تابعنا
"مختلون عقليا"، هذا هو اللفظ الذي اختار المجتمع أن يطلقه على فئة الصمّ في غزة. والسبب هو لغة الإشارة التي يتواصلون بها مع بعضهم البعض. لكنّ هبة وإيمان تريدان أن تثبتا للعالم العكس.

غزة ــــ هبة وايمان أختان تنتميان إلى فئة الصم. تكبر الأولى الثانيةَ بعام واحد فقط. ولدتا بهذه الإعاقة من أب وأم ناطقين، لديهما أخت ثالثة بعمر 12، تشاركهما نفس الإعاقة.

كانت الحياة مختلفة لدى هبة، إذ تملؤها الطاقة والحيوية التي تظهر بابتسامتها الدائمة، وهي تحاول أيضاً دعم أختها إيمان حتى تصبح مثلها، وحتى تكون قادرة على مواجهة كل الصعاب والنجاح في حياتها.

يجمع الأختين حلم النجاح، غير أن المجتمع يضع أمامهما أحياناً عقبات في هذه الطريق. هبة تكافح هذه العقبات، وإيمان تستسلم لها أحياناً.

صعوبة إنهاء الدراسة

هبة أبو جزر (25 عاماً)، أنهت دراستها الجامعية بدرجة دبلوم تخصص التكنولوجيا والإبداع. كان لديها خوفٌ كبير من رفض المجتمع لها منذ بداية حياتها، بسبب النظرة السلبية لها منذ طفولتها، بالإضافة إلى عدم قدرتها على الخروج إلا بمرافقة أحدٍ من أهلها لحمايتها من التعليقات السلبية.

هذا الأمر بدأ يقوّي من شخصية هبة حتى أنهت المرحلة الإعدادية، لكنها سرعان ما عادت للمكوث في البيت لمدة ثلاثة أعوام، بسبب غياب مرحلة ثانوية للصمّ في غزة.

بمعاونة مساعِدتها التي تفهم لغة الصمّ، استطعنا التواصل مع هبة لتحكي لنا بعضاً من معاناتها.

تحكي هبة لـTRT عربي: "بداية الصّعاب كانت مع إنهاء المراحل الدراسية كاملة. وبالرغم من الصّعوبات، إلا أنني أردتُ إكمال دراستي حتى النهاية. غيابُ المرحلة الثانوية للصمّ جعلتني أعود للجلوس في البيت، وهو أمر محزن ومؤلم، لكنني بعد عامين عدتُ إلى المدرسة، ومن ثمّ التحقتُ بالجامعة حتى أنهيت دراستي الجامعية".

تجدر الإشارة إلى أنّ التخصص الوحيد المتوفر في قطاع غزة لذوي الإعاقة السمعية هو تخصص التكنولوجيا والإبداع فقط، إذ تغيب خيارات أخرى أمام فئة الصم، ما يحرمهم من تحقيق أحلامهم ومواصلة الكدّ في التخصصات التي يحبها كل واحد منهم.

قسوة المجتمع

"مختلون عقليا"، هذا هو اللفظ الذي اختار المجتمع أن يطلقه على هذه الفئة. والسبب هو لغة الإشارة التي يتواصلون بها مع بعضهم البعض.

ولا يخفي الكثيرون نفورهم من فئة الصم، ما يجعل هؤلاء يتوجهون إلى مؤسّسات ترعى فئة الصم فقط. غير أن هبة تغلّبت على هذا، واستطاعت فرض شخصيتها متحدّية كلّ شيء لتحقيق أحلامها.

تقول: "لا أحب الانطواء على نفسي. عندما يعلق أحد علي بشكل سلبي، لا أحزن كثيراً لأنني أتقبل أن الله خلقني بهذه الصورة"، مضيفة: "ما لا يعرفه الناس أن التعامل معنا سهل، ولا يحتاج إلا إلى حبّ واحترام فقط".

هبة مهتمة أيضاً بالالتحاق بالدورات التكوينية والتدريبات، وتملك شغفاً كبيراً بالتصوير والتصميم. كما أنها مهتمة بالمبادرات من أجل دعم المرأة ومساندتها، وكثيراً ما تشارك فيها.

قلة فرص الشغل

لغة الإشارة هي السّبب الأول لحرمان هبة من الحصول على فرصة عمل؛ إذ يتعامل الكثيرون مع الصم على أنهم أشخاص أقلّ قدراتٍ وذكاءاً. مؤسسات المجتمع التي ترعى الناطقين لا يمكنها إتاحة فرصٍ للصم، وهذا الأمر يزعج هبة جداً. فطموحها الكبير جعلها ترغب دائماً بتطوير نفسها، عن طريق الحصول على تدريبات في كافة المجالات من أجل العمل. غير أن الرفض الذي يأتيها دائماً يجعلها أحياناً محبطة.

تقول: "لدي ذكاء وقدرات تمكنني من العمل في أي مكان، ومن حقي ذلك. لا أريد العمل بدون مقابل فأنا بحاجة إلى المال للاستقلال بنفسي ومساعدة عائلتي، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصّعبة المحيطة بنا اليوم".

وتضيف: "أحزن بشدة عندما أرى ردود أفعال المشغلين وهم ينظرون إلى حركات يدي حين أتواصل بلغة الإشارة، فيرفضون تشغيلي دون اختبار قدراتي في العمل".

مواقع التواصل.. انفتاح

في البداية، لم يكن لدى هبة أصدقاء إلا من فئة الصم، هؤلاء الذين يتحدثون بنفس لغتها، وتجمعها بهم الثقة والتفاهم.

لكن انفتاح هبة على المجتمع وكسرها للحواجز أتاح لها إيجاد طريقة أخرى للتفاهم مع الناطقين. فتحت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي إنستغرام وفيسبوك، ومن خلالهما، صارت تتواصل مع الناطقين كتابياً. فتوسعت دائرة داعميها ومشجعيها.

تقول: "الكتابة وسيلة جيدة للتواصل مع الأشخاص الناطقين، كما أنني قادرة على التواصل معهم عن طريق مشاركة العديد من المنشورات والآراء، أتاحت لي مواقع التواصل أيضاً مشاركة فيديوهات أتحدث فيها بلغة الإشارة لأوصِل إلى العالم آرائي باللغة الوحيدة التي أستطيع التواصل بها".

الأطفال يفهمون ببراءتهم

تعمل هبة الآن مع الأطفال الناطقين، تلعب معهم وتنظم لهم أنشطةً ترفيهية. الأمر صعب بالنسبة لشابة من فئة الصم أن تتعامل مع أطفال ناطقين، غير أن هبة استطاعت كسر حاجز الخوف بينها وبينهم، فطريقة تعاملها الجيدة جعلتهم يستطيعون فهمها.

"في البداية، كنت أشعر أنهم خائفون مني، وكانوا يجدون حركات يدي وأنا أتواصل بلغة الإشارة غريبةً جدا، لكن مع الوقت، اعتادوا عليّ، لأنني أعاملهم بلطف ومحبّة. بل إن بعض هؤلاء الأطفال بدأوا يتعلّمون لغة الإشارة، وصاروا يحاولون تقليدي والتواصل معي بها.

"جميلة لكنّك لا تتكلّمين"

إيمان (24 عاماً) أنهت دراستها في تخصص مشابه لهبة، وهو تكنولوجيا الإبداع. ترافق أختها بشكل دائم، وتحاول أن تتعلم منها وتكسر حواجز الخوف التي بنيت حولها بسبب تعليقات المجتمع القاسية. هذه الأخيرة جعلتها تفضل البقاء في البيت على الدوام.

تحكي إيمان لـTRT عربي بحزن: "التعليقات السّلبية وتعليقات الشفقة تشعرني بالحزن والنفور. تتردد عليّ دائماً جملة أكرهها "أنت جميلة، لكنّك لا تتكلمين"، لا يريدون أن يفهموا أن هذا ليس ذنبي، فالله شاء أن يخلقني هكذا. أشكر الله أن هناك بعض الأشخاص المتفهمين الذين يتقبلوننا كما نحن ويتعاملون بلطف وطيبة".

دعم الأهل وتشجيع متبادل

تتلقى إيمان وهبة دعماً كبيراً من عائلتهما. إنها نقطة الأمل الوحيدة التي تخول لهما الانطلاق من أجل الاندماج مع المجتمع والتعلم وتطوير قدراتهما.

تقول إيمان: :"في البداية كان والدي يرفض خروجنا من البيت خوفاً علينا من الكلام والتعليقات الجارحة، لكن بعد أن التحقنا بدورة في التصوير، وشاهد سعادتنا بها، صار يشجعنا دائماً ويعطينا النصائح من أجل حماية أنفسنا، أما والدتنا فهي المعين لنا على تحمل كل المواقف السيئة التي نتعرض لها".

لا تزال إيمان متأثرة بالتعليقات على إعاقتها، ولا يزال الخوف من الاندماج يعشش داخلها. حلمُها اليوم أن تصير أكثر جرأة وقوة مقتديةً في ذلك بأختها هبة. هذه الأخيرة تشجع أختها على الالتحاق بالدورات التكوينية والخروج الى أماكن ترفيهية والانفتاح على العالم.

في هذا السياق، تقول إيمان:" أصبحت أهتم أكثر بالأنشطة والدورات، نحن نساعد بعضنا البعض من أجل الاستفادة بشكل كامل، وهي علمتني كيف أتعامل مع المجتمع، رغم أنني لستُ نشيطة مثلها، لكنني أحاول ما أمكن بناء شخصية قوية".

العمل حلمهما

يجمع هبة وإيمان حلم واحد وهو الحصول على فرصة عمل تثبتان بها ذاتيهما ووجودهما ومساهمتهما داخل المجتمع. تحلمان أيضاً بأن تمتلك فئة الصم حقوق الناطقين ذاتها بالتساوي.

تعني لهما فرصة عمل الشيء الكثير؛ فبالإضافة إلى إثبات الذات، ستتيح لهما إعالة نفسيهما ومساعدة عائلتهما.

تقول هبة": "نحن ثلاث فتيات صمّاوات في المنزل، ونحتاج إلى مصاريف خاصّة وبطاريات شحن لسماعات الأذنين باستمرار، وهذا مكلف جداً بالنسبة لوالديّ. نريد على الأقل أن نتكفّل بهذا النوع من المصاريف بأنفسنا".

للصمّ حق الحياة أيضاً

فاطمة زعرب مترجمة لغة الإشارة والمرافقة الدائمة لهبة وايمان منذ الطفولة. هي بمثابة مربيتهما، وتعتبرهما من أنشط وأذكى الفتيات اللاتي تعاملت معهن.

تقول في حديثها لـTRT عربي "الصم أشخاص رائعون جداً، وأنا أتعلم منهم القوة والاستمرار في الحياة. من أجلهم، قررت تعلّم لغة الإشارة وترجمتها. إنهم أشخاص أذكياء أيضاً، ولا يختلفون عن الناطقين في أي شيء، وقدراتهم لا تقلّ شيئاً عن الأشخاص الآخرين".

وتضيف: "لغة الاشارة سهلة جداً، وأتمنى أن تكون للجميع إرادة تعلمها كي يعرفوا كيف يتواصلون مع الصم. أنا أدعم حق هذه الفئة في المشاركة في جميع الأنشطة والتخصصات والحصول على فرص عمل في أي مجال بدون استثناء؛ لأنهم قادرون على العطاء، ولا يوجد شيء يمنعهم من الإبداع والنجاح".

وقد ذكر جهاز الإحصاء المركزي في آخر إحصائيات له أن عدد الأفراد ذوي الصعوبات في قطاع غزة قد بلغ 127.962، أي ما نسبته 6.8% من مجمل السكان في قطاع غزة، كما أن هناك ارتفاعاً في نسبة البطالة حيث تصل إلى 53% في غزة.

تعمل هبة وإيمان مع الأطفال الناطقين، تلعبان معهم وتنظمان لهم أنشطةً ترفيهية (TRT Arabi)
لا تزال إيمان متأثرة بالتعليقات على إعاقتها، ولا يزال الخوف من الاندماج يعشش داخلها، لكنها أختها تشجعها على تجاوز ذلك (TRT Arabi)
لغة الإشارة هي السّبب الأول لحرمان هبة وإيمان من الحصول على فرصة عمل؛ إذ يتعامل الكثيرون مع الصم على أنهم أشخاص أقلّ قدراتٍ وذكاءاً (TRT Arabi)
في البداية، لم يكن لدى هبة وإيمان أصدقاء إلا من فئة الصم، هؤلاء الذين يتحدثون بنفس لغتهما، وتجمعهما بهم الثقة والتفاهم (TRT Arabi)
هبة لا تحب الانطواء على نفسها. عندما يعلق أحد عليها بشكل سلبي، لا تحزن كثيراً لأنها تتقبل أن الله خلقها بهذه الصورة (TRT Arabi)
بالرغم من أن الأطفال الذين تشتغل معهم هبة وإيمان ناطقون، لكنّهم تعودوا على لغة الإشارة وأصبحوا يفهمونها جيدا (TRT Arabi)
بداية الصّعاب بالنسبة لهبة كانت مع إنهاء المراحل الدراسية كاملة، وبالرغم من الصّعوبات، إلا أنها أرادت إكمال دراستها حتى النهاية (TRT Arabi)
TRT عربي