تابعنا
إذا كانت الأحياء الفقيرة والمنسية في إسطنبول تعيش ظروفاً صعبة وتشعر بالوحدة في الأيام العادية، فإنّ شهر رمضان جعلها أقلّ وحدة، وجعل ساكنتها تشعر بالانتماء إلى هذه المدينة.

"حيُّ تارلاباشي هو المكان الأكثر تعرُّضاً للوحدة والنسيان في العالم"، يقول أيوب عمر بال وهو يحتسي الشاي بعد الإفطار.

يقع حيُّ تارلاباشي في قلب إسطنبول على مسافةٍ قريبة جداً من ميدان تقسيم وحيِّ جيهانكير -اللذين يُعدَّان من أهم الأماكن الرئيسية في المدينة- وهو تابعٌ لبلدية باي أوغلو. لكنَّه مُهمَلٌ ومُهمَّش، ومعروفٌ بمناخه الترابي وأيضاً بما يُسمّى بالاستطباق.

وحتى خاصية "ستريت فيو" في غوغل لا تعرض هذه المنطقة التاريخية المتهالكة التي أصبحت مأوىً مؤقتاً للمهاجرين داخل تركيا وخارجها.

إذا خرجت من شارع الاستقلال، وهو شارع التسوُّق الرئيسي في إسطنبول، وعبرت شارع تارلاباشي، ودخلت أحد الأزقَّة الضيقة المنحدرة فيه، سيتلاشى ضجيج السّياح والمدينة، وستجد نفسك في جوٍّ مختلف تماماً وأقلَّ ماديةً.

وبالنسبة للغرباء، قد يشعرون حينئذٍ بأنَّهم يدخلون عالماً آخر بينما تتلاشى أضواء ميدان تقسيم في الظلال الطويلة والمتاهات التي تُمثِّلها شوارع تارلاباشي. تلك الشوارع المليئة بالملابس المنشورة على حبالٍ بين المباني، والمنازل والواجهات المعمارية العتيقة التي تلمح إلى ماضيها الذي كان أكثر ازدهاراً في أواخر القرن التاسع عشر، وأصبحت الآن ذات مظهرٍ أكثر تشوشاً، في ظلّ الطلاء المتقشِّر والزخارف المتهالكة والرائحة العفنة للمباني الرطبة.

أصبح تارلاباشي، الذي يُعد الآن مجتمعاً مختلطاً فقيراً مكافحاً يضم أتراكاً وغجراً وعرباً وأكراداً وباكستانيين وأفغاناً وأفارقة، نقطةَ انطلاق للمجتمعات الباحثة عن حياةٍ أفضل.

فبالنسبة للعديد من الأشخاص الذين ينتقلون إلى تارلاباشي من داخل تركيا، يُمثِّل الحيُّ المحطة الأولى للاستقرار في إسطنبول للانتقال إلى منطقةٍ أفضل. أمَّا بالنسبة لأولئك الذين يهاجرون إليها من خارج تركيا، فهو مجرّد محطةٍ في رحلتهم إلى أوروبا، لكنَّ الكثيرين ينتهي بهم المطاف إلى وصفه بأنَّه موطنهم.

ويمكن القول إنَّ التنوع يُعطي المنطقة نسيجاً معقداً، لكنَّه غني، خليطٌ من الهويات الثقافية والعرقية، التي تجد صعوبةً كذلك في التعايش مع بعضها في ظل تدافُع المجتمعات المختلفة على حيِّز تعيش فيه وسط ظروفٍ صعبة في كثير من الأحيان.

أسَّس أيوب عمر بال وأخوه الأكبر، قادر، جمعية Tarlabasi Solidarity Group مع بعض الأصدقاء منذ أكثر من 10 سنوات لمساعدة مجتمع المهاجرين والسكان المحليين المتعثر.

يقول أيوب، متحدثاً عن مراكز التسوق المشهورة في إسطنبول "الناس يعرفون نوتيلوس وكابيتول وشارع الاستقلال وتقسيم. إنهم يعرفون الأماكن الشهيرة، لكنَّهم لا يعرفون أي شيء عن تارلاباشي، فهو مكانٌ منسي. وهذا ما يجعله المكان المناسب للبدء في مساعدة الناس".

وأضاف "حين وصلنا إلى تارلاباشي في البداية، لاحظنا أن هناك العديد من المجتمعات الإفريقية المحتاجة، فجمعنا بعض الأموال لمساعدتهم".

دمجت هذه الجمعية حديثة العهد نفسها في مجتمع الحيِّ، وسرعان ما وجدت أنَّ العديد من المهاجرين الذين يعرفون قدراً قليلاً من اللغة التركية، أو ربما لا يعرفونها على الإطلاق، يجدون صعوبةً بالغة لفهم كيفية الحصول على الرعاية الطبية. وقد صارت الجمعية الآن تضم أكثر من 300 متطوع، من بينهم أطباء ومدرّسون ومحامون وطلاب.

في هذا السياق، يقول أيوب "تتصل مجتمعات المهاجرين بنا حين تكون لديهم مشكلة مع أصحاب العقارات التي يسكنونها أو مع السكان المحليين الآخرين. فتارلاباشي يمكن أن يكون مكاناً خطراً، لا سيما على الأشخاص الجدد".

ويمكن لشبكة المتطوعين الواسعة التي تتمتع بها الجمعية تقديمُ المشورة والمساعدة الطارئة لمجتمعات المهاجرين في الحيِّ مجاناً وفوراً.

ويُضيف أيوب "قبل عشر سنوات، لم يكن السكان المحليون يرغبون في بقاء المجتمعات الإفريقية. لكن الآن، اعتاد الناس هذه الوجوه الجديدة، لأنَّ العقليات تغيرت".

ويُعَد تعزيز الإحساس بالانتماء إلى المجتمع واحداً من خدمات عدة تقدمها الجمعية على المستوى المحلي. تشملُ هذه الخدمات أيضاً الإفطار الأسبوعي في شهر رمضان الذي تواظب على إقامته منذ 10 سنوات.

ففي يوم السبت من كل أسبوع، يتجمَّع متطوعون صغارٌ وكبار، من داخل الحيِّ وخارجه، في أحد أزقته الكثيرة على بُعد مسافةٍ قصيرة من شارع تارلاباشي لتحضير الإفطار.

يُفرَش الحصير المصنوع من القش على الأرض، وتوضع عليه أكواب الماء والعيران. بينما يتكفل المتبرّعون الأثرياء بتوفير الطعام. وتُحضَّر وجباتٌ تحتوي على الدجاج المتبل، نقانق اللحم البقري، حساء وفطائر بالجبن. يتمّ هذا في أحد بيوت الحي المتهالكة، قبل أن تصبح الوجبات جاهزةً للتوزيع.

في لحظةٍ ما، يهدأ الحيُّ، الذي عادةً ما يعجّ بالضوضاء، عند غروب الشمس، وقت إقامة أذان المغرب. ثمّ يصدح أذانٌ موحَّد في جميع أرجائه.

بعد برهة، يتبدَّل صمت الأشخاص الذين يتناولون الطعام بمحادثاتٍ حية، وتعود الهمهمات، ثمّ الصّخب مرةً أخرى.

ويُمثِّل الإفطار كذلك فرصةً للتعرُّف إلى أشخاصٍ جُدد ذوي قصص وتجارب مختلفة في الحياة.

يُعَد أبو بكر، البالغ من العمر 38 عاماً والوافد من غامبيا، أحد المتطوعين الذين يقدمون الطعام، وهو عضوٌ كذلك في جمعية Tarlabasi Solidarity Group.

انتقل أبو بكر إلى الحيِّ منذ أربعة أشهر، لكنَّه يُقيم في تركيا منذ أكثر من ست سنوات.

ويبيع أبو بكر سُبَحاً وقلائد ومجموعةً متنوّعة من الحُلِيَّ الأخرى في ميدان تقسيم ليلاً، مثله مثل العديد من سكان الحيِّ الذين يكسبون رزقهم من ميدان تقسيم القريب، مما يؤكد الترابط العميق غير المتكافئ بين هذا الحيِّ الضيق ومحيطه الحضري الأوسع والأغنى.

يقول أبو بكر لـTRT: "جمعية Tarlabasi Solidarity Group هي إحدى الجمعيات التي ساعدتني حين كنت بلا مأوى".

ويضيف "في اليوم الذي قابلت فيه قادة الجمعية، ساعدوني كثيراً، وتيقنوا من أنني لن أعيش يوماً آخر في العراء".

وخطوةً بخطوة، استطاع أبو بكر تأمين ظروف معيشته، وهو يريد الآن العودة إلى الجامعة لاستكمال دراسته. يقول بلهجةٍ مفعمة بالتفاؤل: "مع الأصدقاء الجدد، كلّ شيء ممكن".

ويردف "غادر بعض أصدقائي للذهاب إلى أوروبا، لكنني أصبحتُ أؤمن أنّني سأحقّق حلمي في تركيا".

هكذا صار حيُّ تارلاباشي أقلّ شعوراً بالوحدة.

حي تارلاباشي الفقير والمنسي بإسطنبول  (TRT World)
خلال رمضان، يشعر ساكنة حي تارلاباشي المنسي ببعض الانتماء إلى مدينتهم إسطنبول (TRT World)
ساكنة حي تارلاباشي أثناء الإفطار (TRT World)
ساكنة حيّ تارلاباشي يقومون بصلاة المغرب جماعةً قبل الإفطار (TRT World)
صورة من حيّ تارلاباشي بإسطنبول  (TRT World)
الإفطار الجماعي يعني الكثير عند ساكنة حي تارلاباشي (TRT World)
TRT عربي