تابعنا
تكتسب الموضة اليوم، حمولة ثقافية واقتصادية كبيرة، حيث تفرض نفسها كـ "سلطة اجتماعية"، تمثل اتجاهاً ثقافياً وأسلوباً حياتيّا. تعرّف على الوجه الآخر للموضة.

استطاعت الموضة، بمعناها المتداول اليوم، فرض ذاتها في الأوساط الاقتصادية والاجتماعية الثقافية، خلال منتصف القرن الرابع عشر بأوروبا، بعد الثورة التي أحدثها نمط الزي الجديد، الذي مايز بين الجنسين، قصير ومعتدل للرجال، وطويل وضيق للنساء، والذي وضع الأسس التي يقوم عليها الزي الحديث، وفق كتاب "مملكة الموضة، زوال متجدد" للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي جيل ليبوفتسكي، ـ ترجمته إلى العربية، دينا مندورـ وشهدت الموضة، فيما بين القرن الرابع عشر، والقرن التاسع عشر، تقلبات كبيرة، حيث تتغير من شهر لشهر، ومن أسبوع لأسبوع وحتى من ساعة لساعة، مستجيبة للتغيرات والتحولات الطارئة على المجتمعات.

أمام تعدد الفانتازيا والصيحات والابتكارات، تواصلت تقلبات الأزياء، حسب ليبوفتسكي، بوتيرة متسارعة، غير أنها بقيت حبيسة المحتوى وليس الشكل العام، كون التعديلات المتلاحقة التي تطال الألبسة، تطرأ على مستوى تفاصيل محددة، كتزيينات الثوب والأكسسوارات، ودقة الزخارف واتساع الثوب، فيما بقيت تراكيب الزي والأشكال العامة مستقرة، وهو ما وصفه الأنثربولوجي الفرنسي إدوارد سابير، بأنه "تنوع في قلب سلسلة معروفة".

بعد التطورات المتلاحقة عبر العصور، تكتسب الموضة اليوم، حمولة ثقافية واقتصادية كبيرة، حيث تفرض نفسها كـ "سلطة اجتماعية"، تمثل اتجاهاً ثقافياً وأسلوباً حياتيّا. ومن هذا المنطلق، بدأ الهوس بصيحاتها يتزايد، أكثر فأكثر، حتى أصبح اللباس يتجاوز دوره الوظيفي الأصلي، المتمثل في الحماية والتدفئة والتوق إلى الاعتناء بالمظهر والتجديد والتميّز، ويتحول إلى هوس يخفي تفاصيل أكثر تعقيداً.

"هوس استهلاكي"

الاستهلاك أهم عملية في النشاط الاقتصادي، والغاية النهائية منه، لذلك تقوم كل التوجهات الاقتصادية أساساً على تشجيعه، ودفع المستهلكين دائماً نحو مزيد من الاستهلاك لتحقيق وهم الإشباع. المختص في علم النفس الاجتماعي، محسن بنزاكور، قال إن المجتمعات الإنسانية، "تسير اليوم وفق فكر اقتصادي مبني على الإنتاج والاستهلاك، استطاع بناء إنسان يؤمن بأن سعادته تكمن في الاستهلاك والبحث دوماً عن الجديد"، وأبرز المتحدث في تصريح لموقع TRT عربي أن: "هذا الهوس الاستهلاكي، أقصى الإنساني في الإنسان، حتى تحول إلى سلعة ورقم في معادلات الشركات".

تزايدُ استهلاك الخدمات والسلع يشهد ارتفاعاً متزايداً، خصوصاً في الإنفاق على الألبسة والأزياء، مع تجدد صيحات الموضة وتنوعها المضطرد وعقارب الساعات، نتج عنه هوسٌ شديد نحو شراء واقتناء الملابس، وإدمانٌ لزيارة المحلات التجارية للتبضع والسعي خلف جديد العلامات، ليس فقط من طرف الطبقات الاجتماعية الأعلى دخلاً، بل حتى من أشخاص يمثلون مستويات اجتماعية متواضعة.

لهذا الوضع خطورة كبيرة، حسب محسن بنزاكور، تتمثل "في إغراقه كثيرين في الديون، فبعد أن كان السعي وراء عوالم الموضة في السابق، مرتبطاً أكثر بالطبقات الغنية، نلاحظ اليوم أن هناك من يأخذ قروضاً بنكية لإنفاقها على الموضة، فضلاً عن عدم الرضا الدائم بما نتحصل عليه، والإحساس بالدونية نتيجة المقارنة بالآخرين، ما قد يتسبب في مشاكل نفسية خطيرة".

النمط الاستهلاكي المتسارع اليوم، يتداخل فيه عددٌ من المؤشرات، فمن جهة الرّغبة الغريزيّة للإنسان في التملّك والحصول على كل ما هو جديد، ومن جهة ثانية، الدور الذي لعبه التطور الالكتروني والرقمي وتطور آليات ووسائل الإشهار، حيث تحولت الشوارع والمقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي وكل فضاءات الحياة اليومية، إلى منصات إشهارية تُسوّق لمنتوجات متنوعة، وتحث على الاستهلاك والشراء.

أكثر ما يقويّ النزعة الاستهلاكية في مجتمعاتنا اليوم، حسب الباحث في علم الاجتماع مصطفى الشكدالي، هو الصور المنتشرة على وسائط التواصل الاجتماعي، التي تغري وتروّج وتدعو للاستهلاك دون شعور من الفرد، مضيفاً أن التحفيز على الشراء حاضر يوميّاً، من خلال الصور المعروضة على الشاشات والإعلانات، التي أصبحت آلية ضغط لا يشعر بها المرء تدفعه للانسياق وراء تحقيق رغبات لا تتحقق، حيث ما إن يظن الفرد أنه أشبعها حتى تزول من جديد.

وأوضح المتحدث أن داخل مجتمع الاستهلاك لا نعيش الاستقرار؛ من استهلاك إلى استهلاك، في عملية تحصيل حاصل، كما يسميها العالم الفرنسي بودريار؛ حيث لا يكتفي المرء بشراء منتج ولكن اقتناء بديل يقوم مقامه بعد أسابيع قليلة فقط، "لسبب بسيط هو أنك تأثرت بإشهار أو سمعت عنه أو فقط عدم رضا ناتج عن عدم الاستقرار".

التباهي وقوة الرمز

لا يرتبط استهلاك ومتابعة آخر صيحات الموضة بجودة المنتوجات (الزّي أو الإكسسوار)، على مستوى صلابتها واللمسة الإبداعية والفنية فيها، بل أساساً، في الرمز والعلامة التي تحملها ةالتي تمثلها هذه المنتوجات، حيث يعطي (الرمز) انطباعاً حول الخلفية الاجتماعية للشخص الذي يرتديها، ذوقه، دخله ومدى مواكبته لجديد الموضة.

في هذا الإطار، يقول محسن بنزاكور إن صانعي الإشهار اليوم يعتمدون على إعلانات دقيقة تروم الإقناع بأفكار ووجهات نظر قبل الإقناع بالمُنتَج، حتى يحظى ببعد رمزي وليس تجاري فقط، وتعتمد في ذلك، على شخصيات مشهورة ونجوم من عوالم الرياضة والسينما لإضفاء مزيد من الشرعية والقوة الرمزية، معتبراً أن "نجاح منتوج معين رهين بالأبعاد الرمزية التي يحملها وليس فقط بجودته أو مدى الحاجة إليه".

من جهته، يؤكد مصطفى الشكدالي أن "للرمز قوة كبيرة، فمن خلال اقتناء، ماركة مسجلة مثلاً، يسعى الفرد إلى التميز اجتماعياً، بل وأحيانا التباهي وليس لكونها منتوجاً قوياً أو به لمسة إبداعية أو فنية"، وزاد مستدركاً: "الحقيقة أن الأشياء التي تملكها هي في العمق تملكك وتسيطر عليك، فحينما ترتدي ماركة معينة، تتحول بدون إدراك مباشر إلى رافعة إشهارية لها".

التركيز على المادي والركض وراء السلع في سوق الاستهلاك، "سلب القيم وفكك الروابط الاجتماعية"، وفق تصريح المتحدث لموقع TRT عربي، كاشفاً أن "العلاقات الاجتماعية أصبحت بدورها أسيرة التباهي والتظاهر، وهذا يظهر حتى خلال الحفلات والتجمعات العائلية التي تحولت إلى مناسبات للاستعراض والتباهي بالأزياء والحلي والإكسسوار، ما قتل المشاعر الإنسانية الحقيقية".

استلاب واستعباد

تركز إعلانات الأزياء على الجسد أساساً، حيث تسوق شكلاً وحيداً "مثالياً"، تظهر فيه عضلات الذكر مشدودة وجسد الأنثى مكتنزا بتناسق، هذه التصورات حول الجسم، عملة أيضا في سوق الاستهلاك، حسب الشكدالي، كاشفاً أن "الشركات تسعى إلى فرض شكل ولباس واحد ومنمّط، يسلب تفرد الشخص وتميزه"، وأضاف: "الموضة تروم خلق التشابه لتعميم نفس المنتوج، تركز على الفرد وتسلبه عبر آليات التسويق، قوته التفكيرية، حتى لا يمانع ويعارض ويتفرد بل يسعى لخلق نماذج متشابهة، تجعل منه رقماً ضمن الأرقام، كون الموضة من ناحية علم الاجتماع هي المماثلة في السلوك، تخلق نموذجاً يخاطب الأفراد ضمن الجماعة، وكل نموذج يمنع من التفكير لأنه فكر مكانك، الكل يقوم بالمماثلة، نرفع من قيمة المنتوج الاستهلاكية، نخلق أناساً متشابهين".

هذا الاستلاب بتعبير الشكدالي، وصفه بنزاكور بكونه "استعباداً، يروم تغييب عقل الإنسان واستحضار الانفعالات الغريزية، ليصبح عبداً للرغبة في التملك، والاستغناء عن الحرية الفكرية وسلطة اتخاذ القرار، في الرفض أو في فرض أسلوبك الخاص ضد توجهات صيحات الموضة العالمية".

هذا الاستعباد لا يتأثر به المستهلكون فقط، بل يطال في مستوى أخطر، عمال مصانع شركات الألبسة العالمية في دول آسيوية فقيرة، التي تستعبد العمال المتكوّن أغلبهم من القاصرين، مقابل أجور زهيدة.

كما لا تحترم ظروفُ العمل في هذا المصانع حقوقَ هؤلاء العمال ولا أدنى شروط السلامة، حيث تكررت في السنوات الأخيرة حوادث مميتة بداخل هذه المصانع، أفجعها كارثة انهيار مصنع خياطة ملابس ماركة عالمية في بنغلاديش، تجاوز عدد ضحاياها ألف قتيل وألفي جريح، في أبريل/نيسان من عام 2013. هذا فضلاً عن الضرر البيئي الكبير الذي تتسبب فيه الشركات العالمية المصنّعة للملابس، حيث تعتمد الفاخرة منها خصوصاً، على مواد أولية مستخلصة من الحيوانات، كعاج الفيلة وجلد التماسيح وفرو الباندا.. ورغم تعالي الأصوات الحقوقية المنددة باستعباد الإنسان واستغلال الحيوان، إلا أنها لا تلقى الصدى المأمول، حيث لا تزال هذه الممارسات مستمرة وفق ما فضحته تقارير حقوقية وتحقيقات صحفية.

التركيز على المادي والركض وراء السلع في سوق الاستهلاك سلب القيم وفكك الروابط الاجتماعية  (Getty Images)
تزايدُ استهلاك الخدمات والسلع يشهد ارتفاعاً متزايداً، خصوصاً في الإنفاق على الألبسة والأزياء، مع تجدد صيحات الموضة (Getty Images)
TRT عربي