تابعنا
خلقت الحرب السورية آفاتٍ اجتماعية من بينها الفقر والتسول والمخدرات والدعارة. كيف زادت هذه الحرب من حدّة هذه الظواهر؟

كان على (نوران) أن تدفع بولديها إلى الشارع ليساعداها على الحياة الصعبة بعد اختفاء زوجها في مدينة (حرستا) بالغوطة الشرقية، وأن تضحي بدراستهما من أجل أن لا يجوعا، وما يمكن أن يحصلا عليه من التسول في المدينة المكتظة التي هربت إليها في الريف الغربي يمكن أن يسد رمق العائلة الفقيرة.

نوران من آلاف الأسر التي دفعت بها الحرب خارج قراها وبلداتها، وأغلبها خرجت بدون رجال لأنهم إما هربوا أو قتلوا أو أعتقلوا، وهذا ما دفع بأبناء هذه العائلات ونسائها إلى التسول أو العمل بأجور قليلة، أو الوقوع ببراثن عصابات القتل والرذيلة.

آفات تتوالد

الحرب السورية القذرة خلقت آفات اجتماعية لم تكن في السابق سوى مظاهر يرفضها السوريون، ويرون فيها اعتداء على محرماتهم، ولكن على ضفتي المشهد اليوم سواء في مناطق النظام أو ما بقي من مناطق المعارضة ثمة ما يمكن تسميته تهتكاً اجتماعياً وأخلاقياً فلقد فعلت الحرب فعلتها وانتشر الفقر الذي نجم عنه آفات أخرى كالتسول وتعاطي الممنوعات والدعارة.

الفقر، وبموجب دراسات رسمية سورية وصل إلى أرقام مرتفعة جداً فحسب دراسة (المركز السوري لبحوث السياسات): (أكثر من 93% من السوريين يعيشون في حالة فقر وحرمان، بينهم نحو 60% في حالة فقرٍ مدقع)، وهذا يشكل كارثة للأمن الغذائي للسوريين.

في الأسباب التي أدت إلى استفحال هذه الظاهرة يقول الدكتور (فراس شعبو- دكتوراه في الاقتصاد) لـTRT عربي: "اليوم البطالة في سوريا وصلت إلى أوجها، وحسب إحصائيات مختلفة ومنها مركز (جسور) تجاوزت 70%، والأمم المتحدة عام 2017 اعتبرت أن 70% من الشعب السوري يعيش تحت خط الفقر، وهذا ما دفع الكثير من الأهالي للتوجه نحو التسول الذي ترافق مع جملة من العوامل الأخرى مثل انعدام الوعي والتسرب المدرسي، وأما السبب الأساسي فهو تردي الأوضاع الاقتصادية في مناطق المعارضة والنظام على السواء.

دمشق.. التسول الفج

عجائز من الجنسين يفترشون الأرصفة في الشوارع والأسواق الرئيسية في العاصمة، وأطفال أمام مداخل المقاهي وبين طاولاتها، وينتشرون كذلك في مراكز تجمع الحافلات التي تقل المواطنين، وأما الأكثر إيلاماً أن تجتمع أم وأطفالها على الرصيف.

لا أرقام رسمية عن أعداد المتسولين في العاصمة، وبعض المسؤولين المحليين في محافظة دمشق يتحدث عن بضع مئات بينما تشير تقارير صحفية إلى أن الأرقام تصل إلى آلاف أضحوا سكان العالم السفلي للمدينة.

أحد المسنين ويدعى أبو خالد قال إنه جاء قبل 6 سنوات إلى العاصمة من الغوطة الشرقية، ولا يعرف أي شيء عن أسرته، ويضيف: "أعيش في حدائق المدينة، وأنام في أي مكان عند شعوري بالتعب، وأما طعامي فهو من المحسنين العابرين".

من بين الأطفال الذين يقفون أمام مقهى الكمال بدمشق يقول أحمد: "نحن من حي التضامن، وأعيش مع أمي وأخوتي في غرفة بمدينة صحنايا بريف دمشق، وأنا أساعد أمي في تربية إخوتي فوالدي مات في الحرب، وأقاربي سافرا إلى تركيا".

وفي هذا الصدد يرى الدكتور فراس شعبو سبباً آخر لخروج الأطفال والنساء للتسول له علاقة بالواقع الأمني: "الملاحقة الأمنية للشباب أدت إلى انكفائهم أو هروبهم لكونهم مطلوبين لجهات أمنية أو للخدمة العسكرية وبالتالي هذا ما دفع بالعائلات للزج بأطفالها إلى التسول، وبالتالي نتجت عن ذلك جرائم أخرى وهذا ما جرى في حلب مؤخراً من تجارة أطفال وخطف واعتداء جنسي".

التسول المستتر

متسولون لكنهم لا يسألونك من مال الله، وهؤلاء يمثلون شريحة كبيرة تنتشر في كل أسواق المدينة، يتوزعون بكثرة في سوق الحميدية والصالحية، ويفترشون الأرصفة مع علب المحارم الورقية الصغيرة، أو يضعون مقياس وزن صغير أو يبيعون قطع البسكويت الرخيصة.

(عالية) سيدة خمسينية تبيع علب المحارم قالت لـTRT عربي إنها من حمص، وتضيف بحسرة: "فقدت أسرتي في اجتياح النظام لحي الوعر، وبقيت أنا وابنة مقعدة، وأسكن معها في غرفة بحي 86 أجرتها 20 ألف ليرة، وهكذا أدور طوال النهار لكي نعيش".

أم محمد تضع ميزان قياس الوزن مع طفلتيها وسط العاصمة، ومنذ سنوات لا تغير مكانها، وأصبحت معروفة من جميع المارة الذين يلقون إليها بالقليل من المال دون أن يقيسوا أوزانهم، وعند المساء تغادر إلى مكان غير معروف.

استثمار في التسول

مسؤولو النظام لا يأبهون لهذه الظاهرة، ويرون بوجود من يقوم بتشغيل هؤلاء المتسولين، وأن ما يجمعه المتسول يعادل راتب موظف شهري وفق تصريحات أحد مسؤولي محافظة دمشق، وأنهم ألقوا القبض على ثلاثة مشغلين كبار.

المهجّرون كانوا ضحايا بعض هؤلاء، وخصوصاً الاستثمار في الأطفال الذين لا عائلات لهم أو وصلوا إلى العاصمة بعد تدمير أحيائهم ومقتل ذويهم، وأغلب هؤلاء يبيتون في الحدائق، وهؤلاء لا يتحدثون لأحد، وبعضهم يقيمون في أحياء فقيرة بضواحي المدينة.

أوجه أخرى للتسول

في ريف إدلب حيث تسيطر المعارضة وجه آخر للتسول والفقر المدقع الذي ازداد في الآونة الأخيرة على وقع العمليات العسكرية والتهجير الذي تمارسه قوات النظام، مما دفع بعائلات كثيرة إلى النزوح مرات عديدة.

ريف معرة النعمان يغص بالصغار الباحثين في أكوام القمامة حيث من الممكن أن تحصل على ما يباع من العلب الزجاجية وعلب الكرتون والألمنيوم والخبز اليابس التي يجمعونها.

أغلب الناشطين في هذه المناطق وكذلك مؤسسات ناشطة رفضت أن تتحدث علانية لخشيتها من أن تواجه مشاكل مع التنظيمات المنتشرة هناك، ولكنهم يؤكدون ازدياد حالات التسول في الريف الإدلبي في الأشهر الستة الأخيرة نتيجة للغارات الحربية والنزوح الكبير، وكذلك مساهمة الغلاء والحصار في إفقار الناس ودفعهم إلى التسول.

أحد الناشطين من معرة النعمان تحدث عن لـTRT عربي عن الفقر المدقع الذي أوصل الناس إلى التسول: "الغلاء يدفع الناس إلى التسول للحصول فقط على الخبز، وابن المدينة يتسول في ريفها وابن الريف يأتي إلى المعرة ليتسول وهكذا".

مخدرات داعمة

التسول ليس وحده من يجعل من المجتمع السوري في حالة خطرة، وقد ظهرت آفات أخرى ناتجة عنه وداعمة، وهذا ما يؤرق الباحثين والأهالي الذين باتوا يخشون على أطفالهم في المدارس والتجمعات الأخرى.

(شم الشعلة) وهي مادة لاصقة ومشبَعة بغاز طيّار، وهي منتشرة بين الأطفال المشردين وطلاب المدارس، وتؤدي حسب أخصائيين إلى الإدمان الذي يبدأ بالانتعاش والرغبة في شم المزيد وسط معاناة شديدة كما أنها تدمّر الجهاز العصبي، وتحدث التهابات خطيرة في الجلد وصداعاً مزمناً وطلب كمية كبيرة، ما قد يؤدي إلى الوفاة الفورية.

في العاصمة بالتحديد تحفل الحدائق بهؤلاء الأطفال الذين يحملون أكياساً بلاستيكية يستنشقون منها هذه المادة، ولم تفلح كل الجهود للحد من انتشارها، وهذا إضافة إلى تعاطي الحبوب المخدرة والتدخين والتحرش في المدارس الحكومية والخاصة.

أزمة بلا حلول.. ولكن

تبدو الأزمة حالياً من دون حل في ضوء عجز النظام السوري وتلاشي الحلول السياسية للحرب في سوريا، وأما سبل الخروج منها فهي وفق ما يراه الدكتور شعبو: "للخروج من هذه الأزمة لا بد من تأمين الأمن والأمان وهذا لن يتحقق مع انتشار الشبيحة والزعران والمليشيات، وبالتالي يجب تحسين الأوضاع الاقتصادية وهي غير ممكنة حالياً، وكذلك لا بد من العمل على رفع مستوى وعي الأهالي الاجتماعي والأخلاقي".

واقع الحال تجيب عليه دراسة أجراها المركز السوري لبحوث السياسات بالتعاون مع الجامعة الأمريكية ببيروت، توضح أن الاقتصاد السوري تعرض لخسائر فادحة تتجاوز 380 ملياراً، وأن "نحو 2.5 مليون شخص تعرضوا للحصار منذ عام 2015 حتى عام 2018، ووصلت ذروتها في 2017 إذ خضع نحو 970 ألف شخص للحصار في وقت واحد، في الغوطة ودير الزور وحلب والرستن وغيرها، وتضمن الحصار الحرمان من الحصول على الغذاء والمساعدات الإنسانية".

هذا يعني بالضرورة أن يتشظى المجتمع السوري اجتماعياً وأخلاقياً، وتنتج عن ذلك كل هذه الآفات الخطيرة التي تحتاج إلى وقت طويل للتخلص منها.

فعلت الحرب فعلتها وانتشر الفقر الذي نجم عنه آفات أخرى كالتسول وتعاطي الممنوعات والدعارة (TRT Arabi)
أحد المسنين ويدعى أبو خالد قال إنه جاء قبل 6 سنوات إلى العاصمة من الغوطة الشرقية، ولا يعرف أي شيء عن أسرته (TRT Arabi)
مسؤولو النظام لا يأبهون لظاهرة التسول ويرون بوجود من يقوم بتشغيل هؤلاء المتسولين، وأن ما يجمعه المتسول يعادل راتب موظف شهري (AP)
TRT عربي
الأكثر تداولاً