تابعنا
عُرِفت الموسيقى خلال العهد العثماني بكونها فنّاً أنتجه كلّ من السلاطين والوزراء وعامّة الشعب. وقد استطاع السلاطين العثمانيون تأليف مقطوعاتٍ موسيقية رائعة مزجت بين الشرقي والغربي.

عُرف عن المسلمين اهتمامهم بالموسيقى منذ زمنٍ طويل. في الحقيقة، يرجع الأمر ربّما إلى العهد العباسي حينما قام العديد من العلماء والفلاسفة العرب والمسلمين بدراستها والعمل على تطويرها مستندين بدايةً إلى النظرية الإغريقية القديمة، قبل أنْ يظهر فنّ المقامات الذي برعوا وتميّزوا به. ولذلك، لم يكن من الغريب على العثمانيين أنْ يُكملوا ذلك الاهتمام ويعملوا على تطويره وإضفاء لمساتهم الخاصة.

لكنّ المختلف في الدول العثمانية أنّ الموسيقى كانت فنًّا أنتجته الدولة تماماً كما أنتجه عامّة الناس وشعبها، من جميع الأطياف والشرائح، من السلاطين والوزراء والحكّام وحتى عامة الناس والشعب. وما هو جديرٌ بالذكر أيضاً، أنّ الموسيقى لم تكن ترفاً أو فناً ثانوياً عند السلاطين العثمانيين، بل كانت علمًا أساسيًا ينبغي على الدولة الاهتمام به وتطويره.

الموسيقى عند العثمانيين.. من أجل العلاج

على سبيل المثال، اندمجت الموسيقى مبكّراً مع العلاج في الدولة العثمانية التي اهتمت أنْ تتعامل مستشفيات إسطنبول وأماسيا وبورصة وأدرنة وسيفاس مع الموسيقى مثلها مثل أيّ وسيلةِ علاجٍ أخرى. وقد ذكر الرحالة والمدوّن التركي الشهير "أوليا شلبي" في بعض مذكراته أنّ السلطان بايزيد كان قد خصص فرقةً موسيقية تتكون من عازفين ومطربين مهمتها تنظيم 3 جلسات أسبوعية في مستشفيات إسطنبول للمرضى بخاصة النفسيّين فيها، بهدف التخفيف عنهم عن طريق تغيير حالاتهم العاطفية والمزاجية.

كان هذا نتيجةً للإيمان أنّ كلّ مقامٍ من المقامات الموسيقية العثمانية يعمل كمرآة تعكس حالةٌ نفسية ومزاجية محدّدة تختلف عن غيره من المقامات الأخرى. ومن هنا، كان العازفون يعزفون مقامات مختلفة حسب حالة كل مريض، فبعضهم كان يتأثر بمقام الحجاز وآخر بمقام الكرد وغيره بالرست. كذلك فإنّ الآلات نفسها تختلف بتأثيرها على الحالات النفسية، فكان يمكن للناي أنْ يحسّن من بعض الحالات النفسية، ووُجدت حالاتٌ تتأثّر بالقانون وغيرها بالعود وأخرى بالطبل، وهكذا دواليك.

حسب أستاذ الموسيقى التركي سافاش باركتشين، أثبتت الدولة العثمانية بالفعل تميّزها في هذا المجال، قبل أنْ تعرفه أوروبا وتطوّر منه علاجاً مبنياً على أساساتٍ علمية في مستشفياتها وعياداتها. أمّا بدايات أوروبا مع هذا المجال فكانت في القرن الثامن عشر حين كان التواصل الحضاري بين الدولة العثمانية وأوروبا قد بلغ ذروته. أي بعد عقودٍ طويلة من تطوير العثمانيين للعلاج.

سلاطين ألّفوا المقطوعات

أمّا فيما يتعلّق بالسلاطين، فمنهم من شجّع الموسيقى وخصّص لها مساحة للنموّ والتطوّر، ومنهم من وجد نفسه معنياً أكثر بها فدرسها وتعلّمها وألّف فيها، ربّما المثالان الأشهر، حسب باركتشين الذي يدرّس تاريخ الموسيقى التركية في إحدى جامعات إسطنبول، هما السلطان سليم الثالث والسلطان عبد العزيز، اللذين ألّفا مقطوعاتٍ موسيقية اشتهرت على نطاقٍ واسعٍ آنذاك.

لكن ولنكن أكثر تحديداً، كان السلطان سليم الثالث هو الملحّن والمؤلّف الأكثر شهرةً في السلالة العثمانية، وقد عُرف عنه حبّه للناي والطنبور وبراعته في عزفهما عندما كان أميراً قبل أنْ يتولّى الخلافة. ولم يكن ينظر إلى الموسيقى كهواية أو كرفاهية، كما لم تقتصر عنده على طقسٍ أو وقتٍ معيّن، وإنما اعتبرها فلسفة تستدعي الاهتمام البالغ ما جعل منه رجلَ دولة في المقام الأول وموسيقيّاً في المقام الثاني.

وتبعاً لذلك، أحيا السلطان سليم الثالث عدداً من المقامات العثمانية المنسية. وعمل على تنشيط اهتمام القصر بالأنشطة الموسيقية ودعم الموسيقيين والفنّانين وتزويدهم بالموارد التي يحتاجون إليها. وجديرٌ بالذكر أنّ العديد من الأسماء الموسيقية اللامعة في الدولة العثمانية قد خرجت فترةَ تولّيه الحُكم لاهتمامه المتزايد بحاجاتهم ومواهبهم، ومن تلك الأسماء كان إسماعيل ديدي أفندي، الذي قام بتوجيهٍ من السلطان سليم بإعادة الموسيقى العثمانية الكلاسيكية إلى الواجهة بعدما طغت الموسيقى الغربية على المشهد قبل أنْ يتولّى سليم الثالث الخلافة.

وقد ألّف سليم الثالث ما يقارب 15 عملاً فنياً. وابتكر 14 مقاماً، ثلاثة منها لا تزال قيد الاستخدام الموسيقي في يومنا هذا. إضافةً إلى ذلك، كان أوّل من استقبل فرقة أوبرا في التاريخ العثماني واحتفى بها في القصر الخلافي عام 1797.

أمّا السلطان عبد العزيز، فقد عُرف عنه حبّه للموسيقى أيضاً، لكنّه على عكس السلطان سليم الثالث كان ميّالاً إلى الموسيقى الغربية الكلاسيكية أكثر من العثمانية، فسعى إلى دراستها وتعلّمها، وأحبّ البيانو أكثر من غيره من الآلات، لكنّه في الوقت نفسه كان عازفاً جيّداً للعود والناي.

ألّف عبد العزيز على مدار حياته بعضاً من المقطوعات الكلاسيكية جُمعت لاحقاً في ألبوم حمل اسم "الموسيقى الأوروبية في بلاط العثمانيين"، وقد لاقى قبولاً وإعجاباً واسعين في كلٍّ من الدولة العثمانية وأوروبا على حد سواء.

في عام 1867 على سبيل المثال، استُقبل السلطان عبد العزيز أثناء وصوله إلى لندن بعزفٍ لمقطوعة "La Gondole Barcarolle" إحدى مؤلفاته الكلاسيكية الخاصة، وقد كانت الصحافة الأوروبية آنذاك مندهشة من أنّ سلطاناً عثمانياً قد امتلك القدرة الفائقة على تأليف الموسيقى وعزفها، أو حتى اعتمادها في دور الموسيقى الإيطالية بشكلٍ يُحتفى به.

ولو بحثت في الإنترنت لوجدتَ المزيد من المقطوعات الأخرى لهذين السلطانين. منها ما هو عثماني تقليدي تماماً، ومنها ما اتّبع الموسيقى الغربية الكلاسيكية أو عمل على دمج الفنّين المختلفين بطريقةٍ بارعة ومميزة.

الموسيقى كانت، خلال العهد العثماني، فنًّا أنتجته الدولة تماماً كما أنتجه عامّة الناس وشعبها، من جميع الأطياف والشرائح (TRT Arabi)
فيما يتعلّق بالسلاطين، فمنهم من شجّع الموسيقى وخصّص لها مساحة للنموّ والتطوّر، ومنهم من وجد نفسه معنياً أكثر بها فدرسها وتعلّمها وألّف فيها (Getty Images)
اندمجت الموسيقى مبكّراً مع العلاج في الدولة العثمانية التي اهتمت أنْ تتعامل مستشفيات إسطنبول وأماسيا وبورصة وأدرنة وسيفاس مع الموسيقى كعلاج (Getty Images)
أحيا السلطان سليم الثالث عدداً من المقامات العثمانية المنسية. وعمل على تنشيط اهتمام القصر بالأنشطة الموسيقية ودعم الموسيقيين والفنّانين (Getty Images)
TRT عربي