياً، مقابل ما قدمته على مر سنوات، وتحديداً عقب مساعداتها لواشنطن في ملف "الحرب على الإرهاب".

ويعزو عمر أصلان الأستاذ المساعد في معهد العلوم الأمنية بأكاديمية الشرطة الوطنية التركية في حديث مع TRT عربي بدايات الانزعاج الباكستاني إلى العام 1965 عندما طمحت إسلام آباد أن تقف أميركا إلى جانبها في حربها مع الهند، لكن الولايات المتحدة لم تساعد باكستان رغم وجود "اتفاقية التعاون الدفاعي" الموقَّعة معها عام 1959، والتي ضمنت بموجبها واشنطن استقلال باكستان وسيادتها الإقليمية، ووعدت بتقديم مساعدتها في حال وقوع هجوم أو تهديد شيوعي.

بالنسبة للولايات المتحدة، كانت العلاقة مع باكستان، معروفة بـ "الحليف الأكثر ارتباطاً"، لكنها على أرض الواقع لم تكن سوى علاقة انتفاعية لم تشعر الولايات المتحدة بالحاجة إلى الاستثمار فيها على حساب الهند." يقول أصلان.

استمر تفاؤل باكستان، واستمر التجاهل الأميركي، حتى نأت باكستان تحت وطأة ضغوط الوضع الاقتصادي الداخلي، ولم تجد عونًا كافيًا من واشنطن.


كانت الولايات المتحدة قد استشعرت من سلف خان/ نواز شريف ميلاً نحو الصين، واستبشرت بصعود خان المفاجئ لتغيير الدفة، خاصة بعد أن ظهرت أسباب أخرى للخلاف الأميركي الباكستاني غير الإستراتيجية في أفغانستان. إنه التنين الصيني، الذي دخل باكستان عبر سلاح القروض المتتالية لإنقاذ الاقتصاد الباكستاني، وتعهدات بلغت 62 مليار دولار لمشاريع بنية تحتية.

كان الرد الأميركي سريعاً ومنذ وقت نواز شريف؛ لأنه تسارع في علاقته مع الصين، إذ يعتبر البعض أن ما حدث لشريف وصعود خان السريع، لم تكن اليد الأميركية بعيدة عنه بحال، لأن الولايات المتحدة حاولت تثبيت نفسها كفاعل رئيس في المشهد السياسي الباكستاني، عبر صعود شخص يرفض الاتجاه نحو الصين، لكن واشنطن فوجئت بأن خان سيستمر في الاتجاه نحو الصين تحت الضغط الاقتصادي، بحسب أنس القصاص محلل الشؤون الدولية والإستراتيجية لـ TRT عربي.

"كما أن التوجه الباكستاني نحو الصين لم يكن بهذا الحجم من الإستراتيجية في البداية، وإنما كان في إطار البحث عن حلول سريعة، وفي حال وصوله إلى نقطة إستراتيجية، سيكون ضوءاً أخضر لنظام عالمي جديد".

وهو ما عبر عنه خان بُعيد انتخابه ولم يكن مبشراً لأميركا بالمرة: "سنكون حلفاء فقط في السلام.. لن نكون حلفاء في الحرب.. مات خمسون ألف باكستاني وأُدخل التطرف إلى هذا البلد، ونحن أقل أمناً من أي وقت مضى". معتبراً أن بلاده خسرت قرابة 80 مليار دولار في هذه الحرب (يعني الحرب على الإرهاب)، بينما خسرت الولايات المتحدة نحو 20 ملياراً فقط.

وهنا يستكمل القصاص:  "ليس هناك توازن في الأمر أمام خان؛ إما الصين أو الولايات المتحدة، وسيكون عليه اتخاذ هذا القرار سريعاً، لأن الولايات المتحدة لن تقبل بمحاولة اللعب على الطرفين، بل إن الأزمة الاقتصادية لن تمهل باكستان وقتاً إضافياً كبيراً لتحديد بوصلتها بدقة".

يعتبر البعض أن ما حدث لشريف وصعود خان السريع، لم تكن اليد الأميركية بعيدة عنه بحال

أنس القصاص محلل الشؤون الدولية والاستراتيجية

في الوقت الذي تشعر باكستان فيه بالخديعة التاريخية بشأن الالتزام الأميركي تجاهها، فعندما رأت الولايات المتحدة تهديداً حاداً في الغزو السوفييتي لأفغانستان والنوايا السوفيتية المصاحبة لذلك، سرعان ما دعمت باكستان عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً وسياسياً لاتخاذها قاعدة ضد روسيا، واعتقدت باكستان أن الولايات المتحدة قد تستمر في فعل ذلك لجعل باكستان على قدم المساواة مع الهند.

لقد رأت باكستان لنفسها دوراً محدداً في محيطها، ولم تخفِهِ عن واشنطن. ظهر هذا في إخبار مدير المخابرات الداخلية الباكستانية حينها، اللواء أختار عبد الرحمن، الحضور الأمريكي في اجتماع عام 1984 بما تراه باكستان لنفسها من دور في منطقة جنوب آسيا، وهو تماماً مماثل في وجهة نظره لدور إسرائيل في الشرق الأوسط لتحقيق الاستقرار الإقليمي.

ومع ذلك يتواصل الإحباط الباكستاني من الولايات المتحدة، التي لم تتردد لحظة في ترك باكستان وأفغانستان بمفردهما في مواجهة مشاكلهما الناتجة عن الحرب بمجرد التوصل إلى اتفاق مع السوفييت، وللإمعان في الإهانة تذكرت إدارة بوش بطريقة ما فجأة عام 1990 اعتقادها أن باكستان تحاول تطوير أسلحة نووية، وبالتالي قررت فرض عقوبات على حليفتها.

لم تكن محددات السياسة الأميركية تجاه باكستان واضحة طوال الوقت في الإدارات الأميركية المتعاقبة، فبينما كان الديمقراطيون في الولايات المتحدة مؤيدين للهنود، كان الجمهوريون يُعتبرون مؤيدين لباكستان خلال الحرب الباردة.

بعبارة أخرى، كانت قيادة الولايات المتحدة أكثر اهتماماً بالنسبة للعلاقات مع باكستان خلال الحرب الباردة، ولكن بعد الحرب كانت السياسة الأميركية مؤيدة للهند، والتي لها علاقة بالرؤية والبنية العسكرية والاقتصادية لإحداث التوازن أمام الصين بنفس أهمية ما تقدمه الهند إلى الولايات المتحدة ثقافياً.

ومنذ هجمات 11 سبتمبر، عادت الولايات المتحدة تنظر إلى باكستان عبر أفغانستان ومصالحها هناك كعادتها الأثيرة، حيث تحاول الإدارات الأميركية المتعاقبة أن تُلقي باللائمة الكاملة لفشلها في أفغانستان على باكستان وتصويرها كعامل زعزعة للاستقرار دون فهم المخاوف أو المأزق الباكستاني. في حين لا تريد واشنطن أن تكون متورطة في باكستان، وتتجاهل كشمير كمسألة تحتاج إلى حل على طول الطريق، ولكنها تطلب من باكستان في ذات الوقت اتخاذ كل الخطوات اللازمة لمساعدة السياسات الأميركية الضعيفة والمضللة في أفغانستان. لذلك يُرجح أن تواصل أفغانستان إلقاء ظلال كبيرة على العلاقات الباكستانية الأميركية في السنوات القادمة، خاصة في ظل تعنت اقتصادي أميركي جديد مع باكستان، يفتح جرح الإحباط التاريخي.

قد يبدو الأمر أصعب في ظل الإدارة الأميركية الحالية التي دخلت في صراع تجاري مع الصين عبر تبني سياسات تجارية متشددة طالت الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بشكل خاص.

فبعد أن كانت واشنطن تغض الطرف عن دخول الصين إلى السوق الباكستاني في عهد الرئيس السابق أوباما. تبنت إدارة ترمب الحالية سياسات أكثر حسماً تجاه الصين حول عدد من القضايا الاقتصادية، ومن ضمنها تواجدها في باكستان، حيث تعترض حالياً على مشروع "حزام واحد - طريق واحد" على سبيل المثال.

ولعل أبرز ما يعبر عن الانزعاج الأميركي تعليق وزير الخارجية مايك بومبيو في الآونة الأخيرة عن حاجة إسلام آباد إلى مساعدة من صندوق النقد الدولي، قائلاً بأن إدارة ترامب لن تسمح بإنفاق أموال دافعي الضرائب الأمريكيين على باكستان "لإنقاذ الاستثمارات الصينية السيئة والصفقات الاقتصادية غير الواضحة بين باكستان والصين".

الاقتصاد الصعب

لقد نُكئ الجرح الباكستاني - الأميركي مجدداً قبل صعود خان إلى السلطة وسط مأزق اقتصادي فوق حقل ألغام، تحتاج فيه باكستان بشدة إلى مساعدة خارجية، في ظل اضطراب مع الحليف التقليدي القديم الولايات المتحدة، بعدما اتخذت واشنطن قراراً بإلغاء مساعدات بقيمة 300 مليون دولار لإسلام آباد، واحدة من أكبر مساعدات واشنطن العسكرية الخارجية بعد إسرائيل ومصر، تم تعليقها بسبب مزاعم أميركية تتحدث عن عدم اتخاذ إسلام آباد "إجراءات حاسمة" تدعم الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، بالإضافة إلى إلغاء تدريبات عسكرية مشتركة بين الجانبين.

تحركت إسلام آباد في ظل هذا الوضع للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي لإنقاذ اقتصادها من خلال طلب حزمة إنقاذ مالي تصل قيمتها إلى 12 مليار دولار من الصندوق، وهنا ظهرت واشنطن مجدداً لتستكمل عقاب باكستان عندما حذرت من مغبة استخدام هذه الأموال في سداد قروض صينية.

انحسرت خيارات باكستان سريعاً بين واشنطن وبكين وتوجب عليها الاختيار، فمنذ قرابة شهرين كانت باكستان تخطط للانخراط بالفعل في برنامج لصندوق النقد الدولي، لو لم تحصل على ”الإنقاذ المالي الصيني غير المعلن“. يقول أسعد عمر، الذي أصبح وزير المالية الجديد في وزارة خان.

أبلغ عمر وكالة رويترز في تصريحات واضحة أنه حتى يستقر الاقتصاد الباكستاني سريعاً ”فإنه سيدرس كل الخيارات المتاحة، بما في ذلك صندوق النقد الدولي“. مضيفاً أن اللجوء إلى الصين للحصول على حزمة إنقاذ هو ”أحد الخيارات“. وقال ”القرار يجب أن يُتخذ سريعاً جداً. الوقت المتاح يوشك أن ينفد“.

وجد خان نفسه بين شقي الرحى/ ضغط اقتصادي داخلي وفسيسفاء خارجية شديدة التعقيد، لم يكن الأمر جديداً بحال على شخصية خان، لقد صنع هذا الشاب بكُرة الكريكيت أشياء لم يُسمع عنها من قبل في عالم هذه الرياضة التي فتنت الباكستانيين، فقد كان يُلاعب الكرة كأحجار نرد سحرية، ولكن الصدمة كانت اعترافه بنفسه أن ذلك لم يكن مراقصة طبيعية للكرة تعود إلى مهاراته الاستثنائية فقط، وإنما يرجع هذا إلى "تلاعب" بالكرة باستخدام مواد غريبة على سطحها وضغطات معينة تخدشها ساعدته في ذلك، ومع ذلك اعتبره خان "تلاعباً مشروعاً"، إذ لا يوجد في قوانين الكريكيت ما يمنع اللاعب من تغيير حالة الكرة.

وهنا سيستدعي خان ما تعلمه في الرياضة إلى السياسة، على ضوء الرغبة الصينية الشديدة والتعنت الأميركي، إذ يجد نفسه مجبراً على الإعلان أن الحكومة الباكستانية لديها رغبتها بجعل الممر التجاري الصيني الباكستاني أولوية في نظرتها الاقتصادية، رغم أن خان كان من أشد المنتقدين للممر التجاري الصيني (طريق واحد - حزام واحد) الذي بدأته حكومة نواز شريف عام 2013 ليصل الصين ببحر العرب.


لقد كان تاريخ خان السياسي حافلاً بهذه الرقصات على التناقضات، فهو/ خان -الذي لم يصوت في انتخابات قط في حياته- الذي يقرر فجأة أن يؤسس حزباً سياسياً عام 1996 تحت اسم "باكستان تحريك إنصاف" أو ما يُعرف شعبياً بـ "حركة إنصاف"، وهو نفسه الذي بدا معارضاً للسياسات الغربية في بلاده على عكس المتوقع، ومؤيداً للحوار مع حركة طالبان -النجم الصاعد حينها- في سماء السياسة الباكستانية والأفغانية على حد سواء.

وشيئاً فشيئاً استدعى خان من ذاكرته الرقص مع كرة الكريكيت ومضربها إلى السياسة، فأيّد الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال برفيز مشرف عام 1999، ولكن بقفزة سياسية استعراضية ندد برئاسته قبل عدة أشهر من انتخابات عام 2002 العامة لكسب التأييد الشعبي، لينجح حزبه في دخول البرلمان أخيراً بعد تعثر البدايات.

ويبدو من خلال الوقائع أن خان لعب بطريقته المفضلة مع الجيش الذي عارض سياساته وتحالفاته الخارجية لفترة قبل صعوده السياسي، لكنه على ما يبدو نجح في إقناعهم بأنه رجل المرحلة المناسب خلفاً لشريف الذي ضحى به الجيش مؤخراً.

تلك التوترات والتناقضات دفعت خان لتصويب أولى تصريحاته باتجاه واشنطن، حين قال في حديث لقناة محلية أنّه آن الأوان لأن تجعل الولايات المتحدة من باكستان "صديقاً لا عميلاً"، لأنها بحاجة إلى شريك للسلام للخروج من أفغانستان.

باكستان ترد

تجهزت باكستان سريعاً للرد على الإجراءات الأميركية الأخيرة، عسكرياً عملت الشركة الباكستانية ديفانس تكنولوجيز الدولية (DTI)، التي تعاونت مع الشركات الغربية لسنوات عديدة في مجال الدفاع، على توجيه تعاونها نحو بكين على إثر التباينات الأخيرة مع واشنطن. وعقدت بكين سلسلة من الصفقات الدفاعية مع باكستان في الآونة الأخيرة لكسر شبه الاحتكار الأميركي، بما في ذلك صفقة لبيع أنظمة دفاع جوي مضادة. وعلى إثر هذا بدأت الشركات الصينية أيضاً تقترب من شركة الدفاع الباكستانية "ديفانس تكنولوجيز الدولية (DTI)، التي تعمل كوسيط مع وزارة الدفاع الباكستانية، في حين كانت تحتكر الشركات الأوروبية والأميركية هذا التعاون لسنوات مضت.

لم يَبْدُ الأمر محل اتفاق داخلي؛ فتوجهات باكستانية داخلية متناقضة بدأت تظهر مع الوقت بحسب دورية إنتليجنس أونلاين الاستخباراتية، بعض هذه التوجهات يتزعمها جهاز الاستخبارات الذي سرب لوسائل الإعلام إعلاناً عن وقف التعاون الأمني والاستخباراتي مع واشنطن على خلفية قطع المساعدات العسكرية، لكن وزارة الدفاع كانت ترى أن تتخذ نهجاً أكثر ليونة مع الولايات المتحدة.

يتجدد ظهور الاستخبارات الباكستانية في حلبة الصراع مع واشنطن، بعدما نقلت مصادر مقربة من المخابرات الداخلية (ISI)، إلغاء اجتماعات مشتركة بين المخابرات الباكستانية ووكالة الاستخبارات الأميركية المركزية كانت مقررة في سبتمبر/ أيلول الجاري، وانتقلت الحمى إلى وزير الخارجية الباكستاني الذي ألغى هو الآخر زيارة كان من المفترض أن تقوم بها سكرتيرة وزارة الخارجية الأميركية إلى جنوب شرق آسيا أليس ويلز إلى إسلام آباد.

لا تريد الولايات المتحدة التصريح بما إذا كانت أطراف داخل النظام الباكستاني لا تريد استمرار العلاقة كما كانت من قبل بين واشنطن وإسلام آباد، فحول أسباب الخلاف الحالية يرفض المتحدث باسم السفارة الأميركية "ريتشارد سنلسير" التعليق حول هذه القضية في تصريحه لـ TRT عربي مشيراً إلى تصريح مساعدة وزير الخارجية الأميركية أليس ويلز في 5 يوليو/ تموز حول استمرار الحوار مع باكستان "لتشجيع كل الخطوات المستمرة والحاسمة ضد قيادة طالبان، والتي تشمل اعتقالهم، أو طردهم، أو جلبهم إلى طاولة المفاوضات".

ويأتي هنا سؤال الحاضر ما رد الفعل الأميركي أو بعبارة أخرى، كيف يمكن للولايات المتحدة الاستمرار في معاقبة باكستان؟

يُجيب الباحث عمر أصلان لـ TRTعربي أن ما تستطيع الولايات المتحدة القيام به نظرياً لإلحاق الضرر بالباكستانيين هو حشرهم في الزاوية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً. وعلى ما يبدو فإن الولايات المتحدة قد اتخذت قراراً بالفعل بالسير على الجبهات الأربع.

لم تقم إدارة ترامب بتجميد المساعدات العسكرية فحسب، ولكنها أوقفت أيضاً برامج التدريب العسكرية والتعليمية للضباط الباكستانيين. كما مارست الولايات المتحدة ضغوطاً على دول أخرى لوضع باكستان في "قائمة تمويل الإرهاب العالمي"، والتي إذا تركتها السلطات الباكستانية دون عناية، يمكن أن تحدث تداعيات سلبية على باكستان.

لم تنتهِ الخلافات حول تجديد طلب باكستاني محتمل للحصول على برنامج صندوق النقد الدولي، إلا أن الولايات المتحدة ترغب في استخدام المنظمات الدولية لإيذاء باكستان، على الرغم من أن باكستان قد تجد مصادر بديلة للتدريب العسكري، وهي تشير بالفعل إلى أن الضباط الباكستانيين قد يحصلون بدلاً من ذلك على التدريب والتعليم في روسيا الخصم السابق، إلا أنه ليس من السهل تقليل الاعتماد على الجيش الأميركي.

ترغب بكين في تعميق شراكتها بتلك المنطقة حمايةً لمصالحها الاقتصادية، لذا قامت بتكثيف تواجدها في قضاياها المحورية، وعلى رأسها قضية طالبان، بعدما استقبلت بكين العديد من اللقاءات مع قيادات الحركة، وهو ما تسبب في إزعاج لواشنطن، ألقت باللائمة فيه على باكستان التي فتحت هذا المجال لبكين بحسب الرواية الأميركية.

يظهر ذلك أيضاً في زيارة صينية استمرت ٣ أيام إلى إسلام آباد من خلال وزير الخارجية أتت بعد زيارة وزير الخارجية الأميركي بومبيو الذي تشير التسريبات أن زيارته لم تكن موفقة إلى حد كبير في ظل تعنت من الجيش الباكستاني في التعاطي مع المطالب الأميركية بخصوص أفغانستان وطالبان، بينما أشار المتحدث الإعلامي للسفارة الأميركية في إسلام آباد لـ TRT عربي إلى غير ذلك، مؤكداً أن وزير الخارجية الأميركي بومبيو بعد الزيارة أكد أنه "كان هناك اتفاق واسع النطاق مع وزير الخارجية قريشي، وكذلك مع رئيس الوزراء، على أننا نحتاج إلى البدء في الأمور فعلياً على الأرض، وتحقيق نتائج حتى يمكننا البدء في بناء الثقة بين البلدين".

استمرار الحوار مع باكستان "لتشجيع كل الخطوات المستمرة والحاسمة ضد قيادة طالبان، والتي تشمل اعتقالهم، أو طردهم، أو جلبهم إلى طاولة المفاوضات".

مساعدة وزير الخارجية الأميركية أليس ويلز

لتصبح العلاقات بين الولايات المتحدة والصين عاملاً مهماً في تحديد شكل العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد في الفترة المقبلة. ويبدو أن استمرار العلاقات الباكستانية الصينية بشكل أعمق، يعني بالتبعية أن العلاقات الأميركية الباكستانية ستتوتر، بينما ترى الصين مشروع الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني كمعرض لمشاريعها في المنقطة، وتعلق أهمية خاصة على نجاحه، في حين ترى الولايات المتحدة أن باكستان ستساعد بذلك في رفع القوة الصينية هناك.

هذا بالإضافة إلى أن التواجد الصيني عبر مشروعات طريق الحرير، ليس صورياً كما يصوره البعض، لأنه على سبيل المثال وصل في نفوذه إلى أنه ساهم في إدخال الملياردير توماس كابلان في صناعة التعدين بمساعدة جنرالات محليين، وهو المقرب من جوناثان باول مدير مكتب رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، كما تجري شركات صينية مناقشات مع الحكومة الباكستانية للاستثمار في مشروع Reko Dig للذهب والنحاس، في منطقة بلوشستان الإستراتيجية.

 بكين أم واشنطن

ستعطي الشراكة مع الصين باكستان مزايا فورية على المدى القصير، مثل التخفيف من حدة مشكلة الأعباء الاقتصادية، كما ستعزز السدود والطرق والجسور والأنفاق التي شيدتها الاستثمارات الصينية في باكستان، الكثير من وسائل النقل والاتصال بين مختلف المناطق داخل باكستان، وكذلك مع الجيران.

وإذا كانت المناطق الاقتصادية الصناعية المخطط لها في إطار مشروع "الممر الاقتصادي الصيني - الباكستاني" تتحقق وتجذب "جهات أجنبية غير صديقة للولايات المتحدة وصديقة للصين" كما ذكر المسئولون الصينيون مؤخراً، فإن هذه المناطق قد تساعد في توفير فرص عمل أفضل لتحسين الأداء الاقتصادي.

وقد لا يكون ممكناً في الوقت الحالي تخمين النتائج الاقتصادية طويلة المدى على باكستان في حال توثيق علاقاتها مع الصين، لكنه سيكون من الصعب عليها أن تدير علاقات ممتازة مع كل من الولايات المتحدة والصين في آن واحد، بحسب الباحث عمر أصلان.

لم تعد باكستان مجرد ممر في السياسة التجارية الصينية، بل موضع قدم مستقبلي في الخليج في حال طورت من علاقاتها مع عُمان، كما سيعني التحالف الصيني الباكستاني تشكيلاً جديداً للوضع في أفغانستان المستقر في يد الناتو منذ فترة طويلة، ما قد يترتب عليه دخول قوى كإيران وروسيا على خط التحالفات الجزئية في هذه المنطقة، وهو ما ترفضه واشنطن تماماً.

الأمر الذي قد يؤدي إلى توتر مع الحليف السياسي الخليجي، وتحديداً السعودية التي تعتبر إيران عدواً لدوداً، وفي صراع دامٍ معها في عدد من المناطق في الشرق الأوسط مثل اليمن وسوريا.

بين السعودية وإيران

تحاول الرياض جذب الجيش الباكستاني إلى جوارها في مغامراتها الإقليمية، كما تسعى أيضاً إلى ضم إسلام آباد في حلف ضد طهران خصمها الإقليمي، ومن الجانب الإيراني ترى طهران باكستان امتداداً لأمنها الإقليمي أمام واشنطن صاحبة النفوذ في باكستان وأفغانستان، لذا تحتاجها في الملفات الأمنية الحدودية وعلى رأسها طالبان.

أما على صعيد المصلحة الباكستانية، فأي حزمة إنقاذ مالية مقترحة من السعودية سوف تؤدي إلى حلحلة الوضع الاقتصادي، لكن الخلاف هنا على الكلفة التي ستطلبها الرياض مقابل ذلك، فلا يبدو أن إسلام آباد على استعداد لدخول أي حروب بجانب الرياض بعدما رفض البرلمان الباكستاني طلب المملكة في السابق التدخل في حرب اليمن، فضلاً عن الدخول في صراع مفتوح مع إيران لإرضاء المملكة وواشنطن، فيما تتصور باكستان دورها في هذا الملف توفيقياً بين الطرفين أكثر منه منحازاً، وهنا رفضت السفارة الأميركية في باكستان التعليق على الحضور الإيراني في مشهد السياسة الباكستانية.        

التوجه إلى الرياض ظهر أثناء الخلاف مع واشنطن، وهو ما دفع رئيس قائد الجيش الباكستاني، قمر جاويد باجوا، مؤخراً إلى السفر نحو الرياض لنقل مخاوفه إلى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حول الإستراتيجية الأميركية الجديدة الموالية للهند والتي يدفعها الرئيس الأميركي الحالي ترمب بحسب ما نقلت دورية إنتليجنس أونلاين الاستخباراتية، وذلك بعدما أعلن عزم الجيش الأميركي على الحصول على دعم هندي في عمليات مشتركة بأفغانستان، وهو ما دفع أيضًا خان لاختيار وجهة أولى جولاته الخارجية إلى الخليج وتحديدًا السعودية والإمارات، ولكنه وازن الأمر بوعد بالتوجه إلى طهران أيضاً.

وفي هذا الصدد  يرى الدكتور محمد مكرم بلعاوي رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط في تصريحات لـ TRT عربي بأنه لا يوجد توجهات جديدة لعمران خان نحو إيران، فالرجل معنيّ بإصلاح الوضع الداخلي، وهذا لن يحدث بدون العمل على الملف الاقتصادي وملف الإرهاب وحل مشكلات الجيران، ومن بينهم بالطبع إيران والهند؛ بما يعود إيجابياً على الوضع الداخلي، وهي سياسة يتبناها الجيش الباكستاني بألا يدخل في صراع مباشر مع إيران، لأسباب اقتصادية وأمنية أيضاً حيث تتواجد أقلية شيعية كبيرة، وأي اضطرابات في هذا الصدد ستضر بالملف الاقتصادي الذي يتصدر أولويات خان.

لن يلقي خان بالاً للتحفظات الخليجية على التوجهات مع إيران

الدكتور محمد مكرم بلعاوي رئيس منتدي آسيا والشرق الأوسط

كما يقول البلعاوي لن يلقي خان بالاً للتحفظات الخليجية على التوجهات مع إيران، لأن الجيش يدعم هذه السياسة إلى حد كبير، وقد كانت هناك سابقة حينما طُلب من الجيش الباكستاني التدخل المباشر في حرب اليمن، وتحرك البرلمان ورفض الطلب الخليجي، ما أثار خلافاً معلناً مع الإمارات، وبدرجة أقل في إعلانه مع السعودية.

وقد حصر خان منذ البداية دوره في هذا الملف بمحاولة الإصلاح بين الطرفين، وهو الأمر الذي لن يرضي السعودية، التي ستحاول الضغط على إسلام آباد لأخذ موقف أكثر وضوحاً من طهران، لكن في نفس الوقت المصالح السعودية في باكستان أكبر من ذلك، ولا يعتقد أن هذا قد يصعّد بين الطرفين بصورة غير مسبوقة، وأن المساعدات السعودية خيار باكستاني سيكون مساعداً في الملف الاقتصادي، لكنه لا يعتقد أن تكون مساعدات حاسمة للأزمة.

ومؤخراً هناك رؤية مختلفة لقراءة التحالفات الخارجية لباكستان تقول إن ثمة تحالفاً قديماً بين باكستان والصين شكله العداء للهند، فعلى المستوى الإستراتيجي يشكل هذا التحالف "فكي كماشة" تحيط بالهند من الجانبين.

كما يوجد تعاون عسكري قديم في مجال التسليح مع الصين، وعليه قام تحالف إستراتيجي متعدياً الاقتصاد، ولكن في نفس التوقيت فإن التحالف الأميركي الباكستاني غير منفك بطبيعة الحال نظراً إلى التعاون في أفغانستان، وإذا كان ثمة خلافات داخل الجيش الباكستاني حول هذه القضايا فمن المستبعد أن تخرج للعلن، استمراراً لسياسة الاستفادة من جميع الأطراف.

ويضيف في هذا الصدد الدكتور بلعاوي لـ TRT عربي، أن الولايات المتحدة لديها مصالح مع باكستان في هذه المنطقة، وتمثل إسلام آباد قاعدة انطلاق لواشنطن في ملفي أفغانستان وإيران وكذلك منطقة آسيا الوسطى، لذا ليس هناك خيار سوى التعامل مع باكستان، وأي تخلٍّ كامل عن سياسة التعامل مع الأمر الواقع، سيعني انزلاقاً باكستانياً كاملاً نحو الصين، لذا لن تحكم العلاقة مسألة الثقة بقدر ما ستحكمها المصالح المشتركة.

وفيما يخص خان ومقارنته بنواز شريف يقول بلعاوي، إن ما حدث مع شريف كان بسبب محاولته تعظيم دوره في ملف العلاقات الخارجية، في ظل وضع داخلي متأزم كاد يحول باكستان إلى "دولة فاشلة"، والجيش في هذا الصدد كان معنياً بتغيير الدماء لإعادة ضبط الأمور خارجياً، ولعلاج الأزمة الاقتصادية، وفي ذات الوقت ليس هناك ضمانة لئلا يكرر خان نفس السيناريو، علماً بأنه تردد في الأوساط الإعلامية الباكستانية المعارضة دور الجيش في تصعيد حالة عمران خان.

في نهاية الأمر سيكون على باكستان خان أن تحسم خيارها الداخلي سريعاً بين كافة هذه المتناقضات، بين الخليج كمنقذ محتمل وإيران كجارة إستراتيجية، ومن جانب آخر الموازنة بين الاستثمارات الصينية، والإستراتيجية الأميركية في منطقة جنوب آسيا التي تعتبر باكستان جزءاً أصيلاً منها، في ظل تجاذبات داخلية لا يبدو أنها محل اتفاق نهائي إلى الآن، فالتواصل مع الصين كما تقول المعارضة لم يكن كما ينبغي مؤخراً، وهو ما قد ينبئ بوجود تردد على مستوى السياسات الداخلية، لكن الإحباط من الولايات المتحدة ما زال مسيطراً، وثمة قناعة تتكون أن المنح والمعونات الخارجية الاقتصادية لن تصنع اقتصاداً قوياً مستداماً، لكن ربما ستكون الاستثمارات الصينية قاعدة انطلاق لإنقاذ الاقتصاد.

(Others)
(Others)
(Others)
(Others)
TRT عربي
الأكثر تداولاً