تابعنا
يبدأ مسلسل Ethos بدايةً بطيئة قوية التأثير إذ تتبع الكاميرا خطوات مريم بطلة المسلسل الرئيسية بينما تذهب من بيتها من ضواحي إسطنبول إلى مكان عملها بأحد الأبراج الحديثة العالية. تعرّف المحرّك الخفي للإنسان في المسلسل التركي.

أصبح العثور على محتوى سينمائي مميز أمراً صعباً في الآونة الأخيرة بخاصة مع التطورات في أسلوب العرض، وأصبح الخط الفاصل بين المسلسل والفيلم، السينما والتلفاز، الوثائقي والفيديو الشخصي، غير واضح. الأكثر وضوحاً هو أننا نعيش مرحلة انتقالية انتهت فيها الصورة الكلاسيكية للفيلم أو المسلسل ولم تتبلور بعد الصور الجديدة في شكلها النهائي. في وسط هذا الازدحام المرتبك والمربك يأتي مسلسل Ethos (بالتركية Bir Başkadır).

يثير اسم المسلسل وحده الكثير من الأفكار، فالاسم التركي يعني حرفياً (واحد آخر) فهي تعبير غير مفيد بذاته من دون سياق يساهم في الإشارة إلى هذا الآخر، كأن تشير إلى "شخص آخر" أو "شيء آخر" مثلاً، وفي حالة المسلسل فالتعبير يذكرنا بأغنية Memleketim أو وطني أو مسقط رأسي. نالت هذه الأغنية للفنانة آيتن آلبمان Ayten Alpman شهرة واسعة في سبعينيات القرن الماضي، بل إن كثيراً من الأتراك لا يزالون يستمعون إليها يوم رأس السنة الميلادية. الأغنية ببساطة تحتفي بالوطن التركي بوصفه "آخر" أي مميز ومختلف.

على الجانب الآخر فالترجمة الإنجليزية هي كلمة Ethos، وهي كلمة إغريقية تعني "الشخصية" لكن يمكن فهمها بمعنى الميثاق المجتمعي، أو مجموعة القيم والمعتقدات التي تميز مجتمعاً أو دولة. كما يتضح لنا فيوجد الكثير من المعاني فُقدت خلال النقل إلى الإنجليزية، فالعنوان التركي يحيل إلى أغنية شهيرة وهو بوضوح يحتفي بالتميز أو الاختلاف التركي بينما يشير العنوان الإنجليزي إشارة موضوعية باردة -كأنه عنوان بحث علمي- إلى أن المسلسل يناقش القيم التي تحكم المجتمع التركي. بين هذا وذاك نشاهد لوحة فنية من الموزايكو في ما يقارب سبع ساعات.

الحبكة

المسلسل يحكي قصة عدد من المواطنين الأتراك يتميز كل منهم بشخصية وانتماء فكري مختلف ولا يربط بين قصصهم المتشابكة والمعقدة سوى إسطنبول. من الواجب هنا الإشارة إلى أنه ربما كان طموح المخرج والكاتب بيركون أويا Berkun Oya أكبر مما يحتمل المسلسل، فالقصة تضم عدداً غير هين من التفاصيل والعلاقات التي تبدو مفتعلة أو ساذجة، كأن يعرض شخصية معالجة نفسية بمستشفى تركي حكومي منزعجة من مريضتها لأنها ترتدي الحجاب، ربما كان مشهداً كهذا منطقياً منذ عشر سنوات أو أكثر لكن إسطنبول اليوم -وبالأخص بعد موجة المهاجرين واللاجئين منذ الأزمة السورية- تعج بالمحجبات وهو ما يجعله مشهداً مألوفاً بمستشفى عام وغير مناسب بذاته لقيادة الحبكة الرئيسية للمسلسل، إلا أن كل هذه المشكلات يمكن تجاهلها تماماً والتسامح معها إلى أقصى درجة بسبب توفُّر المسلسل على عدد ضخم من العناصر الفنية الأخرى التي جاءت في مستوى فني شديد التميز.

اقرأ أيضاً:

المسلسل يبدأ بداية بطيئة قوية التأثير إذ تتبع الكاميرا خطوات مريم بطلة المسلسل الرئيسية بينما تذهب من بيتها من ضواحي إسطنبول إلى مكان عملها بأحد الأبراج الحديثة العالية.

كان لهذا التأني بعرض المشهد الأول تأثير عميق في الإشارة إلى عدد من التفاصيل البصرية، فالمشهد لم يحتوِ على أي حوار على الإطلاق. لذلك فإن ما نراه هو فتاة محجبة بزي إسلامي محافظ يبدو عليها أنها ليست ميسورة الحال تقطع مسافة طويلة، تبدأ هذه المسافة الطويلة من منطقة شبه قروية فقيرة حتى تصل إلى برج عالٍ حديث التصميم، وحتى هذه اللحظة لا نعلم تحديداً إلى أين تذهب أو من أين أتت، فرجل الأمن بهذا البرج المرتفع يعرفها بما يكفي لأن تدخل من دون أي أسئلة، حتى تدخل إلى شقة سكنية مستخدمة مفتاحها الخاص، يحدث كل ذلك بينما تتابع الكاميرا أوجه التناقض بين نقطة البداية في رحلتها ونقطة النهاية، وتقدم صوراً مقربة لحذائها وهي تخلعه عند دخولها البيت لتقارنه مع بقية الأحذية في البيت ثم نرى مريم تلقى ما تبقى من كأس نبيذ أحمر لتضع الكأس في غسالة الأطباق وهو ما لا يبدو متوافقاً مع زيها المحافظ.

الموزايكو

ما نشاهده في الحلقة الأولى هو تباين قوي بين مشاهد حوارية تركز فيها الصورة على الشخص المتحدث فقط وتضعه في مركز الشاشة ولا يحدث فيها شىء سوى الحوار الدائر ومشاهد أخرى شبه صامته لأشخاص تتحرك في المدينة من دون أن يدور حوار بينهم في أغلب وقت الحلقة. يدور الحوار بين مريم المحجبة التي أدت دورها الممثلة أويكو كارايل Öykü Karayel أداءً أقل ما يقال عنه أنه مبهر، وبين المعالجة النفسية غير المحجبة بيري Peri التي لم يقل مستوى أدائها كثيراً عن أداء كارايل، يستمر الحوار حتى ينتهي لتنقلنا الكاميرا إلى مشاهد صامتة أو قليلة الكلام للبيئة التي يعيش بها مريم وبيري، لتعود مرة أخرة إلى بيري ولكن بعد تغيُّر موقعها من المعالِج إلى المريض.

تذهب بيري إلى صديقتها غير المحجبة أيضاً جولبين Gülbin بمعدل أسبوعي، فهي معالجة نفسية أيضاً، وخلال هذه الجلسة نتفهم مشاعر بيري تجاه مريم ومشكلتها مع الحجاب وانتشار المحجبات وسيطرة حكومة محافظة دينياً على الحكم، وعلى الرغم مما يبدو من أن الحوار يدور بين طرفين متشابهين فإننا نكتشف أن جولبين لا تمثل غير المحجبات، فهي من أصل كردي وابنة عائلة متدينة وأختها محجبة.

ينتهي الحوار الطويل بين بيري وجولبين لننتقل إلى الحوار الأخير في الحلقة وهو حوار جولبين مع عشيقها في بيته وهو حوار بدا من طرف واحد، فكانت الكاميرا شبه مثبتة على وجه جولبين ولم تنتقل إلى صديقها كثيراً، ما يشير إلى أنه حوار مع الذات أكثر من كونه حواراً مع آخر. سنعلم بعد ذلك أن هذا الصديق هو ذاته الشخص الذي تذهب مريم لتنظيف بيته وهو الأمر الذي بدا مفتعلاً لخدمة تشبيك العلاقات بين أبطال المسلسل لكنه في واقع الأمر لم يكن ضرورياً أو مؤثراً في مسار القصة على الإطلاق.

المحرك الخفي

بدءاً من الحلقة الثانية ستكشف هذه الشبكة الأولية من العلاقات عن شبكة أوسع تشتمل على رجل دين محافظ وزوجته وابنتهما التي ترغب في التخلي عن ارتداء الحجاب، وشقيق مريم وزوجته وهو عسكري سابق وحاليًا يعمل كرجل أمن في ملهى ليلي أما زوجته فهي ضحية لحادث اغتصاب. تعيش بيري مع أهلها حتى الآن فهي غير متزوجة وأبواها علمانيان وثريان دائما السفر ولديهما القدرة على توفير تعليم في أمريكا لابنتهما أو قضاء الإجازات في دول أوروبية، وهي صديقة لممثلة ناشئة هي بطلة مريم المفضلة، تكشف جولبين عن علاقة متوترة مع أختها المحجبة تتخذ التدين ستاراً لها لكن مصدرها هو معاناتهم مع أخيهم المعاق، وهي صديقة لسنان Sinan الثري الذي تنظف مريم بيته وتكشف جلساتها مع بيري أنها تخفي إعجاباً به، بينما سنان منغمس في علاقات متعددة مع عدد من النساء يشمل صديقة بيري الممثلة.

يعتمد المسلسل اعتماداً رئيسياً على التحليل النفسي لفهم دوافع هذا المزيج من الأشخاص، فأهم ثلاث شخصيات هم في واقع الأمر معالجون نفسيون ومريم التي تتردد على إحداهن، بينما يظهر بعد ذلك مثقف متدين مهتم بفلسفة كارل يونج Carl Jung، وينتهى الحوار الأخير بين مريم وبيري بمريم تسأل بيري هل تعرفين عالمًا يدعى يونج؟

من المعروف أن كارل يونج هو أحد أهم الأسماء في فضاء التحليل النفسي ويعد أحد الآباء المؤسسين للتحليل النفسي الحديث، والمسلسل يقدم رؤية مميزة لهذه الشبكة المعقدة من الشخصيات والانتماءات من وجهة نظر التحليل اليونجي، وفي الواقع فالمسلسل تعرَّض لعدد من المفاهيم يصعب تناولها في مقال واحد.

التفرد

أحد أهم المفاهيم التي صكها يونج في فلسفته هي عملية التفرد Individuation وهي عملية ينفصل فيها الفرد عن المجموعة أو الارتباطات التي يرتبط بها ارتباطًا غير واعٍ حتى يكتمل تفرده أي يصبح فرداً. في هذه العملية يتعرف فيها الشخص على جانبه المظلم -ما يطلق عليه يونج الظل- الذي تساهم الانتماءات غير الواعية في إخفائه عن الشخص. عند التعرف عليه فقط يمكن للشخص أن يدمجه مع جانبه الواعي فيكتمل تفرده. مجموعات الانتماء قد تكون أيديولوجية كما كانت بيري ترى أن المتدينين قد سيطروا على البلد وهي في واقع الأمر كانت تكرر كلام أمها فقط، أو عائلية كما كانت الحالة مع مريم التي لا تزال تعيش مع أخيها في بيت جدهم وظهرت شخصية سنان بوصفها محركاً لرغبتها في الخروج من دائرتها العائلية المحدودة إلى الارتباط بشخص آخر.

اقرأ أيضاً:

بينما في حالة روهيا (روحية) تمكَّن الظل منها لعدم قدرتها على مواجهتها، فظهرت مكتئبة لا تتكلم حتى تمكنت من مواجهة المغتصب الذي اعتدى عليها وعلمت أنه نال جزاءه، عندها فقط استطاعت دمج هذه الذكرى المظلمة في حياتها لتصبح فرداً كاملاً. وكذلك كانت ابنة رجل الدين هايرونيسا (خير النساء) التي ظلت شبه صامتة ومنغلقة طوال المسلسل حتى قررت مصارحة والدها بأنها لن ترتدي الحجاب. كان المحرك لبيري أيضاً هو رغبتها في الارتباط لكن ما كشف عن ذلك هو جلستها مع جولبين إذ انهارت في إحدى المرات كاشفة عن المعاناة النفسية التي تمر بها حتى يمكنها إيجاد شخص مناسب ترتبط به. أما سنان فسيكشف لنا المسلسل عن علاقته المتوترة مع والدته التي أعدت له طعاماً خصيصاً لأنه يحبه لنعلم أنه والده هو من يحبه في واقع الأمر ليس هو. هكذا نجد أن سنان لم يواجه هذه المشكلة وظل هذا الانتماء إلى الأم في لا وعيه يعبر عن نفسه في شكل علاقات نسائية متعددة غير مرضية بينما كان يجد الراحة في رائحة حجاب مريم الذي تتركه في البيت فهي الشخص الوحيد الذي يهتم به بشكل شخصي.

نلاحظ في المسلسل وهو ما لاحظه كارل يونج أيضاً -لم يلاحظه في المسلسل بالطبع- أن بين عملية التفرد وبين السفر أو الانتقال في المكان ارتباطاً، فجميع هذه الشخصيات مرت بمرحلة من السفر فكان من الواجب أن تسافر روحية إلى قريتها وأن تسافر خير النساء إلى أنقرة وأن تنتقل مريم من الضواحي إلى قلب المدينة، فالكثير من الانتماءات غير الواعية تكون في واقع الأمر متعلقة بالقيود المكانية التي تمنع الإنسان من الوعي بذاته المتفردة من خلال خلقها لعدد من الانتماءات المختلفة مع المحيط المتشابه في الفكر أو العادات أو حتى العلاقة البيولوجية.

يناقش المسلسل أفكاراً متعددة أخرى كالموت والحب والارتباط، وكل هذه الأفكار يستحق مقالاً خاصاً به. لقد نجح بيركون أويا في تقديم وجبة دسمة فكرياً وممتعة بصرياً على درجة عالية من الإتقان والاحترافية، وقد ساعده على ذلك الأداء غير العادي من أويكو كارايل، وعلى الرغم من وجود بعض العيوب في سيناريو المسلسل فإن إغفالها ليس أمراً صعباً على الإطلاق، بخاصة أن الحوار مكتوب بعناية شديدة.

يحتفي أويا بهذا المزيج غير المتجانس من الأشخاص ويعتبره خصيصة مميزة للمجتمع التركي، وقد نجح في التعبير عن ذلك مستخدماً كل الأدوات المتاحة، فعرضت القصة هذا التشابك بوضوح شديد بينما ركز التصوير على هذه التباينات بقوة وثقة، فالتركيز على التباين شمل حتى البيئة العمرانية للمدينة إذ تكرر عرض مشهد صامت لأجزاء من المدينة تظهر فيها الأبراج العالية بجوار البيوت القصيرة القديمة وغيرها من المشاهد. يحاول المسلسل الحفر في الطبقات الكثيفة من الانتماءات التي تقدم هذا المزيج ليصل في النهاية إلى وضع كل هذه الشخصيات تحت عنوان "الإنسان" الذي تحركه دوافعه النفسية. مسلسل "واحد آخر" أو "الميثاق المجتمعي" أو كما أحب أن أترجمه شخصياً "وطن متفرد" مسلسل تركي مميز يستحق المشاهدة والنقد والمناقشة لأكثر من مرة.

المسلسل يبدأ بداية بطيئة قوية التأثير إذ تتبع الكاميرا خطوات مريم بطلة المسلسل الرئيسية (netflix)
يعرض المسلسل شخصية معالجة نفسية بمستشفى تركي حكومي منزعجة من مريضتها لأنها ترتدي الحجاب (Netflix)
المسلسل يحكي قصة عدد من المواطنين الأتراك يتميز كل منهم بشخصية وانتماء فكري مختلف (Netflix)
يعتمد المسلسل اعتماداً رئيسياً على التحليل النفسي لفهم دوافع هذا المزيج من الأشخاص (Netflix)
يناقش المسلسل أفكاراً متعددة أخرى كالموت والحب والارتباط (Netflix)
TRT عربي