تابعنا
تبرز أسئلة كثيرة كل عام في سياق مفهوم "حرمة شهر رمضان"، وسلطة الدولة والنظام العام على السلوك الفردي، والدافع من سَنّ بعض الدول العربية قوانين تجرّم الإفطار العلني في شهر رمضان، وانعكاسات ذلك على بنية المجتمع.

"كل الناس تصوم في بلدي، لا يوجد أحد يأكل في الشارع غالباً، كل الناس تصوم، حتى إخواننا المسيحيين لا يأكلون في الشارع احتراماً للآخرين، أما هنا فالأمر مختلف كلياً، الشوارع تمتلئ بالمفطرين، المقاهي والمطاعم مفتوحة، وذلك ما يعطيني استشعاراً أعمق بحقيقة معنى الصيام"، تقول أسماء التي تقضي رمضان هذا العام في تركيا وهي تستذكر أجواء الشهر في بلدها مصر.

في الطرف المقابل أحمد من الأردن، الذي يجد نفسه أكثر اتساقاً مع نفسه وهو لا يصوم بعيداً عن أهله ومحيطه، إذ يُفرض عليه ضمناً وهو في بلده أن يخادع نفسه والآخرين يومياً بالصوم كي لا يكون "شاذاً عن المجموع" بحسب قوله.

وبين هذين المشهدين ومع حلول شهر رمضان، خامس أركان الإسلام والشهر المقدس بالنسبة لمليار مسلم في العالم، تبرز أسئلة كثيرة كل عام، في سياق مفهوم "حرمة شهر رمضان"، وسلطة الدولة والنظام العام على السلوك الفردي، والدافع من سن قوانين تجرّم الإفطار العلني في شهر رمضان، وانعكاس كل ذلك على بنية المجتمع.

الدين: الجهر بالإفطار معصية

يقول أمين عام رابطة العلماء السوريين الدكتور أحمد حوا لـTRT عربي "إن هناك تفصيلاً في قضية التعامل مع "حرمة شهر رمضان"، فالإفطار في نهار رمضان دون عذر معصية، والجهر بذلك الإفطار يعد معصية أخرى، تعود إلى ما يمكن أن نسميه الإخلال بالنظام العام".

ويوضح حوا قائلاً "في كل دولة نظام عام ربما يرجع إلى الدين أو العادات أو التقاليد، وعندنا نظام عام يرجع إلى الدين والأخلاق الفاضلة ويجب احترام النظام العام كما هو، حتى غير المسلمين في بلادنا مطالبون باحترام النظام العام، لكنهم أحرار بما يفعلونه في شهر الصيام في بيوتهم وأماكنهم الخاصة".

يجب احترام النظام العام كما هو، حتى غير المسلمين في بلادنا مطالبون باحترام النظام العام، لكنهم أحرار بما يفعلونه في شهر الصيام في بيوتهم وأماكنهم الخاصة

أحمد حوا - أمين عام رابطة العلماء السوريين

ويلفت إلى أنه قد يكون هناك فنادق ينزل فيها المسافرون سواء كانوا أجانب أو حتى مسلمين، "المسلم المسافر له رخصة أن يفطر، والأجنبي الذي يأتي إلى بلادنا ونزل في فندق له أن يأكل في مكان إقامته في بيته أو الفندق الذي ينزل فيه".

ويؤكد ضرورة مراعاة حرمة هذا الشهر، مفسراً ذلك بقوله "ألا نستخف بهذه العبادة وألا نُشعر الناس كأن شهر الصيام لا يُحترم بين المسلمين، لما يشتمل عليه ذلك من تهوين لمعنى العبادة وتشجيع للعصاة على الفطر والمجاهرة به في رمضان".

وعن استحقاق المسلم المجاهر بالفطر في رمضان للعقوبة يرى الدكتور أحمد حوا أن الحرية الشخصية هنا مصونة في أصل اختيار الدين، فمن دخل في دين فعليه اتباع تعليمات هذا الدين، والصوم من هذه التعليمات، ولو أفطر و لم يجاهر فذلك بينه وبين ربه ولن يفتش أحد عليه بيته، وقد يتظاهر بالصيام، والفارق بينه وبين غيره يعود إلى النية، "كل إنسان أدرى بنفسه هل يصوم صادقاً مخلصاً لله تعالى أو أنه يصوم أو يتظاهر بالصيام لمجرد العادات والتقاليد فهذه مشكلته، ولا يجبره أحد على شيء".

القانون: إخلال بالنظام العام

تجرّم نصوص قوانين العقوبات لبعض الدول العربية الإفطار العلني خلال شهر رمضان بشكل صريح، إذ تفرض عقوبات تصل إلى الحبس والغرامة المالية كما الإبعاد. وتصدر دولٌ أخرى لا تحمل قوانينها نصوصاً صريحة بتجريم الإفطار قراراتٍ إدارية بإغلاق أماكن الطعام والشراب خلال النهار لاحترام الشعور الجمعي أو ما يعرف بالنظام العام.

وبذا فإن السائر في شوارع أغلب الدول العربية خلال شهر رمضان إن لم يكن جلّها، لن يرى شخصاً يأكل أو يشرب وإلا فسيصبح مادة سائغة للنقد والتجريح كما يرى البعض، في حين يرى البعض الآخر أنه مستنكَرٌ ويشذ عن عرف للمجتمع.

ويظهر عند العودة إلى نصوص قوانين عقوبات الدول العربية أن ثمانية دول منها تحمل نصوصها بنوداً صريحة فيما يتعلق بالإفطار العلني، وهي السعودية والكويت والإمارات وقطر والبحرين وعُمان والمغرب والأردن.

وتُظهر الرسوم التالية ما تنص عليه قوانين هذه الدول من عقوبات في حق المجاهر بالإفطار خلال شهر رمضان:

يلاحظ أن هناك تفاوتاً بسيطاً بين القوانين الصادرة من وزارات الداخلية التي تجرّم الإفطار العلني، كما يشترك بعضها في المحددات التي تنص عليها لاستلزام العقوبة في أن يكون صاحبها مسلماً، ومجاهراً بالإفطار في مكان عمومي، دون عذر.

المجتمع: المحافظة على السلم الاجتماعي

تعد الدول العربية مجتمعات محافظة بحكم عوامل دينية واجتماعية، في وقت لا تخضع فيه دستورياً للنظام الإسلامي، الأمر الذي يثير التساؤل حول دافعية القوانين المعاقبة على الإفطار العلني، ومدى التأثير الذي ستخلفه بذلك على بنية المجتمع، فهل تحفظ السمت العام له، أو أن من شأنها تحويله إلى مجتمع عادات؟

يرى الباحث في قضايا المجتمعات المحلية الدكتور ضرار العسال أنه للإجابة على هذه التساؤلات يجب النظر إلى شكل الدول القُطرية التي تتعامل مع السلوك الاجتماعي لمواطنيها ولشكل القوانين التي تسودها، إلى جانب علاقة الدولة مع مواطنيها ومصادر القوة التي تعطي الشرعية للنظام الحاكم.

ويوضح العسال لـTRT عربي "إن الدول العربية في معظمها غير قائمة على شرعية دينية أو مجتمعية، إلا أن الدين بالنسبة لها أحد مصادر اكتساب الشرعية. وعليه، فإن دخولها في حالة تصادم ظاهر مع الدين سيهدد وجودها، وبذا فإن مصلحة النظام هي القاعدة الأساسية لدى الدولة في إخضاع سلوكها للجانب الديني".

يدلّل بذلك العسال على عدم جواز مقارنة الدول العربية التي تصب القوانين في مصلحتها دون مرجعية ثابتة، بتلك الدول ذات الأنظمة الديمقراطية أو ذات المرجعية القانونية الثابتة.

إن أغلب تشريعات الدول العربية وليدة عهد استقلالها، وهي نابعة من مصادر تشريعية مختلفة، لا يهمها الجانب التعبدي أو الديني بقدر ما يهمها المحافظة على السلم المجتمعي

ضرار العسال - باحث في قضايا المجتمعات المحلية

ويضيف أن أغلب تشريعات الدول العربية وليدة عهد استقلالها، وهي نابعة من مصادر تشريعية مختلفة، لا يهمها الجانب التعبدي أو الديني بقدر ما يهمها المحافظة على السلم المجتمعي، لذا فإنها تتبع ما يتفق مع الدين فيما يحقق لها مصلحة وشرعية، كذلك فإنها لن تتردد في اعتماد ما يخالف الدين إن حقق لها ذلك أيضاً.

ويشير الباحث إلى أنّ الدول التي تعتمد على مشرّعيها المستقلين تعمد إلى فرض خيار جديد يحقق لها شرعية تكتسب من خلالها ثقة الناخب مستقبلاً. ويضرب مثالاً على ذلك بالحال في تونس، إذ عمد مجلس نواب الشعب إلى تغيير القوانين لتراعي حرمة شهر رمضان، على عكس ما كان عليه الحال في عهدَي الرئيسين بورقيبة وبن علي.

يختلف الأمر عنه في تركيا، "إذ إن الممارسات الديمقراطية والمرجعية العلمانية هي المعتمدة، إذ إن قوانين البلد تشرّع وفق أسس ثابتة سواء اتفقت أو اختلفت مع معتقدات بعض الناس".

يربط البعض تعامل الدولة مع مفهوم حرمة شهر رمضان بالجانب الاقتصادي للدولة، إلا أن الدكتور العسال ينفي إسقاط ذلك على الدول العربية مستثنياً من ذلك بعض الدول التي تعتمد السياحة كمصدر رئيس للدخل القومي مثل لبنان وتونس –سابقاً- والمغرب، لكنه يؤكد أن هذه الدول أيضاً تنسجم مع العرف الاجتماعي السائد، كونها لا تزال دولاً دون الدول الحرة، كما يصفها.

وبحسب العسال، فإن شهر رمضان في أغلب الدول العربية هو شهر حركة اقتصادية وارتفاع في التعاملات الاقتصادية. ينطبق الأمر هذا على الدول العربية الغنية منها والفقيرة، إذ إن كثيراً من المنشآت الاقتصادية تعدّل من نشاطها التجاري بما يتوافق مع طقوس رمضان لتحقيق ربحية أعلى.

وبين الدين والقانون والمجتمع يبقى الجدل قائماً؛ بين من يعتبر الإفطار العلني في رمضان حرية شخصية للفرد وأمراً بينه وبين خالقه لا وصاية لأحد عليه، ومن يرى للصيام في هذا الشهر الفضيل حرمة وخصوصية وجب احترامها.

عقوبات الإفطار العلني في رمضان في الأردن والمغرب (TRT Arabi)
عقوبات الإفطار العلني في رمضان في قطر والإمارات (TRT Arabi)
عقوبات الإفطار العلني في رمضان في عُمان والبحرين (TRT Arabi)
عقوبات الإفطار العلني في رمضان في الكويت والسعودية (TRT Arabi)
TRT عربي
الأكثر تداولاً