تابعنا
لئن أصبحت البيوت المكان الأكثر أماناً للوقاية من انتشار فيروس كورونا المستجد، فإنّها لم تعد آمنةً للكثير من النساء اللاتي بتن يتعرّضن للعنف بشكلٍ شبه يومي، بسبب ملازمة الزوج العصبي المنزلَ.

بات أحدنا يطلع بشكل شبه يومي على منشورات من قبيل: "توا أحسن فترة تنجم تضرب فيها مرتك حجر صحي والمحاكم مسكرة" (إنّها أفضل فترة لتضرب زوجتك لأنّ المحاكم مغلقة خلال الحجر الصحي)، "فرصة باش تضرب مرتك.. ما عندها وين تمشي حتى المحاكم مسكرة" (فرصة لتضرب زوجتك ليس لديها مكان تذهب إليه حتى المحاكم مغلقة)، "ما تغشش راجلك لا ترصيلك تاكل في الضرب" (لا تغضبي زوجك لكي لا تتعرضي للضرب)، وهي نوعٌ من الدعابات السامة التي وجدت طريقها إلى مواقع التواصل الاجتماعي، وتداولها النشطاء على نطاقٍ واسعٍ، خلال فترة الحجر الصحي.

منشورات شرّعت بشكلٍ أو بآخر للعنف الذي تتعرض له الآلاف من النساء التونسيات، وربما الكثير أيضاً من العربيات، حبيسات بيوتهن مع معنفيهن خلال فترة الحجر الصحي الذي فرضته السلطات منذ 20 مارس/آذار 2020 خوفاً من العدوى، ما فاقم هذه الظاهرة التي تضاعفت حوالي 7.5 مرّات في أقلّ من شهرين، حسب الأرقام الرسمية.

من خلف الأبواب الموصدة

ولئن أصبحت البيوت المكان الأكثر أماناً للوقاية من انتشار فيروس كورونا المستجد، فإنّها لم تعد آمنةً للكثير من النساء اللاتي بتن يتعرّضن للعنف بشكلٍ شبه يومي، بسبب ملازمة الزوج العصبي المنزلَ، وتدخّله في كل شؤونه بدءاً من التنظيف حتى الطهي، إلى الاعتناء بالأطفال، وغيرها من التفاصيل الصغيرة.

سعيدة (38 عاماً) من منطقة العيون التابعة لمحافظة القصرين (وسط غرب تونس)، جامعية اضطرّت إلى الزواج بقريب زوجة عمّها بسبب الضغط العائلي الذي لا يسمح بأن تتجاوز الفتاة سنّ الثلاثين دون زواج حتّى لا تصبح عانساً، سبق أن تعرّضت للعنف الزوجي بشكلٍ متفاوت، غير أنّها لازمت الصمت واختارت المحافظة على بيتها وعلى عائلتها المكوّنة من بنتين.

تقول سعيدة التي تحصلنا على عنوانها من إحدى الجمعيات الناشطة في مجال حقوق المرأة بموافقتها لـTRT عربي، إنّ زوجها يعمل بأجرةٍ يومية في حظيرةٍ بناء تبعد حوالي 40 كيلومتراً يقطعها يومياً عبر وسائل النقل الريفي، وإنّ لقاءاتهما لم تكن كثيرة، فهو يخرج باكراً ويعود متأخراً، لكنّ بسبب توقف العمل باتت تواجه عنفاً يومياً، ما اضطرها لأوّل مرّةٍ منذ خمس سنواتٍ إلى مغادرة المنزل برفقة بنتيْها بعد توجهها إلى وحدة الإصغاء في مركز الأمن المخصص لتلقي شكاوى النساء المعنّفات، لكنّها سرعان ما تراجعت عن الشكوى بسبب تدخّلات العائلات.

في حين تحول الحجر الصحي شيئاً فشيئاً إلى "مشهد مرعب"، قضّ مضجع سعاد حمدي (28 عاماً)، التي تعيش بأحد أرياف سيدي بوزيد (وسط غرب تونس) حيث وضعها القدر بين يدي زوج مدمنٍ على الكحول وعنيف يغضب لأتفه الأسباب، لتتحوّل حياتها إلى كابوس بعد أن لازم البيت منذ فُرض الحظر الصحي الشامل على البلاد.

تخبر سعاد TRT عربي، أنّها باتت تتعرّض لإهانات شبه يوميةٍ أمام طفلها (4 سنواتٍ) لأنّ زوجها صار عاجزاً عن توفير الشراب الذي أدمن عليه بعد أن صار عاطلاً عن العمل، وتؤكد أنّ الأمر يتعدى أحياناً الإهانات إلى ضربها وطردها من المنزل، فتذهب إلى بيت أهلها غير البعيد لساعات قبل أن يهدأ روعه ويسمح لها بالدخول.

سعاد تبرّر صمتها بمحاولتها الحفاظ على بيتها، وإصلاح زوجها برغم مرور 10 سنواتٍ على زواجها، وكذلك لتتجنّب ما قد ينتج عن ذلك من فتنةٍ بين أهل زوجها وأهلها الذين لن يصمتوا على ما تتعرّض له ابنتهم، كما أنّ خروجها من بيت زوجها يعدّ وفق أعرافهم عيباً.

شهادات النساء المعنفات اللاتي تحدّثن لـTRT عربي، أكدت الارتباط الوثيق بين التبعات الاقتصادية للأزمة التي تشهدها تونس وارتفاع معدّلات العنف، فسعاد ليست الوحيدة التي طالتها يد الظلم؛ فعواطف الشابة العشرينية التي لم تتزوّج بعد، والتي خرجت للعمل في تنظيف البيوت منذ سنّ الخامسة عشرة، لمساعدة أمّها في تلبية حاجيات دراسة إخوتها الأولاد، هي الأخرى تتعرّض إلى العنف الأسري.

عواطف التي تحدثّت إلينا همساً من الحمام، تقول إنّ شقيقها الذي يصغرها بسنتين يجبرها على إعطائه يومياً ما لا يقل عن 5 دينارات (1.7 دولار)، لشراء مشروبات وسجائر يستهلكها في المنزل بسبب ظروف الحجر الصحي، وحين تمتنع عن ذلك خشية طول مدّة الحجر الصحي ونفاد مدخّراتها، يقوم بضربها بشكلٍ وحشي، حتّى إنّه تسبب لها في إحدى المرّات بجرحٍ كبيرٍ على مستوى الوجه تطلب رتقه 11 غرزة.

تضاعف حالات العنف

واستناداً إلى آخر الإحصائيات التي قدّمتها الخبيرة لدى هيئة الأمم المتحدة للمرأة دنيا العلاني في البرلمان في 1 يونيو/حزيران الحالي، فقد تضاعف عدد الإشعارات لحالات العنف ضد المرأة في الحجر الصحي الشامل 9 مرات، وشدّدت على أنّ مرفق العدالة ورغم أنّه واصل عمله في فترة الحجر الصحي الشامل فإنّه تجاهل عدّة قضايا، واقتصر اهتمامه على قضايا العنف الخطرة فقط.

من جانبها أكّدت وزيرة العدل التونسية ثريا الجريبي تسجيل ارتفاع في حالات العنف خلال فترة الحجر الصحّي، إذ تجاوز في أقلّ من شهرين أكثر من 4 آلاف حالة عنف ضدّ المرأة والطفل.

كما أكدت رئيسة منظمة النساء الديمقراطيات يسر فراوس لـTRT عربي، أنّ الاتصالات التي تلقتها المنظمة بخصوص العنف المسلط على النساء تثبت ارتفاعه بمعدل خمس مرات مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، مشيرةً إلى أنّ تعامل وحدات الأمن مع تلك القضايا لم يكن بالشكلّ المطلوب، ولم يتمّ التدخل بالشكل الكافي بسبب عدم الاهتمام بتلك القضايا في الوقت الحالي.

وقالت فراوس إنّ حالات العنف كانت أغلبها مسلّطة من قبل الزوج، لكن المنظمة فوجئت أيضاً بوجود اعتداءات من قبل أقارب الزوج كأمّه وأخيه وزوجة أخيه.

رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية راضية الجربي، التي أكدت أنّ منظمتها تلقت خلال يومٍ واحدٍ 120 بلاغ تعرّضٍ للعنف في محافظة القيروان وحدها (وسط تونس)، تقول إنّ هذه الأرقام تدل على أنّ وضع المرأة التونسية خطير جداً، وتؤكد في تصريحها لـTRT عربي، أنّ معدّل العنف بالوسط الريفي أعلى بكثيرٍ من الوسط الحضري، لافتةً إلى وجود أسبابٍ عديدةٍ وراء تفاقم هذه الظاهرة؛ أولها الضغط النفسي والخوف من الوضع الوبائي، فضلاً عن عامل الفقر، وارتهان العديد من الأسر إلى المصارف، وعجزها عن سداد قروضها.

الوضع العام المتأزم والظروف التي يعيشها التونسيون فاقمت ظاهرة العنف وخلقت لدى كل تونسي شحنةً عنيفةً مكبوتةً قادرةً على الانفجار في أي لحظة.

سامي نصر، باحث في علم الاجتماع

تبعاً لذلك أطلقت مجموعة من الجمعيات النسائيّة ومنظمات المجتمع المدني حملاتٍ تضامنيةٍ بهدف حماية المرأة التونسية من العنف المسلط ضدّها خلال فترة الحجر الصحي الإجباري، وعبَّرت عديد القَامات النسائية في تصريحات إعلامية عن وُجوب وَضع حدٍّ لهذه الممارسات القمعية.

عن أسباب ارتفاع نسب العنف

وعن أسباب ارتفاع معدّلات العنف خلال ملازمة كلٍّ من الزوج والزوجة البيت، أوضح الباحث في علم الاجتماع سامي نصر أنّ الوضع العام المتأزم، والظروف التي يعيشها التونسيون فاقمت ظاهرة العنف، وخلقت لدى كل تونسي شحنةً عنيفةً مكبوتةً قادرةً على الانفجار في أي لحظةٍ، خاصّة أنّ المعالجة لم تكن بمستوى الحدث، ولم يكن هناك اهتمام اجتماعي من طرف المؤسسات ذات العلاقة بتبعات ملازمة البيوت.

وأشار نصر في تصريحه لـTRT عربي، إلى أنّ كثرة الممنوعات التي أقرّتها السلطات كعدم مغادرة المنزل إلا للضرورة، وإغلاق المقاهي، وعدم التنقل، حدّت من الحريات الطبيعية التي كان التونسيون يتمتعون بها، إلى جانب الفوبيا وحالة الخوف التي سيطرت على المجتمع من وصول فيروس كورونا إلى البلاد في أي لحظة، فضلاً عن فقدان أغلب المواد الاستهلاكية والتي أدخلت المواطن التونسي خاصّةً المسؤول عن البيت في دوّامةٍ من الصراع الذاتي والضغط النفسي، تُرجمت لاحقاً في ردودٍ انفعالية عنيفةٍ.

ارتفاع عدد المُعنّفات أثناء الحجر الصحي لا يمثل حقاً النسب الحقيقية للإحصائيات، لأنّ الخوف من الشكوى أو من نظرة المجتمع لضحية العنف يحول دون الإبلاغ، وتبقى بذلك المرأة رهينة لنزوات رجل البيت وحالته النفسية.

المرأة التونسية تنجح في سن تشريعات مهمّة، لكنها تفشل في القضاء على العنف المسلّط عليها (TRT Arabi)
برغم ارتفاع مؤشر الحقوق والحريات في تونس، ظاهرة العنف ضد المرأة تتفاقم (TRT Arabi)
TRT عربي