معدلات الخصوبة في دول الاتحاد الأوروبي تراجعت خلال عام 2019 (AP)
تابعنا

لم يكن الخطاب الذي ألقاه مؤخراً بابا الفاتيكان فرانسيس، الذي دعا فيه الناس إلى إنجاب الأطفال بدلاً من تربية الكلاب والقطط، إلا مؤشراً إضافياً عن حالة الهلع التي أصابت الجهات الرسمية والمؤسسات الحكومية في أوروبا، تجاه الأرقام الأخيرة المفزعة التي أظهرت تدنياً كبيراً في معدلات الإنجاب في بلدان القارة الأوروبية.

وبينما تحاول الحكومات رسم سياسات وخطط جديدة للتشجيع على الإنجاب ومعالجة مشكلات الخصوبة المتفشية في المجتمعات، يشير في المقابل عديد من الآراء إلى أن القارة العجوز تكاد تقترب من الانقراض، إن لم تعالج المشكلة من جذورها.

ويناقش في هذه الأثناء عديد من الأوساط المختصة، تداعيات هذا التراجع على اقتصادات القارة الأوروبية، في ظرف تنافسي عالمي، إلى جانب الآثار السلبية الأخرى المحتملة.

تراجع معدلات الإنجاب ونسب الخصوبة

أكد عديد من التقارير الإحصائية أن القارة الأوروبية بدأت فعلياً سَلْك طريقها إلى الشيخوخة منذ سنوات طويلة، إذ تراجعت نسب الولادات والخصوبة فيها، فيما ارتفعت أعداد كبار السن ونسب الوفيات.

وتشير في هذا السياق إحصائيات وأرقام رسمية، إلى أن الأشخاص الذين سيتجاوزون 65 عاماً سيشكّلون الغالبية بحلول عام 2064.

وتحدثت في وقت سابق تقارير الأمم المتحدة عن أن انخفاض الولادات في بلدان القارة الأوروبية سيكون ملحوظاً بشدة، لأن من المرجح أن ينخفض الرقم من نحو 707 ملايين بحلول 2050 إلى نحو 645 مليوناً في نهاية القرن الحالي، وبذلك لن يشكّل سكان أوروبا إلا واحداً مقابل كل عشرين شخصاً حول العالم.

فيما أظهرت أيضاً بيانات مكتب الإحصاء الأوروبي، أن نحو 4 ملايين و170 ألف طفل فقط وُلدوا في أوروبا عام 2019، ليبلغ بالتالي معدل الخصوبة الكلي في دول الاتحاد الأوروبي 1.53%.

بذلك بدأت معدلات الخصوبة في دول الاتحاد الأوروبي تسجّل تراجعاً متواصلاً منذ عام 2016.

ولفت مختصون إلى أن إيطاليا وألمانيا وإسبانيا، من البلدان الأوروبية الأكثر تهرُّماً وتهديداً بـ"الانقراض والاندثار". وتحدث في هذا السياق تقرير سابق لصحيفة الغارديان البريطانية، عن التراجع السريع لعدد سكان ألمانيا، إلى الحد الذي يشكل خطراً على زوال الجنس الألماني. وأكّد التقرير أنه خلال جيل من الزمن، وباعتبار أن معدلات الخصوبة في ألمانيا هي الدنيا عالمياً، فسيبلغ عمر نصف سكانها أكثر من 60 عاماً.

ولا يختلف الوضع كثيراً في إيطاليا المرجح أن ترتفع فيها نسب المسنين الذين تجاوزا 65 عاماً إلى حدود 18.8% عام 2050. فيما أكدت إحصائيات أنه في إسبانيا أيضاً يموت أكثر من شخصين لكل طفل يُولَد، وتقترب نسب الولادات في بعض المقاطعات فيها من حدود الصفر.

أوروبا تدق نواقيس الخطر!

على ضوء هذه الأرقام المفزعة، أطلقت عديد من المسؤولين والفاعلين صيحات فزع من "انقراض المكوّن الأوروبي". وكان خطاب البابا فرانسيس أحد هذه الأصوات، إذ ألقى خطاباً مؤخراً توجه فيه إلى الجماهير قائلاً: "نرى أن الناس لا يريدون إنجاب أطفال، أو يريدون إنجاب طفل واحد فقط لا أكثر. وكثير من الأزواج لا أطفال لهم، لكن لديهم كلبان، وقطتان، نعم، الكلاب والقطط تحلّ لديهم محلّ الأطفال".

وأضاف: "هذا الأمر مضحك، وهذا الإنكار للأبوّة أو الأمومة يُضعِفنا ويسلب إنسانيتنا، وبهذه الطريقة تصبح الحضارة قديمة وبلا إنسانية، لأنها تفقد ثراء الأبوة والأمومة".

واختار البابا بهذه الكلمات التعبير عن الخطر الذي يداهم أوروبا في ظل تراجع عدد السكان وانخفاض الولادات. وضم عديد من التيارات والجهات المختصة أصواتها إليه، بخاصة سياسيو الأحزاب القومية المتشددة الذين أطلقوا حملات للتشجيع على الإنجاب وحذروا من أن "الأمة ستواجه ضعفاً كبيراً في المستقبل في حال عدم رفع نسبة إنجاب كل امرأة".

فبعد أن كانت حكومات الدول الأوروبية تنتهج لعقود طويلة سياسات تحديد النسل، وتشجّع على خفض الولادات لتحقيق رفاهية شعوبها، ولمواجهة ما سمّته "القنبلة السكانية" التي تهدّد بمزيد من الكوارث الطبيعية، تصطدم اليوم بخطر شيخوختها وانعدامها، إلى جانب الأعباء الاقتصادية وتراجع النمو الذي تسبب فيه التهرم السكاني.

فتراجع الولادات يعني بالضرورة تراجع اليد العاملة والمنتجة وأعداد الملتحقين بسوق العمل، أما ارتفاع نسب الشيخوخة فيؤدي إلى مزيد من الإنفاق على معاشات التقاعد والإنفاق على الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. وقد لا يسعف في ذلك فتح هذه البلدان أبوابها للمهاجرين لتغطية نقص اليد العاملة مثلاً.

انخفاض الولادات.. العوامل والأسباب

حسب مختصين ومحللين، فإن تراجع نسب الولادات في القارة العجوز يعود إلى عدة أسباب وعوامل، تُعتبر سياسات الحكومات السابقة في الحدّ من النسل والتشجيع على خفض الولادات أهمّها.

كما يُعَدّ توجه الأوروبيات بشدة إلى البحث عن عمل وطموحهن وتطلعهن إلى تحسين مركزهن الأكاديمي والمهني واستغراقهن سنوات طويلة في الدراسة، مقدماً على إنجاب الأطفال، الذي قد يمثّل عائقا لكثيرات منهن في تحقيق ذلك.

إضافة إلى أن التكاليف المعيشية التي تحتّم عمل الزوجين لساعات دوام طويلة، حالت دون إنجاب بعض الأسر الأطفال، أو أكثر من طفل في أحسن الحالات.

ولا تقلّ أفكار وتيارات العدمية، أهمية عن هذه الأسباب في تراجع نسب الولادات، إذ انتشر خلال السنوات الأخيرة تيار يُدعَى تيار "اللا إنجابية Anti-Natalism"، وهو تيار يهدف إلى إقناع الناس بفكرة الكفّ عن إنجاب مزيد من الأطفال لهذا العالم، انطلاقاً من عديد من المبررات والدوافع. وقد اكتسبت هذه الفكرة بالفعل زخماً كبيراً بين كثير من الشباب الأوروبيين.

بذلك يبدو أن على الحكومات الأوروبية بذل جهود مضاعفة، ومعالجة المشكلة من أصولها، لإنقاذ بلدانهم من "الاختفاء" أو "الانقراض".

TRT عربي