تابعنا
هناك حزن دفين لدى أمازيغ تونس وهم يشاهدون أعدادهم تتضاءل وثقافتهم تندثر على مر السنين، وهو ما جعلهم يتخلون عن عادات أجدادهم وآبائهم من أجل التكاثر.

يلاحظ زوار تونس التأثير اللافت للحضارة الأمازيغية على ثقافة البلد، فالآثار منتشرة في كل مكان، في الطعام حيث "الكسكسي"، وهو الطبق المميز في البلاد، والوشم على ذقون التونسيات كبيرات السن (على الجبين والخدين بخاصة)، والملابس التقليدية، والرموز المنحوتة على مساجدها وقبابها شواهد على عراقة هذه الحضارة الموغلة في القدم، وهو ما قادنا لنستكشف إحدى القرى الأمازيغية التي صمدت معالمها أمام زحف الزمن.

رافقَنا الشابّ رؤوف الطالبي لزيارة "شنني"، وهي قرية أمازيغية تقع في محافظة تطاوين في أقصى الجنوب التونسي.

لم يكُن بلوغ مرادنا سهلاً، فالمسالك الجبلية الوعرة والمنحنيات الخطيرة كثيرة، وبعد مسير يصل إلى نصف ساعة بسرعة منخفضة بشكل دائري صعوداً من سفح الجبل نحو أعلاه، ينتهي بك المسير في ساحة واسعة يحيط بها من كل جانب مساكن اتخذت من الجبل موطناً.

التمسك باللغة

ومن خلال تجاذب أطراف الحديث مع بعض السكان الأصليين، الذين يتحدثون العربية مع "الغرباء"، أكّدوا لنا تمسُّكهم بلغة الأجداد، فالطفل هناك يُلقَّن الأمازيغية قبل العربية، كما أن لغة التخاطب بينهم تكون في أغلب الوقت بها، واللافت أنه رغم أن الجنوب التونسي يتميز من الشمال بال (ڨ) عوض القاف، يتحدث الأمازيغ العربية العامية بلهجة تقترب كثيرا من لهجة أهل الشمال.

يكشف لنا عدد ممّن تحدثنا إليهم حزناً دفيناً لدى أمازيغ تونس وهم يشاهدون أعدادهم تتضاءل وثقافتهم تندثر على مر السنين، وهو ما جعلهم يتخلون عن عادات أجدادهم وآبائهم من أجل التكاثر.

فحتى ثمانينيات القرن الماضي كان الزواج من خارج المجتمع من المحرمات في المجتمعات الأمازيغية. لكن مع مغادرة مزيد منهم لبلداتهم والرحيل إلى العاصمة وغيرها من المدن، أصبح الزواج المختلط أكثر شيوعاً. بعض الأمازيغ لا يزال يعارض الزواج بشخص من خارج المجموعة، متعللين بأن هذا سيتبعه بالضرورة فقدان الثقافة واللغة، إذ إن الوافدين الجدد لن تكون بينهم وبين التاريخ والتقاليد الأمازيغية ألفة.

ويمتنع بعض العائلات الأمازيغية عن تزويج بناته شباباً عربيّاً، كآلية للحفاظ على لغتهم وخصوصيتهم وثقافتهم، وعدم نشر خصوصياتهم في باقي المناطق التي لا تعترف بهم، ولضمان عدم تحفيظ لغتهم للغرباء حسب اعتقادهم، حتى إن بعض الأمازيغ يعتبر زواج أمازيغية بـ"تبيت" (غريب) جريمة في حق لغتهم.

الأوشام.. ذاكرة

على المستوى الثقافي، يُعتبر الأمازيغ أول من أدخل الأوشام التي تُرسم على الأجساد إلى دول المغرب العربي، فالوشم كان إحدى مميزات النساء في قديم الزمن عند النساء الأمازيغيات، ويرمز إلى الأنوثة والخصب، فالمرأة الواشمة هي المرأة الناضجة للزواج، وتنتشر الأوشام في جسد المرأة الأمازيغية خصوصاً على الوجه واليدين والرجلين، ويتميز الوشم الأمازيغي بكونه تقليداً طقوسياً مرتبطاً بالنظام القيمي والثقافي يتأتَّى من حياة الإنسان الأمازيغي الذي كان يعيش في عالم من الرموز والعلامات والقوانين التي يقصد بها الانتماء إلى هُويّته المتجذرة في التاريخ، كما كان ذا دلالة دينية تبعد الأرواح الشريرة والحسد وتجلب الحظ السعيد، ويوضع على جسد المرأة الجاهزة للزواج دليلاً على أهليتها لهذا العقد المقدس وقدرتها على تحمل أعباء الزوجية، وهي التي تحملت وخز الإبر.

إلا أنه بمرور الزمن يعمد عديد من النساء اللاتي يحملن وشوماً إلى محاولة إزالتها، خصوصاً على الوجه، لاعتبار نظرتهن إليها كعلامة تشويه على وجوههن، وكذلك بالنظر إلى البعد الديني على اعتبار أن الإسلام يحرّم الأوشام.

في هذا الإطار يكشف لنا الطالبي أن الموروث الأمازيغي يشدّد على أن الوشوم "تبعد الأرواح الشريرة وتبطل السحر، وتبعد الفقر والبؤس، عن طريق الرسوم والرموز التي توضع بدقة لا متناهية، ويحمل كل منها دلالة أو غرضاً من الأغراض سالفة الذكر"، حسب تعبيره.

ويسرد الباحث التونسي فتحي بن معمّر لـTRT عربي فصولاً أخرى من التقاليد الأمازيغية على غرار طقوس طلب المطر والمعروفة في مناطق تونسية عديدة باسم «امك طنبو»، وهي قطعة خشب في شكل قاطع ومقطوع، يزيّنها الأطفال بقطع من القماش ويجوبون بها منازل قريتهم وهم يغنّون طلباً لنزول المطر، إضافة إلى طقوس أخرى كطقوس الزواج، فالعروس تتجلى في لباسها التقليدي وهي مرصعة بالحلي الأمازيغي واضعة يديها على وجهها، لتكشفه تارة وتخفيه تارة، تجسيداً للإلهة «تانيت» إلهة الخصب والرضاعة التي عبدها الأمازيغ قديماً، باعتبار أنّ العروس ستصبح امرأة مرضعة.

تجاهُل حكومي

تكشف إحصاءات غير رسمية أن عدد الأمازيغ في تونس يناهز 500 ألف، أي خمسة بالمئة من العدد الإجمالي لسكان البلاد، لكنّ حضورهم في المشهد السياسي شبه منعدم وتغلق الدولة الباب أمام أي مطالبات بإدراج لغتهم في المناهج الدراسية.

وحرصت الحكومات التونسيّة المتعاقبة على منع تداول اللغة الأمازيغية لتكريس "هُويّة عرقيّة متجانسة" للشعب التونسي، كما لم يتطرّق الدستور التونسي الجديد في أي من فصوله إلى الأمازيغ، واكتفى بتأكيد "عروبة تونس وإسلامها".

ويقول رئيس الجمعية التونسية لثقافة الأمازيغ جلول غاقي، إنّ "رؤساء تونس قبل الثورة قمعوا اللغة الأمازيغية بدعوى أن الحفاظ على وحدة البلاد يعتمد على لغة مشتركة".

من جهتها تؤكّد مهى الجويني، وهي من أشهر المدافعين عن حقوق الأمازيغ في المغرب العربي، أن تعامل الحكومة التونسيّة مع الملف الأمازيغي اتسم بكثير من الغموض.

وتوضح الجويني أنه "كلّما التقينا مسؤولاً وعد بحل ملف الأمازيغ وأقرّ بأننا أصل البلاد وروح أرضها، ولكن لا نمرّ على أرض الواقع فنجد شيئاً، رغم أنّ مطالبنا تصبّ في باب التعدُّد والاعتراف بالأمازيغ مكوّناً ثقافياً بتونس".

ومؤخَّراً عبّر أمازيغ تونس عن رغبة في خوض غمار التجربة السياسية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، عبر كيان سياسي يمثّل هذه الأقلية التونسية، إلا أنهم فشلوا في الحصول على التراخيص اللازمة.

وأعلنت حركة "أكال" الأمازيغية التحوُّل من حركة ثقافية إلى حركة سياسية ناطقة باسم الأمازيغ، وقالت الحركة إنها "ستكون حزباً ديمقراطياً تقدُّمياً اجتماعياً، وإنها ستدافع عن التنوع الإنساني والحضاري في تونس وتجعل من أمازيغيّة شمال إفريقيا مرجعيّة رئيسيّة في تصوراتها".

يُعتبر الأمازيغ أول من أدخل الأوشام التي تُرسم على الأجساد إلى دول المغرب العربي (Getty Images)
كشف إحصاءات غير رسمية أن عدد الأمازيغ في تونس يناهز 500 ألف، أي خمسة بالمئة من العدد الإجمالي لسكان البلاد (Getty Images)
من خلال تجاذب أطراف الحديث مع بعض السكان الأصليين، الذين يتحدثون العربية مع "الغرباء"، أكّدوا تمسُّكهم بلغة الأجداد (Getty Images)
TRT عربي