متلازمة بيكا (Getty Images)
تابعنا

هذه الرغبة الشرهة في تناول مواد تعتبر في الغالب خطرة على صحة الإنسان، صنفتها منظمة الصحة العالمية ضمن اضطرابات الأكل، لكن علم النفس يربطها بأمراض نفسية وعقلية أيضاً. وفي الكثير من الثقافات يجري ربط الاضطراب بالشعوذة والمس بالجن.

يلتهم الزجاج والحديد وشفرات الحلاقة، وفوق يده تمر الشاحنات دون إحداث كسور، يدق مسماراً حاداً وكبيراً في أنفه، ويثقب وجهه بالإبرة ويمرر الخيط دون أن تسيل دماء. ليس جنياً، إنه هشام تجنيدة، شاب عشريني ينحدر من مدينة أولاد تايمة (جنوبي المغرب).

يعتبر نفسه من أصحاب القوى الخارقة الذين كلما تقدم بهم العمر زادت قدراته، وكل مرة يكتشف أنه قادر على تجاوز آخر عتبات الخطر التي وصل إليها، يحكي هشام في حديث لـTRT عربي، "عندما كنت طفلاً، كنت آكل السمك بأشواكه، ولا يحصل لي شيء، وعندما قلدني أخي الأصغر اضطرت العائلة إلى نقله للمستشفى". هذه واحدة من الحوادث التي نتجت عن تقليد هشام، الذي كلما نشر لنفسه فيديو يذكر مشاهديه بأن الأمر لا يعتبر تحدياً ولا يمكن تقليده لأنه قد يؤدي إلى خطر الوفاة.

وعن طفولته، يحكي هشام "كنت عرضة في صغري للكثير من الحوادث المميتة، سقطت في بئر وتعرضت لحادث سير دخل على إثره الحديد في رأسي. سقطت من شرفة المنزل إلى الشارع، وعضتني عقرب سامة في البادية، والعديد من الحوادث الخطيرة لكني أنجو بسهولة". اليوم يقول هشام إن العقرب إن عضته ماتت، وإن بصق عليها تيبست. لكن خلافاً لأسماء مغربية أخرى، من أصحاب القدرات الخارقة "لم أشارك في مسابقات، ساهمت بعروض ضمن أحداث فنية فقط، كعارض يبرز مواهبه ثم يتلقى أجراً" يقول هشام.

عامل نفسي قاهر!

عانى هشام سابقاً من اكتئاب وحاول الانتحار بتناول الكثير من الأشياء المؤذية، "حين لم يمسني ضرر علمت أني فعلاً أتمتع بقوى خارقة وبدأت في تسجيل الفيديوهات ومشاركتها وعرض قدراتي في تظاهرات مختلفة في المغرب".

وعن الرغبة في تناول هذه الأشياء، وصف هشام الأمر بالقول "لا ينقصني أكل في بيتنا، لكني أشتهي تناول هذه المواد الخطيرة، لا أتمالك نفسي"، هكذا يصور هشام حالته النفسية في علاقتها بما يتناوله. مبرزاً أنه يعتقد أن ما يتميز به هو عطاء وقدرات من الله، لا علاقة له بالمس أو الجن أو السحر. مؤكداً "استشرت سابقاً رجال دين ورقاة وأخبروني أنه لا علاقة للجن بهذا الأمر".

رأي العلم والطب

مريم السبتي، دكتورة مغربية اختصاصية في علم النفس السريري، أوضحت في حديثها لـTRT عربي، أن اضطراب "بيكا" مصنف ضمن الاضطرابات النفسية، ومن علاماته الرغبة في تناول مكونات غير صالحة للاستهلاك البشري مثل الطين والحجر وغيرها من المواد. ويمكن تصنيف الاضطراب وتأكيده بعد إدمان تناول إحدى المواد أكثر من شهر. وأبرزت المتحدثة أنه يصيب كل الفئات العمرية انطلاقاً من سن 3 سنوات، على أساس أن يكون الطفل واعياً بما يأكله.

وشددت الاختصاصية في علم النفس العصبي المتخصصة في صعوبات التعلم عند الأطفال، أن العلماء يفرقون بين اضطراب "بيكا" كمتلازمة، وبين كونه مؤشراً فقط على مرض نفسي أكثر حدة مثل التوحد أو تأخر النمو العقلي أو غيرها من الأمراض النفسية، أو العقلية مثل السكيزوفرينيا.

وعن إصابة النساء الحوامل باضطراب "بيكا"، تقول الدكتورة إن للأمر علاقة بالثقافة والاعتقاد الشعبي، وما يغذيها هو الأفكار السائدة حول المرأة الحامل وعدم منعها من تناول كل ما تريده خاصة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل، وهو ما قد يسبب لها مشاكل. وأوضحت مريم السبتي أن الدراسات لم تثبت إلى اليوم أن الجنين قد يرث عن الأم هذا الاضطراب.

سألنا هشام عن رأي الأطباء في حالته، ورد قائلاً "زرت أكثر من طبيب، وأظهرت الفحوصات أن ما آكله من معادن فعلاً موجود في معدتي، لكن الأطباء لم يفسروا لي شيئاً أو يشرحوا، يكتفون بالاندهاش. أما أنا فلا أشعر بشيء فجأة يختفي كل ما أكلته، ويهضم بشكل طبيعي. أما عن "بيكا" فأكد لنا هشام أنه "لم أسمع أبداً به من قبل، لم يشخصني طبيب بأني مريض في المغرب، يكتفون بالتعجب ولا ينصحونني بأي علاج".

كثير من المصابين بمتلازمة "بيكا" لا يعلمون بذلك، كما أنهم لم يسمعوا يوماً باسمه أو أعراضه، ولم يكتشفوا أنهم رقم ضمن إحصائيات عالمية حول هذا المرض النفسي، الذي شغل بال الأطباء والعلماء، الذين أجروا حوله دراسات كثيرة.

اكتشاف الداء نصف الدواء!

سناء، حالة أخرى من مرضى "بيكا" المزمن، اكتشفت أن إدمانها الغريب له تسمية علمية بفضل منشور توعوي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، بعدما أخفت طيلة 20 سنة عن أهلها معلومة مهمة عن نفسها، وهي إدمانها على أكل طين الإسمنت الخاص بالبناء، الذي اقترن لديها براحة نفسية ولذة ورغبة جامحة لا تتحكم فيها إلا بمشقة.

إدمان تناول الإسمنت تسبب لسناء في مضاعفات صحية، إذ اكتشفت أنها تعاني من فقر الدم قبل مدة، وأخبرت الطبيب بأنها مدمنة على تناول طين الإسمنت والحجر خفية، ونصحها بالتوقف عن ذلك فوراً.

وبعد علمها بأمر "بيكا"، توقفت سناء عن استهلاك هذه المواد مخافة إصابتها بأمراض أشد فتكاً بالصحة، لكنها تحكي لـTRT عربي أن حالتها النفسية قد ساءت للغاية، "أصبحت سريعة الغضب وقلقة دائما ومتشنجة، وتتملكني رغبة جامحة في العودة إلى تناوله".

المجتمع والإرث الثقافي

تصاب النساء الحوامل باضطراب "بيكا" كثيراً، وقد يسمع الإنسان في دول إفريقية كثيرة وأخرى آسيوية كما في الأمريكتين، عن إدمان الحوامل لتناول مواد غريبة، قد تجعل السامع بها خائفاً على صحة الجنين أولاً. وحول ذلك تشرح الدكتورة مريم السبتي "إصابة الحامل باضطراب بيكا، له علاقة كبيرة بثقافتها والمجتمع الذي تنحدر منه، كما أثبتت الدراسات أنه تصاب به النساء الأقل تعليماً".

وما يقف أمام علاج هذه الأمراض أو على الأقل التعرف عليها والاعتراف بها حسب الخبيرة النفسية، هو الحاجز الثقافي الذي تسببه المعتقدات الشعبية أو الممارسات الدينية لكل شعب أو ثقافة على حدة، وعوض العمل على علاج المرض يتجه المصابون بمثل هذه الأمراض والاضطرابات إلى "الطبيب التقليدي" في ثقافتهم، وهؤلاء الأشخاص لايشجعون على التداوي الطبي والعلمي، وهو ما يمكن أن يسبب نتائج وخيمة.

وحين حديثنا مع هشام حول مدى تقبل محيطه لحالته، رد قائلاً "من يسمع بما أتميز به من قدرات، يربطها أحياناً بالجن والمس، لكن كل هذا لا يؤثر بي أبداً، أنا لا أخفي قدراتي بل أشتغل بها أحياناً"، مؤكداً أنه "عُرِضَ علي العمل بالشعوذة لكني رفضت، أنا مؤمن بالله".

وعن إيمانه بأنه فعلاً موهوب، يقول هشام، "أرى تحديات على الإنترنت وأجدها سخيفة بالنظر لما أستطيع أنا القيام به، لكن لم يتبنّ موهبتي أحد"، متمنياً أن تكون قدراته سبباً في إيجاد سبيل لعروض وشهرة أكبر على الصعيد العالمي وليس محلياً فقط.

للجهل بالداء آثار وخيمة!

"غياب التوعية بهذا النوع من الاضطرابات والأمراض يلعب دوراً كبيراً، كما أن السماح بانتشار الفيديوهات والعروض علنياً رغم ما تحتويه من مشاهد عنف وقسوة تمثل خطراً على من يشاهدها"، حسب الخبيرة السبتي، التي دعت إلى ضرورة مراقبة ما يحمله الإنترنت للمشاهدين بخاصة اليافعين.

وأوضحت المتحدثة أن متلازمة "بيكا" غير معروفة، وغالباً ما لا يتم التعرف عليها إلا بعد أن يصل المريض إلى حالة صعبة بسبب تناول المواد غير القابلة للاستهلاك البشري ويصبح في حاجة عاجلة للاستشفاء، مشيرة إلى أن الأطباء نادراً ما يستطيعون تشخيصها، إما لعدم معرفتهم بها، أو لأنهم لم يصادفوا حالة سابقاً.

وشددت الاختصاصية النفسية على أن الآثار الناجمة عن هذا المرض تكون عبارة عن تعقيدات مرتبطة بالمادة التي يجري تناولها، وغالباً ما تظهر كتسمم أو أوجاع أو الإصابة بفقر الدم. وفي حالات كثيرة قد يؤدي تأخر التعرف على المرض أو الأعراض الخطيرة المترتبة عليه إلى عمليات جراحية مستعجلة وأحياناً إلى الموت.

أما إذا جرى التشخيص مبكراً، فالعلاج ممكن حسب السبتي، ويكون عبر جلسات طب النفس العلاجية وأيضاً عبر التدخل الطبي من قبل المتخصصين حسب الحالة وما أدمنت عليه من مواد.

TRT عربي