تابعنا
لا تتوقف معاناة النساء العاملات في المزارع الريفية بتونس عند عملهن لمدّة 13 ساعةً في اليوم، بل تتعداها إلى ضعف الأجور وتحمّل الاستغلال والمضايقة والتحرّش.

تونس ـــ عند الهزيع الأخير من اللّيل، تستيقظ عارم لافي يومياً لتلبس ما تيسر من الثياب التي ترى أنّها قد تقيها لفحات البرد، وتعدّ طعام أبنائها ليومٍ كاملٍ، وترتّب البيت وتنظّفه، لتخرج مسرعةً نحو المزارع حيث تسترزق، بعد أن توقظ ابنها الأكبر (15 عاماً)، لتملي عليه وصاياها بالاهتمام بإخوته.

تسابق الخمسينية عارم أصيلة منطقة بوعطوش من محافظة سيدي بوزيد، خطواتها في محاولةٍ للحاق بالشاحنة التي ستقلّها في صندوقها الخلفي رفقة أكثر من ثلاثين امرأةً أخرى، تلتقي جميعهنّ في نقطةٍ يحدّدها سائق الشاحنة، في وقتٍ متّفقٍ عليه، لا يتجاوز في كلّ الأحوال الرابعة والنصف قبل الفجر شتاءً، والثالثة والنصف صيفاً.

في عمق هذه المسالك الفلاحية، حيث لا توجد علامات مرورية، ولا إشارات تدلّ على مرور وسائل نقلٍ باستثناء العربات، والدواب، تجد بعضهنّ سبقنها إلى ما يُطلق عليه مجازاً بـ"المحطة"، وقد قست نسمات الصّقيع عليهنّ، وأذهبت حواسّهنّ، وكاد البرد يتلف أصابعهنّ، لكنّهنّ يكسرنه ببعض المزاح الممزوج بآهات ما ينتظرهنّ طيلة اليوم.

تقول عارم في حديثها لـTRT عربي، إنّها مجبرة على مساعدة زوجها في تسيير شؤون منزلها، وفي توفير حاجيات أبنائها (5 أبناء تتراوح أعمارهم بين 7 سنوات و20 عاماً)، وإنّها لا تملك الحق في التذمر، لأن لا أحد يمكنه مساعدتها في إطعام أطفالها، بدءً بالجمعيات الحقوقية التي تزورهن في الحقول، لتكتب تقارير تثير شفقة المسؤولين والإعلاميين، فيتحدثون عنها في المنابر التلفزيونية وفي البرامج الإذاعية، ثم تُنسى كأنّها لم تكن.

ملامح عارم وصديقاتها وتجاعيد وجوههنّ، ولباسهنّ الرّث الذي يشبه أيامهنّ الحزينة، يكاد يخفي مواجع ظلّت حبيسة صدورهنّ، في الإستقواء على أجسادهنّ، وتعرضهن للإهانات من طرف أرباب عملهن، ومحاولات تعرّض بعضهنّ للتحرّش الجنسي، لكنّهنّ يخشين البوح بها، خوفاً من نظرة المجتمع وتقاليده، التي قد تعرضهنّ إلى القتل والتهجير.

المعذّبات في الأرض

قصّة عارم تختزل معاناة أكثر من نصف مليون امرأةٍ، قرّرن العمل بالقطاع الفلاحي في تونس، وفق إحصائيات وزارة التكوين المهني والتشغيل، اللواتي يمتهنّ أعمالاً شاقةً منها جني الثمار الموسمية، والبذر، واقتلاع الطفيليات، وتقليم الأشجار، وحمل المحصول، والحرث في أراضٍ لا تملكنها مقابل ملاليم تقيهن ذلّ السؤال والموت جوعاً.

من جانبها تقول، سلوى عمامي التي لا تعرف كيف تكون المدرسة، ولا صفوفها، في حديثها لـTRT عربي إنها لا خيار لها سوى العمل بالضيعات الفلاحية، فهي، على حدّ تعبيرها، لا تصلح لعملٍ آخر يساعدها على مجابهة ظروفها الصعبة، وهي التي لا تفقه القراءة ولا الكتابة، وزوجها هجرها تاركاً وراءه مسؤولية طفلين لا يتجاوز أكبرهما 10 سنواتٍ.

ما يؤلم سلوى حقّاً أنّها وصديقاتها، يعملن أكثر من بعض الرجال القلائل الذين يعملون بنفس الحقل، وأنّهنّ أحياناً يواصلن لساعاتٍ إضافيةٍ، غير أنّهنّ يتقاضين أقلّ بكثيرٍ منهم، فهي تقول إنّهنّ يتقاضين بين 300 دينار (105 دولارات) و400 دينار (140 دولاراً) شهرياً في أقصى الحالات، غير أنّ الرجال يتقاضون من 500 دينار (175 دولاراً)، إلى 600 دينار (210 دولارات) شهرياً، ولا يعاملون نفس المعاملة.

وتمتد ساعات العمل في القطاع الفلاحي، حسب أغلب من التقتهنّ TRT عربي، من الساعة الرابعة والنصف صباحاً إلى حدود الخامسة مساءً، وهي فترة تتجاوز مدة العمل المسموح بها في القانون الذي ينصّ على 40 ساعة أسبوعياً كما جاء في مجلة الشغل التي تقرّ بحق العامل في راحةٍ أسبوعيةٍ.

من جانبها، أكدت رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر روضة العبيدي لـTRT عربي، أنّها سعت لإدراج ظروف عملهنّ واستغلالهنّ كشكلٍ من أشكال الاتجار بالبشر، غير أنّ المزارعات رفضن التأكيد على أنّهن مكرهات على هذه الظروف، لذلك عجزت الهيئة عن اتخاذ أي إجراءات في الخصوص باعتبار أنّ الاتجار بالبشر يشترط أن تكون المرأة مُكرهة على الفعل.

ابتزازٌ واستغلالٌ وعنفٌ وتحرّشٌ

وفي أوّل دراسة ميدانيةٍ حول المرأة الريفية، أعدّها "الاتحاد العام التونسي للشغل" (أكبر منظمةٍ نقابيةٍ تُعنى بالدفاع عن العمّال) بالتعاون مع "أكاديمية شباب راصد لانتهاكات حقوق الإنسان" و"الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان" حول المرأة العاملة في القطاع الفلاحي في محافظة سيدي بوزيد، أكّدت المزارعات أنّهنّ يتقاضين أقلّ من 13 ديناراً (5 دولارات) في اليوم، وأنّهنّ لا يتمتعن بأيّ تغطيةٍ صحيةٍ واجتماعية.

كما خلصت الدراسة إلى أنّهنّ تعرّضن للتحرش الجنسي والمضايقة وإلى عنفٍ لفظي ومادي، وأنّ أغلبهنّ لم يتلقين أيّ تكوينٍ، وهو ما أثار حفيظة أكثر من 50 منظمة حقوقية ونسوية، تظاهرت منذ 28 نوفمبر 2019 بالساحات العامة، رافعةً شعارات مناهضة للتعذيب ضد المرأة التونسية.

من جانبه، يؤكد عضو جمعية "انتصار للمرأة الريفية" زياد قاسم في تصريحه لـTRTعربي، أنّ جمعيته قد كشفت خلال أنشطتها الميدانية، أنّ العاملات في الحقول يتعرّضن إلى أشكالٍ متعدّدةٍ من العنف، بدءً بالتمييز في الأجر، إلى تشغيلهن بأنشطةٍ في الأصل مخصّصةً للرجال، فضلاً عن ظروف نقلهن المهينة.

ويضيف قاسم إلى أنّهنّ "يتعرّضن أيضاً إلى التحرّش الجنسي من قبل السائق وصاحب الأرض وأبنائه، غير أنّ هذه المسألة مازالت لدى سكان الريف من المحرّمات التي لا يجب البوح بها، أو الخوض فيها، ويعتبرنها "عيباً"، لافتاً إلى أنّ "سائق الشاحنة يمارس عنفاً جنسياً حقيراً تجاه المرأة التي يحالفها الحظ وتظفر بالمكان الأمامي إلى جانبه، بعيداً عن ظروف الطقس الحارّة أو الباردة، حتّى أنّه يجبرهنّ على إقامة علاقة معه في أغلب الأحيان".

في السياق ذاته، بينت دراسةٌ أصدرتها الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، تعرّض بعض المزارعات للاستغلال، والعنف اللفظي، والتحرش من قبل الناقلين، وأنّهنّ يقطعن مسافاتٍ طويلةٍ للوصول إلى عملهنّ، يقطعها بعضهنّ مشياً على الأقدام، وأخريات بواسطة شاحناتٍ، يُحشرن فيها "مثل الدواب" وفق ما جاء في شهادة إحداهنّ في الدراسة المذكورة.

دعماً لذلك، أكدت راضية جربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية في تصريحها لـTRT عربي، أنّ المزارعات يتعرّضن إلى الابتزاز من قبل سائقي الشاحنات، الذين لا ينقلنهن إلاّ بعد السماح لهم بالتحرّش بهنّ، كما يقع اقتطاع جزءٍ من أجورهنّ لوسطاء وسماسرة، مقابل تعريفهنّ على أصحاب الأراضي أو إيجاد عملٍ لهنّ.

موت في كلّ الأحوال

أما حياة (اسم مستعار) فتقول إنّ معاناتها مع الحقول تبدأ بمجرّد ركوب وسيلة النقل حيث يعمد أصحاب السيارات في كثيرِ من الأحيان إلى سكب المياه في عربة الشاحنة لإجبار النساء على البقاء واقفات، للتمكن من نقل أكبر عددٍ ممكنٍ منهنّ، خاصّةً خلال المواسم الفلاحية الكبرى، مما يعرض حياتهن في أغلب الأحيان إلى الموت، وهو ما عاينه اتحاد المرأة التونسية حسب تصريح الجربي لـTRT عربي.

وكانت وفاة 12 مواطناً أغلبهم من العاملات الريفيات في اصطدام شاحنةٍ تنقلهنّ بأخرى، وإصابة 20 آخرين بينهم أطفالٌ لم تتجاوز أعمارهنّ 12 عاماً من محافظة سيدي بوزيد أواخر أبريل/نيسان الماضي، قد فجّرت ملفّ عاملات الريف وعرّت هشاشة واقعهنّ، واستغلالهنّ، وبخاصّةً ظروف نقلهنّ غير الآمنة.

وقبل هذه الفاجعة بساعات تعرضت شاحنة أخرى لحادث مرور في محافظة القصرين، حيث انقلبت الشاحنة التي كانت تحمل 15 عاملة أثناء عودتهنّ من الحقول، وبعدها بساعةٍ انقلبت أخرى بمحافظة القيروان تعرَضت فيها تسع عاملاتٍ تتراوح أعمارهنّ بين 15 و55 سنة إلى إصاباتٍ مختلفة، فيما تقع كلّ سنة عشرات الحوادث مع تفاوت درجات الخطورة وعدد الضحايا ونوعية الإصابات.

ويؤكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ حوادث العاملات في القطاع الفلاحي أودت بحياة أكثر من 40 عاملة و 492 جريحةً خلال السنوات الأربع الأخيرة، كما أفادت دراسة لوزارة المرأة والأسرة والطفولة أنّ 10.3% من العاملات في الأرياف ضحايا حوادث شغل وأن 21.4% معرضات لمخاطر حوادث الشغل.

المزارعات التونسيات يعاندن قساوة الظروف بالضحك والمزاح (TRT Arabi)
تمتد ساعات العمل في القطاع الفلاحي، حسب أغلب من التقتهنّ TRT عربي، من الساعة الرابعة والنصف صباحاً إلى حدود الخامسة مساءً (TRT Arabi)
تحبس عاملات الفلاحة بتونس قصصاً مؤلمة خوفاً من فقدان عملهنّ (TRT Arabi)
تعتبر المزارعات التونسيات أن الجمعيات الحقوقية لا تلتفت لواقعهن (TRT Arabi)
تمتهن المزارعات التونسيات أعمالاً شاقةً منها جني الثمار الموسمية، والبذر، واقتلاع الطفيليات، وتقليم الأشجار، وحمل المحصول، والحرث مقابل ملاليم قليلة (TRT Arabi)
تكشف الثياب البالية التي ترتديها المزارعات التونسيات عن وضعيتهن الصعبة (TRT Arabi)
مزارعة تونسية تعاند الظروف وتنظف الأعشاب الطفيلية (TRT Arabi)
TRT عربي