تابعنا
تتزايد أعداد المهاجرين السرّيين في تونس سنةً بعد سنة، أغلبهم شباب يمتطون قوارب الموت من أجل العبور إلى أوروبا، هرباً من الأوضاع الصعبة التي يعيشونها في بلدهم، وبحثاً عن سُبل حياةٍ أفضل.

تونس ـــ كان الحادي عشر من مارس عام 2011 فجراً، حين استيقظ بلال بن عمر (28 عاماً) على أملٍ كبير، فهو بات قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه بالوصول إلى أوروبا. المركب الذي سيقله وآخرين جاهزٌ، والبحر هادئ على غير عادته في مثل هذا الوقت من السنة، كان كل شيء يبعث على التفاؤل، لكن ما حدث غيّر حياته إلى الأبد.

الحركة كانت خافتةً على شاطئ جرجيس (جنوبي تونس) ولا شيء يُرى غير سطح البحر على انعكاس ضوء القمر، قبل أن يخترق صوتٌ مبحوحٌ هذا الهدوء، "هيا أسرعوا سنتقدّم على قوارب صغيرة حتى نصل إلى المركب الذي سيقلّكم إلى إيطاليا"، فتسابق الجميع نحو القوارب التي تحرّكت وسط البحر، مشوا بعض كيلومترات، ليلمحوا "مركب الإنقاذ"، لكنّه لم يكن كما وُصف لهم، فهو قديم وصغيرٌ، لكنّه سيقلّهم بأية حالٍ إلى وجهتهم.

يتنفس بلال بعمقٍ وكأنّه يعيش اللحظات نفسها ويقول لـTRT عربي، "كان القارب صغيراً لا يحتمل أكثر من 15 شخصاً لكنّنا كنّا قرابة الثلاثين"، وكان البحر هادئاً، وكل شيء على ما يرام عندما انطلقوا من سواحل تونس، لكن حال ابتعادهم قليلاً بدأ الجو يتغير واشتدت الرياح وبدأ القارب يتمايل يميناً ويساراً، وكثر الصياح واصفرّت الوجوه من الخوف، خاصّةً أنّ الأمواج كانت عاليةً جداً.

يضيف بلال دون أن يحرّك اتّجاه عينيه، "بدأنا نلقي أمتعتنا في البحر لنخفف من ثقلنا على القارب، لكن الأمر يزداد سوءاً كلّما اشتدت الرياح، وبدأت لعبة البقاء للأقوى حيث ألقي كبار "الحراقة" (المهاجرين) الصغار أو ضعاف البنية في المحيط، فصرنا نفقد رجلاً كلّ دقيقةٍ، وشاهدناهم يغرقون أمام أعيننا، مشيراً إلى أنّها كانت فعلاً مشاهد مرعبة، لكنّه لم يستسلم وكان حب البقاء أقوى.

يقول بلال إنّ أكثر اللّحظات رعباً مرّ بها حين سمع أحدهم يتحدث عنه ويشير بإصبعه نحوه، لكي يلقوا به في البحر بما أنه كان الأصغر بينهم، فنزع معطفه كي لا يتعرفوا عليه، واختبأ في زاوية من القارب، حتّى نجا بأعجوبةٍ، يتابع: "مرّت ساعات كأنّها أعوام، ووصلنا بعد عذابٍ شديد، لم نتوقف عند الشواطئ الإيطالية، فقد هربت وأحد الشباب وسط غابةٍ كبيرةٍ، ونحن لا نملك حتى قارورة ماء".

قضى بلال رفقة صديقه ثلاثة أيّام بلا أكلٍ، ولا شربٍ، وناموا في العراء تحت الشجر، ولاحقاً تحت الجدران، حتى اهتدوا إلى طريقٍ أوصلهم إلى القطار الذي يقل إلى فرنسا، التي تشردوا في شوارعها وأكلوا من القمامة ليستمروا، فاقتنع بأنّ ما وجده لم يستحق كل ذلك، وبات يعتبر الهجرة غير النظامية "موتٌ من نوعٍ آخر".

غرقى ومفقودون

وتكشف إحصائيات المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع للرئاسة التونسية أنّ الفترة من 2011 إلى غاية عام 2018، سجلت هجرة غير نظامية لنحو 20 ألف تونسي، ولفتت بيانات المعهد إلى إحباط 930 عملية هجرة غير شرعية خلال الفترة المذكورة، في حين يصل عدد المحتجزين التونسيين الموقوفين نتيجة محاولتهم الهجرة إلى نحو 13 ألف تونسي، وبلغ عدد الذين وصلوا إلى إيطاليا إلى ما يزيد عن 38 ألف تونسي، ولا تتضمن معلومات المعهد أي إحصائيات لأعداد القتلى والمفقودين من المهاجرين.

ويعتبر وضاح الحنّاشي (29 عاماً) أحد الناجين الذين أسعفهم الحظ ولم يغرقوا في بحر المتوسّط لكنّه يقول إنّه رأى الموت أكثر من مرّة، حتى صار ينتظره فاقداً الأمل لساعاتٍ في عرض البحر"، تفاصيل رحلة وضّاح نحو إيطاليا، دامت أكثر من 19 ساعةً، كانت مليئة بالخوف والرعب ومحاولات التمسّك بالحياة".

يقول وضّاح إنّه قرّر أن يغادر بلده نحو إيطاليا، بعد أن انقطع عن الدراسة في عام 2011، وسيطرت أحلام جنّات الفردوس الأوروبي على تفكيره، حتّى ضاقت البلد بطموحاته، يتابع في حديثه لـTRT عربي، أنّ قريبه شجّعه على "الحرقة" (الهجرة)، وعرّفه بأحد الوسطاء الذين ينظّمون مثل هذه الرحلات، شرط أن يدفع كلّ شخص 1500 دينار (531 دولار)، لافتاً إلى أنّ والدته كانت على علمٍ بذلك.

وعن تفاصيل الرحلة يقول إنّها بدأت قبل الإبحار بستة أيامٍ حيث تم نقله، صحبة مجموعة من الشباب من محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب تونس)، في سياراتٍ مغلقةٍ، إلى منزلٍ مهجور في ضواحي مدينة جرجيس (جنوب تونس)، "لإخفائهم عن النظر".

يقول وضّاح إنّهم أُجبروا على عدم الخروج منه، حتى لا يراهم أحد ويبلّغ عنهم، حتّى أنّهم اضطروا إلى عدم قضاء حاجتهم البشرية إلاّ ليلاً، لأنّ الحمام خارج أسوار المنزل وفق تأكيده، وفي اليوم السابع جاءهم قرار الإبحار نحو أحلامه، يشير إلى أنّه كان من المفترض أن يتم تسفير 35 شخصاً أو 40 على أقصى تقديرٍ، لكنّه تفاجأ بـ141 شخصاً سيحملهم قاربٌ صغيرٌ متهالكٌ ويعبر بهم البحر، لكنّهم لم يستطيعوا الاعتراض أو الاحتجاج.

وضّاح يؤكّد إنّهم كانوا متراصين في المركب، بطريقةٍ لا يستطيع أحدٌ منهم التحرّك أو إبعاد كيسه عن حضنه، وفجأة وبعد حوالي 18 ساعةً من الإبحار، ضاق المركب بركّابه، وبدأت جدرانه تتحطّم، وتعطّل محرّكه، وبدأ الماء يصعد إليه، أحس فيها أنّه سيموت وحيداً بعيداً عن الأقارب والأصدقاء، وبعيداً عن البلد، إحساس وصفه بالموت البطيء، وظلّوا على ذلك الوضع ليلةً بأكملها، إلى أن مرّ مركب سياح اتصلوا بخفر السواحل الإيطالي لإنقاذهم.

أحلام تتحطم على صخور إيطاليا

شواطئ جرجيس تبعد عن جزيرة لامبدوزا الإيطالية حوالي 250 كيلومتراً، يقطعها المهاجرون خلسةً في قوارب خشبية أو حتى مطاطية صغيرة، لكن قوارب الحرّاقة (المهاجرين السريين في شمال إفريقيا) تنطلق من أماكن أخرى على طول الشواطئ التونسية.

وتنطلق بعض الرحلات غير النظامية من بنزرت (شمال تونس) ومن المنستير (الوسط الشرقي) ومن صفاقس (جنوباً) ومن جزيرة قرقنة التي لا تبعد عن صقلية الإيطالية أكثر من 150 كيلو متراً، ومن محافظة المهدية التي لا تبعد سوى 41 ميلاً عن جزيرة لامبيدوزا. من أين بدأت رحلة صابر سالم (36 عاماً)، التي كانت بعلم والده، وتشجيعه؟

صابر توجه من مدينته بالجنوب التونسي إلى مدينة المهدية الساحلية ليلتقي أحد منظمي الرحلات غير الشرعية إلى إيطاليا وهو صديق أحد أقاربه، كان ثمن الرحلة باهظاً، حيث دفع له قرابة 6000 آلاف دينار(2000 دولار) كان قد جمعها بعناءٍ شديد، يقول صابر أنّه قضى بضعة أيامٍ رفقة مجموعةٍ من المهاجرين ببيت معزولٍ في أحد الأرياف القريبة، لافتاً إلى أنّه كان خائفاً لكنّ أحلامه بأن يغيّر واقع عائلته دفعته إلى المجازفة.

رحلة صابر لم تواجه الكثير من المخاطر، فهو ورفاقه ركبوا زورقاً مخصّصاً للغرض، عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ولاحت لهم سواحل لامبدوزا عند الفجر، تحديداً بعد 6 ساعاتٍ من الإبحار، لكنّ أحلامهم تحطمت على صخورها، حين قبض عليهم الأمن البحري الإيطالي ورحلوهم قسراً إلى تونس التي قضوا فيها مدّة عام في سجنٍ مع غرامةٍ مالية.

ففصول مآسي قوارب الموت في المتوسط، تتوالى دون أن تتضح لها نهاية، الرابحون فيها دائماً هم مهربون محترفون يجنون الأموال الطائلة جراء هذه التجارة الرابحة، أما الخاسرون فهم من يقامرون بآخر ما يملكون، وبحياتهم وأسرهم، كي يصلوا إلى دول أوروبا.

ويشير في هذا السياق، الناطق باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر، في تصريحه لـTRT عربي، إلى أنّ البطالة وهشاشة آليات التشغيل في تونس، فضلاً عن تدهور الأوضاع الاجتماعية، تعدّ من أبرز الأسباب التي تدفع الشباب التونسي إلى المخاطرة بحياتهم للعبور نحو أوروبا بحراً.

وأضاف ابن عمر: "ما بات يقلق حقّاً، بروز ظاهرة تسجيل حالات قصّر يشاركون في الرحلات غير النظامية أو ما يطلق عليها بـ"رحلات الموت". لافتاً إلى أنّ هذه الظاهرة سجّلت نسقاً تصاعدياً خلال الأعوام الأخيرة، وأنّ "الحرقة"، سجّلت ذروتها خلال فترات معيّنة تنشغل فيها البلاد بالانتخابات مثلاً، أو بالأعياد والمناسبات الرسمية.

يقطع المهاجرون التونسيون خلسةً في قوارب خشبية أو حتى مطاطية صغيرة نحو جزيرة لامبدوزا الإيطالية (TRT Arabi)
فصول مآسي قوارب الموت في المتوسط، تتوالى دون أن تتضح لها نهاية،الرابحون فيها دائماً هم مهربون محترفون يجنون الأموال الطائلة (TRT Arabi)
شواطئ جرجيس بتونس تبعد عن جزيرة لامبدوزا الإيطالية حوالي 250 كيلومتراً (TRT Arabi)
TRT عربي