تابعنا
في إسطنبول وحدَها، يمكن للواحد أن يشعر أنه في جانبين مختلفين من العالم، ويختبر ثقافتين مختلفتين في نفس اليوم: الغربُ بتحرّره واندفاعه واحتفاليته بالحياة، والشرقُ بحدّته ودفئه وحميميته.

كلّ من يسيرُ في شوارع إسطنبول، غالباً ما يُراوده شعوران متناقضان، إذ يتخيل في بعض الأحيان، أنّه داخل بلدٍ أوروبي. لكنّ روائح الشرق ما تلبث تتناهى إليه في أحايين أخرى. في إسطنبول وحدَها، يمكن للواحد أن يشعر أنه في جانبين مختلفين من العالم، ويختبر ثقافتين مختلفتين في نفس اليوم: الغربُ واحتفاليته بالحياة، والشرقُ بحدّته ودفئه وحميميته.

في إسطنبول وحدَها، يُمكن للسّائر في شوارعها أن ينبهرَ من ذلك الانسجام السّلس بين عظمةِ المساجد البديعة، وشموخ الكنائس الخلاّبة، وجمالية المعابد الأخّاذة. ففي نفس الوقت الذي تصدحُ فيه المآذن بالآذان، تُدقّ أجراسُ الكنائس، وتتغنى المطاعمُ والمقاهي بحبّ الحياة، ويرقصُ الشّباب محتفلين في غبطةٍ وسرور.

هنا تتعايشُ العمامةُ والقبّعة، المحجّبات وغير المحجّبات... يعيشون معاً ويتشاركون نفسَ الشوارع وأماكن العمل والفضاءات العمومية في ألفة وتقبّل تامّ وانسجامٍ قلّ نظيرُه.

حميمية الشرق وعصرنة الغرب

يشعُر السّائر في حيّ جيهانكير بمنطقة بيوغلو بإسطنبول كأنّه داخل مدينةٍ صغيرة في بلدٍ أوروبي، خاصّةً في يومٍ غائمٍ وماطر، حيث يرتدي الجميع معاطِف طويلة وقُبّعاتٍ عصرية... الطابعُ الأوروبي المستحوذ على المنطقة يظهرُ جلياً أيضاً في بعض عاداتِ السّاكنة مثلَ تربية الكلاب والدأبِ على ارتيادِ المتاحف والمقاهي والمقاهي الأدبية والفنية، بالإضافة إلى نمط الحياة الذي يميلُ إلى المواظبةِ على السّهر والاحتفال.

في نفس الوقت، وفي ذات المكان، حين يرفعُ الواحد بصَرهُ قليلاً، يلمحُ تلك المئذنةَ الشرقية التصميم التي بُنيت لأول مرّة عام 1559 بأمر من السلطان سليمان القانوني. مئذنةٌ بديعة تصدحُ بالآذان في كلّ أوقات الصلاة، في الوقت الذي يستمرّ فيه شبابٌ كُثر في الاحتفال والرّقص على أنغام الموسيقى. وهو مشهدٌ غير غريبٍ أبداً في مدينةٍ كإسطنبول.

غير بعيدٍ عن جيهانغير، يتدفّق يومياً إلى شارع الاستقلال بمنطقة تقسيم خليطٌ مدهش من البشر على اختلافِ أعراقهم ودياناتهم ولغاتهم.

هنا لا فرقَ بين المحجّبة والتي ترتدي الجينز، بين من يرتدي البذلة ومن اختار البقاء في جلبابه، بين من يعتمرُ قبّعةً ومن يلبس عمامة، ما دامت إسطنبول تستطيع دائماً احتضان الشرق والغرب، واحتواء جميع الرموز الدينية والثقافية، دون أن تخلّف في نفوس النّاس أدنى شعورٍ بالنفور والتناقض.

في إسطنبول لا فرقَ بين المحجّبة والتي ترتدي الجينز وبين من يرتدي البذلة ومن اختار البقاء في جلبابه وبين من يعتمرُ قبّعةً ومن يلبس عمامة ما دامت هذه المدينة قادرة دائماً على احتضان الشرق والغرب في آن.

من يشعر بالشوق إلى حميمية الشرق، وروائح المطعم الشرقي اللذيذ، والأجواء الصوفية، والأسواق الشعبية، يمكنه أن يجد في منطقتي الفاتح والسليمانية ملاذاً له، وهما منطقتان شرقيتان بامتياز. باختصار، يمكنُ اختزال فرادة إسطنبول، بالإضافة إلى تاريخها العريق، في هذا المزج العجيب والسلس بين العصرنة والمحافظة. إذ تمكّن الواحد من عيش أجواء مختلفة، والتنقّل بين عالمين متباينين خلال سويعاتٍ قليلة فقط.

العثمانيون الذين احتضنوا الجميع..

ثنائية الشرق والغرب في مدينة إسطنبول ليست وليدة اللحظة، بقدر ما كانت نتيجة تراكمٍ تاريخي كبير، وحصيلة قرونٍ طويلة من التلاقح الثقافي والفكري والتعايش بين الأديان المختلفة. فقد كانت تركيا بصفةٍ عامّة بلدَ التآلف بين الأعراق والشعوب، خاصّة خلال الفترة العثمانية، حيث فتح هؤلاء أبوابهم أمام الباحثين عن ملاذٍ آمن، ومنهم الأقلّيات الدينية. هذه الأخيرة ما تزال لحد الآن تنعمُ بأجواء من التعايش المشترك داخل البلد.

ولم يمنع امتدادُ الدولة العثمانية من شمال أفريقيا حتى يوغوسلافيا والمجرّ لأكثر من 6 قرون، من أن تكون هذه الدولة نموذجاً للتعايش بين مختلف الديانات، إذ عاشت فيها أكثر من 20 ديانة في سلامٍ معاً.

في هذا السياق، يؤكّد بُرهان كور أوغلو، أستاذ الفلسفة بجامعة ابن خلدون بإسطنبول، لـTRT عربي، أنّ من أهمّ الأسباب التي جعلت مدينة إسطنبول تجمع بين الحداثة المستمدّة من الغرب والمحافظة على قيم الشرق "هو الموروث التاريخي للدولة العثمانية التي احتوت دائماً الأقليات الدينية والمهاجرين المسلمين في نفس الوقت، بالإضافة إلى تميّز الموقع الجغرافي للمدينة، والذي جعل منها وجهةً لجميع من يبحث عن ملجأ آمن"، مُضيفاً أنّ "الوضع الذي تعيشه إسطنبول اليوم ليس إلاّ امتداداً للدولة العثمانية التي لم تكن يوما دولةً قومية، بل ظلّت دائماً إمبراطورية قادرةً على احتضان الجميع".

قوة الفنّ والحداثة

وإذا كان هذا التناغم بين متناقضي الشرق والغرب داخل إسطنبول محصولَ الفترة العثمانية، فإنّه أيضاً، حسب كور أوغلو، "نتاج بداية الحداثة التركية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقد كانت وجدت أول المطابع التي تدخل إلى تركيا مكاناً لها في إسطنبول، وكذلك أول الجرائد، ما جعلها مركزاً للعلم والفنّ والفكر".

هذه الحداثة المبكّرة داخل المدينة، خاصّةً عندما كانت عاصمة الدولة العثمانية، جعلتها وجهةً مفضّلة لدى أشهر الفنانين والموسيقيين والمعماريين في العالم. في هذا الصّدد، يقول برهان كور أوغلو إن "هذا الحضور الدائم للمفكرين والفنانين داخل المدينة، جعل منها مدينة ديناميكية وقادرة على استيعاب الجميع في جوّ من التسامح والسلام".

الحداثة المبكّرة داخل مدينة إسطنبول خاصّةً عندما كانت عاصمة الدولة العثمانية جعلتها وجهةً مفضّلة لدى أشهر الفنانين والموسيقيين والمعماريين في العالم.

طبيعةُ الأشخاص الذين اختاروا العيش في إسطنبول كان لهم أيضاً دورٌ كبير في تحديد معالمها القائمة على التعايش، فهُم، حسب كور أوغلو، "أشخاصٌ يحبّون التنوع الثقافي وتسحرهم الحيوية التجارية والثقافية والسياحية التي تتميز بها المدينة، ولذلك استطاعت هذه الأخيرة الحفاظ على مؤسساتها العلمية والفنية حتى بعد سقوط الدولة العثمانية".

لقد أدّت هذه الحداثة التي شهدتها المدينة إلى بناء مدارس وجامعاتٍ جديدة، لكنّها في نفس الوقت، لم تسعَ إلى محو المدارس من الطراز القديم من الوجود، "إذ أدرك الأتراك، وخاصّةً الإسطنبوليون، أنّ بناء علاقتهم مع تاريخهم لن ينجح بدون الاستمرار في تغذية هذا التنوع وتقبّله"، يؤكّد كور أوغلو.

إسطنبول.. مرفأ الأمان

من المعروف أنّ البلدان والمدن التي شهدت هجراتٍ من مختلف الأعراق والشعوب والديانات هي الأقربُ إلى تقبّل الآخر والتعايش مع الاختلاف. ولعلّ النموذج الأمثل الذي يؤكّد صحّة هذا الطرح هو مدينة إسطنبول، فقد كانت هذه المدينة ذلك الملتقى الآمن الذي يتدفّق إليه المهاجرون من كلّ صوب.

بعد الحرب العالمية الأولى مباشرةً، وفدت إلى إسطنبول موجاتُ هجرة من مسلمي البلقان ومسلمي القوقاز. وفي أيّام الحرب العالمية الثانية، وفدت هجراتٌ جديدة من ألبانيا وبلدان أخرى. ثمّ ارتفع عدد سكّان المدينة مع الهجرات الداخلية خلال الخمسينات والثمانينات من القرن الماضي، والتي كان هدفُها الأساسي الاستفادة من الانتعاش الاقتصادي والتحول الصناعي الذي عاشته في تلك الفترة.

بعد الحرب السورية، تجاوز عددُ سكان مدينة إسطنبول 15,07 مليون نسمة، أي ما نسبته حوالي 20 في المائة من سكان تركيا، مقابل 10 ملايين عام 2000. هذا الارتفاع في عدد السكان كان من ضمن أسبابه الأساسية الهجرة، وخاصة توافد حوالي 555 ألف لاجئ سوري.

حين تمتزج المتناقضات..

هناك فكرةٌ أدبيةٌ جذابة تقول إنّ الجمالَ هو القدرةُ على الجمع بين المتناقضات. وفلسفياً، يُقالُ إنّ الطبيعي في الإنسان هو احتواؤه على متناقضين هما الخير والشرّ، وقدرته على العيش بهما معاً.

نفسُ هذا الجمال يتبدّى جلياً في مدينة إسطنبول المستوعبة للشرق والغرب في آن. ولذلك كان لا بدّ للفنّانين والمبدعين الأتراك أن يُخرجوا من هذا التعايش بين سحر الشرق وجاذبية الغرب، إبداعاتٍ فاتنة.

على هذا الأساس، حاول الفنّ التركي أن يكون مرآةً لهذا الجمع بين النفحات الشرقية والألوان الغربية، فجسّدت لنا الكثيرُ من الأعمال الفنية والإبداعية للفنانين والأدباء الأتراك هذا التمازج الرائع بين المحلّية والعالمية. وهو ما تظهره، مثلاً، أعمال المغنّيين التركيين برهان أوكال المقيم بسويسرا، وألهان إرشاهين المقيم بنيويورك، ما جعلهما على رأس قائمة الإنتاج الثقافي التركي بالخارج.

حاول الفنّ التركي أن يكون مرآةً لهذا الجمع بين النفحات الشرقية والألوان الغربية فجسّدت لنا الكثيرُ من الأعمال الفنية والإبداعية للفنانين والأدباء الأتراك هذا التمازج الرائع بين المحلّية والعالمية.

ولم يفوّت الأديب والرّوائي التركي الحاصل على جائزة نوبل أورهان باموك، تسجيل هذا التنوّع الثقافي في إسطنبول في أعماله الأدبية ورواياته، وعلى رأسها مذكّراته "إسطنبول.. الذكريات والمدينة".

على نفس الخطى، سارت الكاتبة التركية الشهيرة إليف شافاق، التي أصبحت رواياتها بمثابة شاهدٍ تاريخي على هذا الانسجام بين التناقضات التي تعيشها إسطنبول. كما كانت أعمالُ هذه الكاتبة الأكثر مبيعا في تركيا، تجسيداً لهذا التمازج، إذ انطلقت في مجملها من قصصٍ محلّية لتنتج منها أفكاراً عالمية.

الكنيسة البلغارية بإسطنبول منذ القرن 19. هذه المدينة تحتضن المساجد والكنائس والمعابد جنبا إلى جنب في جو من التعايش  (Getty Images)
سائحة أمام متحف آيا صوفيا في إسطنبول ـ السلطان محمد ـ تركيا (Getty Images)
الوضع الذي تعيشه إسطنبول اليوم امتداد للدولة العثمانية التي كانت إمبراطورية قادرةً على احتضان الجميع. (Getty Images)
TRT عربي