مجموعة من العاملين في تدوير الركام الناجم عن القصف الإسرائيلي لمنازل المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة.  (TRT Arabi)
تابعنا

غزة - لم يكن للفلسطينيين في قطاع غزة أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام أكوام الركام والدمار المتكدسة بين معظم شوارع المدينة المحاصرة، عقب كل جولة تصعيد تقصف بها طائرات الاحتلال الاسرائيلي عدداً من البنايات فتسويها أرضاً، لكنهم برزوا في ابتكار مشاريع بإمكانات متواضعة تقوم على ترميمها وإحيائها من جديد.

ولا ينتظر "الغزاويون" قرارات الاحتلال الإسرائيلي الذي يفرض عليهم حصاره منذ أكثر من 12 عاماً، ويمنع دخول الحديد، والإسمنت، والطوب بدعوى أنها سلع مزدوجة الاستخدام، حتى يبنوا منازلهم المدمرة؛ فامتهنوا "تدوير الركام" وصناعة طوبهم محلياً في صراع للمحافظة على البقاء وتوفير مصدر رزق للعاطلين عن العمل بأسلوب صديق للبيئة.

على أنقاض عمارة القمر، وهي إحدى البنايات التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي في جولة قصفه الأخيرة على قطاع غزة في الخامس من مايو الماضي، يقف العامل محمد الحويحي 31 عاماً، محني الظهر تحت أشعة الشمس الحارقة، والعرق يتصبب من جبينه، قابضاً بين يديه على مطرقة هدم الحجارة لتفتيت أكوامها إلى جزيئات صغيرة ونقلها عبر الشاحنات للكسارات تجهيزاً لطحنها وإنتاج الخرسانة.

مورد قليل ولكن عيش كريم

قال متحدثاً لـ TRT عربي عن دافع عمله في هذه المهنة قائلاً: " إن الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها القطاع المحاصر دفعتني لامتهان ترميم الركام منذ عام 2008 حيث بداية الحرب الأولى على القطاع، ولا يوجد لي بديل آخر، رغم أنه شاق، لكن هناك التزامات يجب عليّ توفيرها لأبنائي الصغار الذين ينتظرون عودتي إليهم كل يوم بفارغ الصبر لشراء احتياجاتهم".

وتابع، أنه يعمل في هذه المهنة المؤقتة التي تبدو خطرة 10 ساعات يومياً مقابل مبلغ زهيد قرابة الـ25 شيكلاً أي ما يقرب من 8 دولارات، وينشط عمله بها في أعقاب القصف الإسرائيلي، حيث يتوافر الركام، مفتقداً لأدوات السلامة أو التأمين.

ويشارك الحويحي مهنته 20 عاملاً مقسمين إلى فئتين: الأولى تعمل على جمع الركام وتكسيره، والفئة الثانية تُعدّل أعمدة الحديد بواسطة آلات متواضعة الإمكانيات لإعادة استخدامها من جديد في البناء.

ووفق إحصائيات صادرة عن جمعية رجال الأعمال بغزة فإن نسب البطالة والفقر بقطاع غزة ارتفعت بشكل قياسي وغير مسبوق وصلت إلى ما بين 60% و 80% نتيجة دخول فئات جديدة ضمن شريحة الفقراء، كالموظفين وعمال المصانع والشركات التي أغلقت أبوابها، فضلاً عن وجود 175ألف خريج من الجامعات المحلية.

تدوير الركام.. بداية قصة التحدي

وبدت تشكل مهنة تدوير الركام وجهاً من وجوه الاستثمار في قطاع غزة من خلال مناقصات يتقدم لها المقاولون يشترون البنايات المقدمة مقابل مبلغ مالي.

"الحاجة أم الاختراع " هكذا وصف محمد أبو جبة أحد المقاولين المستثمرين في مشاريع إعادة تدوير الركام، ويمتلك معملاً للكسارات شرق غزة وهو يتحدث إلى TRT عربي

وقال أبو جبة: "نعمل كمستثمرين بعد نهاية كل جولة تصعيد للقصف على غزة؛ فلا يُعقل مشاهدة كميات الركام في الشوارع دون اللجوء إلى طرق للتخلص منها. وقد بدأت هذه الفكرة في الحرب الأولى على القطاع، وانتعشت في حرب 2014 ثم عاودت العمل بها نسبياً في هذه السنوات الأخيرة. ولا ننكر أننا من خلال هذه التجربة تحدينا الاحتلال الإسرائيلي، وأردنا أن نثبت له أننا فادرون على إعادة بناء ما يهدمه حتى وإن كان بإمكانيات بدائية".

ويبلغ ثمن الطن الواحد من الركام المباع لشركات الطوب بغزة، حسب أبو جبة، 80 شيكلاً (22 دولاراً) تقريباً في حين أن المستورَد يبلغ سعره 110 شيكلات (31 دولاراً تقريباً)، فيما يبلغ ثمن الكمية نفسها من الحديد المعاد تعديله محليا 1200 شيكل أي 350 دولاراً، بينما المستورَد 2450 شيكلاً أي 700 دولار، وهذا ما يشجع المواطنين للإقبال على شرائه بغر ض البناء نظراً لرخص ثمنه، لا سيما في ظل الفقر الذي يعانون منه، كما أن الحديد والطوب المصنوع من تدوير الركام يصلح لبناء شقة سكنية كاملة.

صعوبات ومخاطر

يواجه ممتهني إعادة ترميم الركام وفق أبو جبة تحديات كثيرة أهمها ضعف الإمكانات، وعدم السماح باستيراد آلات متطورة، وفي حال تعرضت إحدى الآلات للعطب لا يوجد لها قطع بديلة، وهذا ما قد يعرقل العمل لفترة طويلة، ولا يوجد أدوات حماية للعاملين.

ويتبع الاحتلال الإسرائيلي في قصفه للمنازل، وفق مهندسي المتفجرات استراتيجية يعتمد فيها على استخدام صواريخ "تفريغ هواء" تعمل على نسف المنازل بطريقة الحفاظ على هيكلها قائماً، وذلك من خلال استهداف أحد الأعمدة الأساسية التي ترتكز عليها البناية، فتسقط محافظةً على الشكل الهندسي العام لها.

ويُخلّف المبنى ركاماً كبيراً؛ فأصغر عمارة دمّرتها الطائرات الإسرائيلية، تجاوزت خمس طبقات، بينما ركّز الجيش الإسرائيلي في جولته الأخيرة على استهداف المباني المأهولة بالسكان، وهو ما شكل وجود أنقاض بشكل كثيف في معظم شوارع غزة.

وفي تصريح لقناة TRT عربي أثنى محمد العصار الذي يشغل منصب أمين سر اتحاد الصناعات الإنشائية بغزة على تجربة إعادة تدوير الركام شارحاً آلية عملها بأنها "تقوم على تكسير الركام للحصول على "الحصمة" ومن ثمَّ طحن الأخيرة في ماكينات التصنيع في معامل الكسارات الخاصة، مع تزويدها بكميات من الإسمنت لتستعيد صلابتها ومن ثم استخدامها كمادة أوليّة للبناء".

هل من جدوى اقتصادية؟

وأضاف متحدثاً عن واقع جدواها الاقتصادي والصناعي "إن عملية ترميم الركام هي تجربة ابتكارية تحويلية، وتعد من أبرز المحركات الصناعية ذات الجدوى اقتصادياً؛ حيث يبغ عدد تلك الكسارات قرابة 110 موزعة على القطاع وتستوعب 720 عاملاً، يتقاضون أجوراً زهيدة، إلا أن جزءاً منها قد توقف عن العمل بسبب قلة الركام في الفترات الأخيرة".

وتابع أن تدوير الركام يشكل بيئة خصبة للاستثمار، وتوفير مواد خام لمصانع "البلوك" التي تعتمد على الخرسانة المستخرجة منها بنسبة 90 %، كما يستفيد منها العاملون على شاحنات النقل، والعاملون في البناء، وتقلل من تكاليف البناء التي تقع على كاهل المواطن الغزيّ.

وعن جودة المنتج المستخرج من الترميم أشار إلى أنهم أجروا فحوصات أثبت كفاءة المنتج، ولكنه نبه إلى أن هذه المشاريع تعمل بشكل عشوائي وغير مدروس وبحاجة لدعم وخطط استراتيجية، وتبنّي من وزارة الأشغال لتطويرها كتجربة ناجحة تُحتذى دولياً وليس محلياً.

أقسام المشروع

وتنقسم مشاريع تدوير الركام بغزة إلى قسمين؛ قسم يُشرف عليه مقاولون، وآخر تشرف عليه وزارة الأشغال التي تمتلك مصنعين مجهزين بآليات ومعدات حديثة، يعملان على إزالة حطام المؤسسات التابعة للحكومة، واستثمار الكتل الحجرية الناجمة عنه في تعبيد الطرق، ومعالجة معضلة انحسار مياه الشاطئ التي بدت تتآكل بفعل مياه الأمطار، وبناء الميناء البحري غرباً، وهذا وفق ما قاله وكيل وزارة الأشغال بغزة ناجي سرحان.

وبيّن أن مشاريع إعادة تدوير الركام تحتاج لتكاليف كبيرة وفي ظل الحصار يصعب على حكومته تطويرها، بسبب إغلاق المعابر والافتقار إلى المعدات الفنية.

كما أكد أحمد حلس، وهو خبير بيئي بغزة، لـ TRT عربي أن عملية إعادة تدوير الركام جزء من التنمية المستدامة الصديقة للبيئة، والذي بدوره يحمي مواردها من الاستنزاف، لا سيما في ظل تكدس الركام في الطرق والذي يُشكل مصدر إزعاج وتلوث بصري للمواطنين، وقد يذكرهم بالحرب كلما رأوه تحديداً الاطفال. كذلك يعمل على حماية البيئة من القوارض، والحشرات، والتي تعيش بين الهدم.

وشدد على ضرورة فحص مكونات الركام قبل استخدامه أثناء التدوير والتأكد من خلوِّه من الإشعاعات الكيماوية التي يستخدمها الاحتلال للتفجير. وصرح حلس أنهم في سلطة جودة البيئة قدموا طلباً لبرنامج البيئة الدولي للأمم المتحدة لإرسال لجنة تقصي حقائق بيئية لتقييم مخرجات الحرب، وبالفعل تمت الموافقة، إلا أن الاحتلال منع الوفد أن يأتي إلى غزة.

لكنه في ذات الوقت بيّن أن ثمة آثاراً سلبية لإعادة تدوير الركام؛ فمثلاً المناطق القريبة من الكسارات تتعرض للتلوث الناجم عن الغبار بما يحتويه من مواد كيميائية ومواد أخرى، كذلك فإن الغبار يقضي على الحياة الزراعية وذلك بشهادة مزارعين في المناطق الشرقية لقطاع غزة (حيث توجد الكسارات) لاحظوا أن كمية المنتجات الزراعية قلّت مثيلاتها في سنوات ما قبل إنشاء الكسارات.

في النهاية تُلخص مهنة إعادة تدوير الركام حاجة الغزيين المُلحة لبناء مشاريع اقتصادية بعيداً عن الاعتماد على الاحتلال الإسرائيلي في قطاعهم المحاصر، وبأسلوب لا يعد مصدراً لتلوث بيئي ضمن مساحة مدينتهم الجغرافية التي لا تتعدى الـ 365 متراً مربعاً. كما أنها فتحت الباب أمام المتعطلين عن العمل لتوفير مصدر دخل لهم.

طفل في غزة يعمل في إعادة تدوير الركام الناجم عن قصف إسرائيل لمباني المدنيين الفلسطينيين. (TRT Arabi)
صبي فلسطيني يبحث عن ممتلكات أسرته وسط أنقاض مبنى مدمر بالقرب من مبنى  تم تدميره في غارة جوية إسرائيلية في وقت متأخر الاثنين ، في مدينة غزة ، الأربعاء ، 27 مارس ، 2019. (AP Photo / Adel Hana) (AP)
TRT عربي