تابعنا
"دخول الحمام ماشي بحال خروجه"، يعكس هذا المثل الشعبي المغربي ما يحدثه الحمام العمومي من عظيم الأثر على الجسد والنفس، باعتباره طقساً مُقدساً لا يمكن الاستغناء عنه، مهما كلف ذلك الأمر.

الرغبة الجامحة في نيل قسط من الاسترخاء والنظافة العميقة دفعت (سناء 35 سنة) إلى خرق حالة الطوارئ الصحية، والسفر من مدينة الدار البيضاء التّي تعرف إغلاقاً تاماً للحمامات العمومية نحو مدينة تمارة، للتخلص من تعب نفسي وجسدي بعد أسابيع مرهقة.

وتحكي سناء، التّي تُواظب على ارتياد الحمام نهاية كل أسبوع منذ ثلاثين سنة، لـTRT عربي: "هذا الطقس الذي ورثناه عن جداتنا لا يقترن فقط بالاستحمام، بل هو وسيلة للتخلص من تعب جسدي ونفسي، واستقبال أسبوع جديد بطاقة وحماس أكبر".

وأضافت: "لن أنكر أنّي خرقت القانون لأنعم بهذه اللحظات التّي حرمت منها لأسابيع بسبب إغلاق الحمامات في مدينتي بسبب مانع صحي"، مؤكدة أن انتشار وباء كورونا غيّر إحدى العادات التّي توارثها الأبناء عن الأجداد على مر السنين.

طقوس الحمام.. لحظات فارقة

ظلّ الحمام التقليدي (حمام الزنقة) نقطة عبور لا بدّ من المرور بها في المناسبات واللحظات الفارقة في حياة المرأة المغربية، فرمزية الحمام تكمن في كونه فضاء للعبور، بالمعنى الأنثروبولوجي، من مرحلة منتهية إلى مرحلة مقبلة.

من المواد المهمة في أي حمام مغربي الحناء والصابون البلدي (Getty Images)

تبرز (أمي مينة) التّي تعمل"كسالة" (تهتم بتحميم الزبونات) منذ أزيد من خمسين عاماً، أنّ الحمام يعد جزءاً من لحظات العمر الخاصة بالنساء، تقصده العروس قبل يوم زفافها، والأم أياماً بعد ولادتها (المرأة النفساء).

فحمام العروس حسب (أمي مينة) يشمل طقوساً متفردة، يتم كراء الحمام أو غرفة منه من طرف أهل العروس، ويتم إشعال الشموع وعود الند والبخور الطيبة، وتتم طقوس الاستحمام وسط الزغاريد والأهازيج الشعبية، أما حمام النفساء فهو لا يختلف عن الأول، لكن يشترط ألَّا تقوم الأم المحتفى بها بأي عمل في أثناء الاستحمام، ويتم شد بطنها بحزام.

ويتجلى سر الحمام المغربي في المراحل أو "البروتوكول" الذي يتبعنه، يبدأن بتدليك ناعم لكامل الجسد بالاستعانة بالصابون الأسود المغربي (الصابون البلدي)، وتسترسل في حكيها عن هذه الطقوس المتوارثة عبر السنين قائلة: "قبل المرور إلى عملية حك الجلد للتخلص من الجلد الميت، لا بدّ من إنعاش الجسد بخليط الحناء والقرنفل والورد، وبعد فرك الشعر، تختم المستحمة متعتها بتدليك الأطراف للتخلص من التعب، وهي العملية التّي تقوم بها (الكسّالة) أو (الطيّابة)".

ويصف الكاتب المغربي أحمد بلحاج آية وارهام هذا الفضاء الذي لم ينل الزمن من طقوسه في كتابه «شعرية الحمامات»، بـ" المُلهِم" الذي ينفصل فيه الإنسان عن العالم الخارجي، ويخضع لطقوس، فيها المشترك وفيها المختلف بين الحضارات الإنسانية.

ويرصد الكاتب تطور الحمام عبر التاريخ بدءاً من العصر الروماني حين كان الحمام فضاء للتلهية وخدمة ديانة الجسد، وصولاً إلى المرحلة الإسلامية التي اعتبر فيها هذا الفضاء أحد الأمكنة التي تساير حياة المسلم وتمكنه من إبراز ذاتيته تطهيراً ولذة.

عراقة تاريخية

هذه العلاقة الوجدانية والتاريخية الضاربة في القدم اختلفت الدراسات والأبحاث في تحديد أصولها، يقول الباحث المغربي لحسن آيت المغروس، مبرزاً أنّ "حفريات تمّ اكتشافها مؤخراً في قرية أغمات الواقعة على أطراف مراكش، جنوب المغرب، كشفت عن وجود حمام مغربي تقليدي في قلب المدينة التاريخية، يعود إلى القرن العاشر للميلاد"، مشيراً إلى أنّ الحمامات ارتبط وجودها تاريخياً بالقصور السلطانية.

هذا الحمام الذي يُعد الأقدَم من نوعه في المغرب، قال عنه الكاتب الأمريكي سكوت بورطات في مقالة علمية: "إنّه قبل قرابة قرن من الزمن كان أحد أعظم كنوز المغرب التاريخية يفي بغرض هام، فهو كان يمثل الأساس لبيت حجري لأحد المواطنين، ليس إلا، والآن بعد أن اختفى ذلك المنزل منذ زمن بعيد، اكتشف علماء الآثار أنه كان مشيداً فوق حمام فريد من نوعه يسلط الأضواء على تاريخ المغرب الزاخر".

ظلّ الحمام التقليدي (حمام الزنقة) نقطة عبور لا بدّ من المرور بها في المناسبات واللحظات الفارقة في حياة المرأة المغربية (Getty Images)

ويرجع تاريخ تشييد هذه الحمامات إلى عهد الملك الأمازيغي زيري بن عطية المغراوي خلال القرن العاشر الميلادي، وأعاد حفيده دوناس المغراوي ترميمها خلال القرن الحادي عشر.

أدوار اجتماعية وسياسية

على الرغم من التحولات المتسارعة التّي شهدها المُجتمع المغربي حجز الحمام التقليدي لنفسه ركناً أصيلاً في الثقافة الشعبية، ارتباطاً بأدواره الاجتماعية والسياسية، وهو ما يُفسّره الباحث لحسن آيت المغروس، قائلاً: "إضافة إلى أهمية الحمام في الغسل والتطهر والترفيه، لعب الحمام التقليدي دوراً هاماً في مرحلة الاستعمار، في مناقشة بعض الأسرار والقضايا السياسية لمُواجهة المستعمر، وفضاء لمناقشة القضايا العائلية وتبادل الخبرات، ومناقشة كل ما يتعلق بالأسرة والحي والأولاد".

ويشدد الباحث المغربي على أنّ "الحمام الشعبي المغربي الخاص بالنساء له خصوصيات وطقوس خاصة، فهو بمثابة مجمع لتفريغ الهم والغم، ومناقشة كل الأمور ذات العلاقة بالأسرة والزواج والطلاق، وكل ما يجول في الحي".

وخلص آيت المغروس إلى أنّ الحمام التقليدي أصبح من أساسيات الإنسان المغربي، مستدلاً على قوله بـ"المظاهرات الشعبية التي شهدتها بعض المدن المغربية احتجاجاً على قرار إغلاق الحمامات العمومية في بعض المدن في المرحلة الأخيرة من زمن كورونا، وهذا يبين أهميته ودوره في المخيال الشعبي".

شهرة عالمية

من خلال هذه الأسرار التّي يحتويها هذا الفضاء المغلق على مر السنين، استطاع الحمام المغربي أنْ يوصل صيته إلى خارج الحدود، وشكل بطاقة تعريف لتراث البلد وتقاليده وخصوصيته الثقافية، واكتسى شهرة عربية وعالمية.

كما تحول هذا الفضاء إلى فرص استثمار نسائية عبر إقامة مراكز صحية وتجميلية متكاملة، تلبي حاجة الباحثين عن الاسترخاء، وإن افتقدت هذه الحمامات طقوسه الاجتماعية والروحية.

TRT عربي