تابعنا
لبَسطِ نفوذها الاستعمارية في بعض بلدان شمال إفريقيا، استغلّت فرنسا التنوّع العرقي والثقافي في هذه البلدان، وعمِلت على خلق صراعاتٍ عرقية وانقساماتٍ ثقافية لتسهيل مَهمّتها.

تتخذ الدول الاستعمارية من مكونات الهوية الوطنية لمستعمراتِها، خصوصاً إن كانت تتميز بالتعدّد والتنوع، وسيلة وآلية، من أجل تثبيت هيمنتها الاستعمارية وإحكام قبضتها الكولونيالية، عبر العمل على تشتيت وإحياء الصراعات العرقية والإيديولوجية التي من شأنها إشعال فتيل الانقسامات وضربِ وحدة الشعوب.

فرنسا، خلال استعمارها لبلدان المغرب الكبير، اعتمدت هذه الآلية لبسط نفوذها، حسب عدد من المصادر التاريخية والمختصّين، حيث استغلّت التنوع العرقي واللغوي بالنسيج المجتمعي المغاربي، سلاحاً لصناعة الصراعات والتفرقة بين أبناء البلد الواحد، من خلال ثنائية الأمازيغ والعرب، خصوصاً بالمغرب والجزائر، معتمدة بذلك على بحوث وأطروحات بعثاتها الاستكشافية، التي وجهت اهتمامها لاستقراء خصائص مجتمعات وجغرافيا هذين البلدين.

وركزت هذه الدراسات الكولونيالية، على إبراز الاختلافات القائمة بين ساكنة شمال إفريقيا، بين الأمازيغ، السّكان الأصليين والعرب، القادمين من الجزيرة العربية، من حيث اللغة والعادات والتديّن ونسبة الولاء للسلطة المركزية، ساعية إلى إبراز هذه الاختلافات في صورة تعارض أو صراع، تستغله من أجل تفكيك بنية المجتمعات، وبالتالي السيطرة عليها.

"سلاح الهوية"

يعود استعمار الجزائر من طرف فرنسا إلى سنة 1830 واستمر إلى سنة 1962، واستعملت فرنسا كل الوسائل المادية والمعنوية، من أجل إخضاع الشعب الجزائري، ما أدى إلى إسقاط الملايين بين قتلى ومصابين، بعد أن لاقى المستعمر مقاومة شرسة طيلة قرن وثلاثةِ عقود من الاحتلال.

في حربها على الجزائر لم توظف فرنسا الأسلحة الثقيلة فقط، بل عمدت إلى ضرب الهوية الوطنية الجزائرية، من خلال استغلال مكونات الشعب الجزائري الأمازيغية والعربية، من أجل مخططاتها الاستعمارية التوسعية بالبلد، "هذا أدى إلى ازدياد ضراوةالصراع الأمازيغي العربي، خصوصاً بعد القوانين الجائرة التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة، والتي كانت تحاول طمس الهوية الوطنية للشعب الجزائري"، حسب تصريح لعبد الباسط شرقي لموقع TRT عربي.

يضيف الباحث الجزائري في التاريخ الحديث والمعاصر أن فرنسا توظف المسألة الأمازيغية والأطروحة العروبية، على حسب السياقات وما يخدم مصالحها؛ "ذلك أنها استعملت المسألة البربرية بهدف استدراج القبائليين (نسبة إلى منطقة القبائل الأمازيغية بالجزائر) إلى جانب المحتلين خلال فترة ما قبل انتفاضة القبائل عام 1871، ثم تراجعت بعد ذلك لصالح الأطروحة العروبية كرد فعل ضد القبائل الثائرة، ثم عادت إلى المسألة بعد الحرب العالمية الثانية سنة 1945 نتيجة لتحالف القوميين العرب مع النازيين الألمان".

ويعترف العديد من المؤرخين، أمثال الفرنسي شارل روبير أجرون، في كتابه "الجزائريون المسلمون وفرنسا 1871 ــ 1919"، بأن فرنسا استحدثت ما يطلق عليه بـ"الأسطورة القبائلية"، التي تقول إن هناك اختلافات في الشكل والأصل وإن عرق الأمازيغ أوروبي.. وتزعم أن العرب والقبائليين لا يتفقون إلا في محور واحد، هو تبادل الكراهية، خلال الفترة بين سنوات 1837- 1957، والتي عمل بعض الفرنسيين على ترويجها بدءاً من 1863 لمواجهة مشروع "المملكة العربية لنابليون الثالث".

وعملت الإدارة الاستعمارية في البداية على منح المناطق الأمازيغية بالجزائر استقلالاً قضائياً وتنظيمياً، يرتكز على المؤسسات العرفية كـ"ثاجماعت" (وتعني الجماعة باللغة الأمازيغية).غير أن فرنسا، بحسب الباحث الجزائري شرقي عبد الباسط، "سرعان ما تراجعت عن هذه الأسطورة، بعد أن تيقنت من أن القبائليين، وعوا بخلفيات الخطوات العنصرية لفرنسا".

من جهته أبرز، الباحث المتخصص في التاريخ همال عبد السلام في بحث له بعنوان"المدرسة التاريخية الاستعمارية الفرنسية بالجزائر 1830ـ 1962"، إلى أن فكرة تقسيم أبناء الوطن الواحد إلى أعراق عديدة وضرب هذا بذاك ظهرت في مصر، حيث وظفها نابليون خلال حملته، قبل أن يتبناها رجال الاستعمار الفرنسي، إلى الجزائر؛ حيث لجأت فرنسا، إلى استعمال هذا السلاح بين فئات السكان، ثم بين الفئات نفسها، بل وأيضاً داخل العائلات المؤثرة.

سياسة عنصرية بالمغرب

استعمرت فرنسا المغرب، سنة 1912، بعد توقيع معاهدة الحماية، التي تنازل من خلالها السلطان المغربي عن سلطاته لصالح فرنسا. وبعد سيطرته على المركز، اعتمد المستعمر التوجه نفسه الذي تبناه في الجزائر، من أجل بسط حضوره في باقي الجهات والمناطق، خصوصاً الأمازيغية التي عُرفت بصمودها ومقاومتها الشديدة لفرنسا، ولهذه الغاية استقدمت الجنرال الفرنسي "هانريس" من القبائل بالجزائر، وانطلقت في "السياسة البربرية للحماية"، التي كان العسكري الفرنسي مُنظّرها.

تقوم سياسة الجنرال في الجيش الفرنسي، حسب المؤرخ المغربي حسن أوريد، "على التفرقة، والتي كانت اجتماعية أساساً، أكثر منها لغوية"، يضيف المتحدث: "بعد قدوم هانريس إلى المغرب، قام بجولة إلى عدد من المناطق الأمازيغية بالأطلس الصغير والمتوسط، وخلالها، قدم مذكرة إلى المقيم العام الفرنسي بالمغرب ليوطي".

على ضوء هذه المذكرة، يضيف أوريد في تصريحه لموقع TRT عربي، أنّه تم اتخاذ أول خطوة في "السياسة البربرية"، من خلال سنّ ظهير سنة 1914، الذي يفيد بأن على المناطق الأمازيغية أن تخضع لتنظيم إداري وقضائي خاص، لأن لها عادات وخصائص مميزة، وتستند على العرف وليس على الشرع، ثم أنهم ينتخبون ممثلي وشيوخ قبائلهم، وأن ولاءهم للسلطة المركزية هش، عكس المناطق المعرّبة.

"هذه الخطوة كانت العنصر الأساس في السياسة البربرية"، يكشف أوريد، مبرزاً أن الضابط هانريس، الذي كان المستشار الأساسي للسلطة الفرنسية في قضايا الأمازيغية، نقل تجربته بمنطقة القبائل، إلى المغرب.

العنصر الثاني في السياسة التفريقية الفرنسية، هي استعمال قُواد المناطق والأقاليم للعمل لصالحها مقابل امتيازات خاصة، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى. فيما كانت الآلية الأخيرة التي عمدت إليها السياسة الفرنسية، حسب أوريد "إنشاء مدارس مدنية وعسكرية خاصة لتكوين نخبة بربرية، تتحدث الفرنسية والأمازيغية، كان الهدف من ورائها تمييزيا".

"الكل ضد الكل"

"فرنسا استعملت الكل ضد الكل"، يقول المعطي منجب، حيث حاول المقيم العام بالمغرب ماريشال ليوطي، ألا تستنزف فرنسا، التي دخلت في الحرب العالمية الأولى، قواتها الحربية بالجزائر والمغرب، وبالتالي ركزت على "إشعال الحزازات بين القبائل التي بينها صراعات وعداء تاريخي، من أجل الإلهاء عن عدوها الحقيقي"، يضيف المتحدث أن "فرنسا استعملت أبناء هذه القبائل للانضمام للجيش الفرنسي لضرب القبائل الأخرى العدوة، كما وظفت قادة وباشوات المناطق بعدد من جهات من أجل بسط سيطرتها، والتركيز على جبهات الحرب العالمية".

الاستعمار الفرنسي، حسب منجب، لم ينهج سياسة "فرّق تسد" فقط في الجوانب العرقية اللغوية، بل أيضاً على المستوى الديني، حيث قامت في الجزائر بتقريب اليهود الجزائريين منها، عبر إعطائهم الجنسية، وفق مرسوم "كريميو" وزير العدل آنذاك سنة 1878، وفي المغرب سعت إلى التقرب منهم، وحاولوا فرنستهم، فأصبح الكثير من المسلمين المغاربة ينظرون إلى اليهود كأنهم فرنسيون".

وحول نجاح السياسة التفريقية الفرنسية، قال "منجب إنها كانت محدودة، ولم تفلح في بلوغ أهدافها المنشودة، وكان لها أثر عكسي، مع تصاعد الوعي الوطني وضرورة مقاومة الاستعمار، وهذا ما تأتّى بالسلاح ثم بالسياسة"، على حد تعبيره.

ركزت الدراسات الكولونيالية الفرنسية، على إبراز الاختلافات القائمة بين ساكنة شمال إفريقيا، بين الأمازيغ، السّكان الأصليين والعرب (Getty Images)
استعمرت فرنسا المغرب، سنة 1912، بعد توقيع معاهدة الحماية، التي تنازل من خلالها السلطان المغربي عن سلطاته لصالح فرنسا (Getty Images)
استغلّت فرنسا التنوع العرقي واللغوي بالنسيج المجتمعي المغاربي، سلاحاً لصناعة الصراعات والتفرقة بين أبناء البلد الواحد (Getty Images)
استعملت فرنسا كل الوسائل المادية والمعنوية، من أجل إخضاع الشعب الجزائري، ما أدى إلى إسقاط الملايين بين قتلى ومصابين (Getty Images)
TRT عربي