تابعنا
من المعروف أن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أثّر بأشكال متعدّدة على حياة الناس، إيجاباً وسلباً أيضا. كيف تغيّر مواقع التواصل حياة الناس وتؤثر فيها وتشوّهها؟ متخصصون يجيبون على ذلك.

خلف صفحات الشبكات الاجتماعية كفيسبوك وتويتر وإنستغرام، يوجد أقوى وأبدع العقول البشرية في زمننا الحاضر، في مجالات الهندسة وعلم النفس والفنون، لكن أمام شاشة الهاتف الذكي التي تطلّ من خلالها هذه الصفحات يوجد أناس لم يحظوا بالتأهيل والتحضير اللازم لاستعمالها على النحو المطلوب.

الملاحَظ هنا أن الفكرة التي أصبحت مسيطرة حول مواقع التواصل الاجتماعي أضحت تنطوي على سلبيات كثيرة، ومن الصحيح أيضاً أن الساعات الطوال التي نقضيها في تصفحها، على نحو قد يرقى إلى المستوى المَرَضِيّ أحياناً، ليس من قبيل الصدفة، بل أولئك العقول يعملون حقّاً على تمطيط فترات التصفح إلى أقصى حدّ، إلا أن هذه التقنية في ذاتها تحمل فرصاً ومساوئ تتفاوت درجتهما حسب المستخدم.

فيسبوك، على سبيل المثال، كان في بدايته كحديقة خضراء يرقص فيها النسيم، كان جميلاً ولطيفاً، والناس من مختلف الأعمار والشرائح كانت ترفع أصواتها عالية في وصف حسنات الموقع الأزرق.

ماذا حصل حتى تغيرت الأفكار في وقت وجيز بالكاد يتجاوز عشر سنوات؟ أي مخاطر وتشوهات صارت تستحوذ على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وماذا عن نواقيس الخطر التي تحذّر من احتمال تأثير هذه التكنولوجيات الجديدة على الطاقة العقلية البشرية؟ هذا المقال يحاول بسط بديهيات قلّما يُسلَّط عليها الضوء.

ذكاء الهاتف!

قبل نحو عشر سنوات كان ولوج مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما فيسبوك بالدرجة الأولى، يجري أساساً من خلال الحواسيب الثابتة والمحمولة، وكان الجميع سعيداً إلى درجة أنْ لا أحد انتبه لدخول الشركات والمقاولات التجارية على خط هذه الشبكة الاجتماعية، مزاحمةً الأفراد على ذات الفضاء الجديد.

اليوم حينما نتحدث عن التشوهات التي تصيب حياة الناس جرَّاء الاستعمال المكثف للمواقع الاجتماعية، خصوصاً الشباب باعتبارهم المعمِّرين الفعليين لهذه الفضاءات، يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أننا نتحدث بالدرجة الأولى عن سياق انتصرت فيه الهواتف الذكية على الحواسيب بالضربة القاضية، إذ فرضت نفسها بشكل ديكتاتوري على جميع المستخدمين.

فإذا جاز لنا أن نصف المرحلة الأولى لاستعمال مواقع التواصل الاجتماعي بالفترة الذهبية، إذ كانت وعودها الأولية شبيهة بنشيد "أبطال الديجيتال"، فإنه من غير المناسب أن نحمِّلها وحدها مسؤولية الوضع الحالي، وذلك بعدما قدمت لنا - ولا تزال- كثيراً من المتعة والسعادة في بدايتها.

المعادلة السليمة، في نظر مجموعة من المختصين والخبراء، تفرض تأكيد أن القسط الوافر من المسؤولية، في ما يخصّ التشوهات التي طرأت على حياة الناس، لا يرجع إلى المواقع الاجتماعية تخصيصاً، بل إلى الهواتف الذكية التي يصل ذكاؤها إلى حدود القدرة على سلب الحياة والسيطرة عليها.

مدمنون من نوع جديد

في السابق لما كان الحديث يجري عن الإدمان كانت الصورة تحيل إلى مدمني المخدرات، المجازُ من جهته كان يبدع أحياناً لينتقل إلى جعل المخاطرة والتحدي من قبيل الإدمان، فيصير شخص معين مدمناً على المخاطرة والأدرينالين. في أيامنا حاليّاً أصبح يوجد مدمون من طبيعة جديدة.

إدمان مواقع التواصل الاجتماعي يختلف بداهة عن بقية الأنواع الأخرى، وهو، وفق متخصصين، إدمان نفسيّ أساساً، يظهر في الهوس الجامح بالرغبة في الشعور بأننا لا نزال نحيا في المجتمع، وأننا نوجد، ونهمّ أحداً ما، إذ ينعكس ذلك في نوعية وحجم المشاركات والتفاعل على صفحات الشبكات الاجتماعية.

ورغم أن مواقع مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام تخلق نوعاً حادّاً من الإدمان يصعب الفكاك منه، لا سيما أن الغرض التجاري أضحى واضحاً أكثر في توجه الشركات التي أسست هذه المواقع، الأمر الذي يجعلها تطور أساليب الاستمالة، فإن في ما يخصّ الشبكات الاجتماعية وجهاً آخَرَ إيجابياً، حسب الصحفي المتخصص في الميديا والتكنولوجيات الجديدة حمزة الترباوي.

"في استعمال مواقع التواصل يجب التمييز بين الأداة ومستخدمها. برأيي مواقع التواصل الاجتماعي إيجابية جدّاً؛ مَن كان يتخيل أن يكون لديك أشخاص مثلك في الفكر والأذواق ومن أنحاء العالَم كافة؟ من كان يتخيل أن تجد نجمك المفضل يردّ عليك، وأن تنشر أفكارك ومواهبك لتصل إلى أكبر عدد من الناس في مدينتك وبلدك ومنطقتك والعالَم بأسره؟"، يقول الترباوي.

ويضيف في حديثه لـTRT عربي: "نعم، لا بد من الاعتراف بأنه قد يكون صعباً التحكُّم في استخدام مواقع التواصل، فهي وُجدت لتُبقِيَك داخلها لأطول وقت، لكن إذا كنت تدخل لتستمتع وتستفيد وتخرج للعالَم الواقعي حيث تعيش العلاقات الواقعية وتبني نفسك، فهذا يُعتبر نموّاً صحيّاً واستخداماً مناسباً لمواقع التواصل. العيب ليس في الأداة، بل في مستخدمها".

حدود تتلاشى!

إذا كان قد عُرف عن الفيلسوف الألماني هيغيل مقولته الشهيرة "كل ما هو عقلي فهو واقعي، وكل ما هو واقعي فهو عقلي"، في عصر الثورة الرقمية ومواقع التواصل والذكاء الاصطناعي، بات الجميع الآن قادراً على القول إن "كل ما هو واقعي فهو افتراضي، وكل ما هو افتراضي فهو واقعي".

بعيداً عن أن يُفهَم مِمَّا سبق الاعتقاد الشائع عند كثيرين حول أننا شهدنا انتقالاً نحو البعد الرقمي، وهي مسألة صحيحة بكل الأحوال، فإن الحاصل حقيقة هو أننا فقدنا البعد الواقعي، ممَّا أفسح المجال أمام تلاشي الحدود بين الإنسان، والآلة، والطبيعة.

تلاشي الحدود بين هذه العناصر الثلاثة، الذي يتجسَّد مثاله الأبرز في مواقع التواصل الاجتماعي التي تمتلك من "السحر" ما يجعل المستخدم يعقتد أنه بمعية أناس "حقيقيين" إذ يتواصل عبر شاشة، ليس مجرد عملية تقنية باردة لا تداعيات لها، بل ذهاب هذا التلاشي خطوات إضافية أخرى من شأنه أن يضع قيماً وقدرات بشرية على المحك، خصوصاً إذا سقطت جميع الفئات العمرية في فخّ الشبكات الاجتماعية.

العوارض الأولى لهذه التحولات، حسبما يشير باحثون، تكمن في أن التعرُّض المفرط لفيسبوك وإنستغرام وغيرهما، يغذّي كثيراً السخط والتذمُّر والقسوة أكثر من أي شيء آخر، بما يعرض التعاطف الإنساني الذي طوَّرَته البشرية آلاف السنين لخطر حقيقي.

"مواقع التواصل الاجتماعي تعيد تشكيل منظومة جديدة من القيم يختلط فيها الافتراضي بالواقعي، وذلك نظراً إلى الكَمّ الهائل من الرسائل والمضامين المصحوبة بحمولتها الثقافية التي تنتجها، الأمر الذي يُفضِي إلى إعادة تشكيل تمثلاتنا تجاه الأنا والآخر. إنه شكل من أشكال الاغتراب الذاتي"، يشرح الباحث في علوم الإعلام والتواصل وليد أتباتو لـTRT عربي.

ويردف: "هذه المنظومات الشبكية المعقدة تستدعي الاعتماد على مشروع التربية الإعلامية والمعلوماتية لتطوير مهارات وكفايات تمكن الفرد من التعامل بالشكل الأمثل مع الإعلام فهماً واستهلاكاً واختياراً وإنتاجاً. هذا المشروع تعتبره اليونسكو جزءاً من الحقوق الأساسية لكل مواطن".

اقتصاد الانتباه

بالوصول إلى هذه المراحل من العصر الرأسمالي، المفروض أن الجميع يجب أن يكون قد شفي من وهم شيء اسمه المجانية، لكن في العلاقة مع مواقع التواصل الاجتماعي، المجانية، لا يبدو أن هذه الملاحظة تنطبق على المستخدمين.

ولئن كان الاعتقاد باقياً حول مجانية خدمات تطبيقات فيسبوك وأصدقائه من الشبكات الاجتماعية، لدى عدد كبير من الناس، فحقيقة المسألة أن المستخدم يقدّم مقابلاً محدود الوفرة: الانتباه.

فإذا كانت العباراة الشائعة تقول "أعِرْ الانتباه" دلالةً على القيمة الكبيرة له باعتباره شيئاً ينبغي المحافظة عليه، فإن سلوكات معظم مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تدلّ على أنهم لا يُعيرُونها، إنما يُهدُونها.

القدرة على الانتباه والتركيز هما من الشروط الرئيسية للاستقلالية، والمسؤولية، والتفكير، والتعددية، والالتزام، ناهيك بالبحث عن المعنى، لكن يظهر أن التشوهات التي ألحقتها مواقع التواصل الاجتماعي بالحياة، جرَّاء عدم تَمكُّن أغلبية الناس منها، جرفت في طريقها كل هذه الأشياء.

التشوهات التي طرأت على حياة الناس، لا ترجع إلى المواقع الاجتماعية تخصيصاً، بل إلى الهواتف الذكية التي سلبت الناس القدرة على الحياةوالسيطرة عليها (Getty Images)
إدمان مواقع التواصل الاجتماعي يختلف بداهة عن بقية الأنواع الأخرى، وهو، وفق متخصصين، إدمان نفسيّ أساساً (Getty Images)
التعرُّض المفرط لفيسبوك وإنستغرام وغيرهما، يغذّي كثيراً السخط والتذمُّر والقسوة (Getty Images)
TRT عربي