تابعنا
انطلقت الموجة من الدار البيضاء فانتشرت في المدن الكبرى، واشتد عودها في العهد الجديد الذي تعهّدها بالرعاية ورأى فيها مشروعه الطري البريء من ثقل الماضي. اكتشف حركة "نايضة" الفنية بالمغرب.

عندما قرّر شابان مغربيان تنظيم مسابقة لفرق موسيقى الموجة الجديدة في خريف 1999، لم يدُر في أوسع أحلامهما أن تتحول مغامرتهما إلى زلزال صغير أصاب الواقع الثقافي من حيث لا يدري، من دون أن يُحدث فيه تحولاً مقيماً. عقدان من الزمن يُفترض أن تكون حركة "نايضة" قد شبّت فيهما عن الطوق، وهي مسافة -إن تكن غير كافية لرؤية شاملة- فإن بوسعنا وضع ما حدث في سياقه الزمني على الأقل.

لم تأتِ من فراغ، خلافاً لما يحلو لنا أن نقول نحن حين تستبد بنا النوستالجيا إلى موسيقى السبعينيات، بل نبتت من شقوق قصورنا الثقافية المتهالكة. بدأت إرهاصاتها الأولى غير واضحة المعالم أواخر التسعينيات مع أجواء "موسيقى الحيحة" كمزيج بين تعابير فنية محلية مثل غناوة وإيقاعات عالمية. وكان من أول من سلك هذا الطريق "هوبا هوبا سبيرت" التي ذاع صيتها فيما بعد والتحقت بها فرق أخرى.

"نايضة" من ناض أو نهض، تُحيل إلى الاستفاقة واستجماع القوى، تعبير استخدمه جمهور تلك الموجة للدلالة على الأجواء الاحتفالية المتحررة التي تزامن انتشارها مع بداية حكم الملك محمد السادس، ثم التقطه المعنيون بتصميم مرجعية فنية لجيل ما بعد عهد الحسن الثاني الطويل المُكبل بالسياسة، ليُطلقوه على ما يشبه البرنامج الثقافي البديل وشبه الرسمي. انطلقت الموجة من الدار البيضاء فانتشرت في المدن الكبرى، واشتد عودها في العهد الجديد الذي تعهّدها بالرعاية ورأى فيها مشروعه الطري البريء من ثقل الماضي. إضافة إلى تكاثر الإذاعات الممولة برأس مال خاص وتراجع وصاية الدولة على الإعلام السمعي كلها عوامل منحت فسحة كبيرة لتلك المجموعات.

إلا أن الحدث النوعي في هذه التجربة كان مهرجان "البولفار" السنوي الذي لمّ شتات مجموعات كانت تغني الراب والهيب هوب والروك-فيوجن في الأزقة الخلفية مثل "آش كاين" و"فناير" و"كازا كرو"، في كتلة واعية بذاتها وحشد لها الجمهور وسلمها مفاتيح المجال والإطار اللوجستي، في انقلاب مدهش للأدوار. المهرجان الذي بدأ بداية متواضعة بمبادرة خاصة تمكن من جذب الانتباه وحظي عام 2009 بدعم مادي، ثم انتقل إلى فضاء أرحب بمنطقة "البطوار" الشعبية التي تحولت من مسالخ بلدية مهجورة إلى مركّب ثقافي، ونال بالمرة نوعاً من الشرعية لدى الرأي العام الذي كان لا يعيره اهتماماً كبيراً حتى ذلك الحين. إلا أنه لم يتحول مع ذلك إلى "وودستوك" المغرب كما أريد له ولم ينشئ قطيعة فنية مستدامة. لماذا؟

بدأت الإرهاصات الأولى لحركة "نايضة" الفنية غير واضحة المعالم أواخر التسعينيات مع أجواء "موسيقى الحيحة" كمزيج بين تعابير فنية محلية مثل غناوة وإيقاعات عالمية.

كأي حركة فنية جديدة لا يمكن أن يكون الباعث بعيداً عن تغير ما في بنية المجتمع انعكس على أشكاله التعبيرية. استشعر الشباب حينها الحاجة إلى التعبير عن اهتماماتهم بمنأى عن جيل آبائهم الذين افتتنوا في السبعينيات بمجموعات الظاهرة الغيوانية مثل "ناس الغيوان" و"جيل جيلالة" و"المشاهب" التي أحدثت انقلاباً في المضامين واتسعت لأحلام جيل ثائر، ولكن في قوالب مألوفة وموروث موسيقي تقليدي. أما موجة نايضة فوجدت نفسها منذ نشأتها قد تورطت في مسار عكسي. فمع أنها منحت جسداً لمواهب مُعطلة ورغبة كامنة في موسيقى جديدة وتعابير بصرية وتصاميم وأزياء وترفيه على مقاسها، وأعطت الشباب فسحة جميلة ومتنفساً من ديوان المجاذيب ومواويل لا تعني لهم شيئاً.

إلا أنها لم تحمل من الحداثة إلا الشكل، فأبرقت وأرعدت موسيقى ولم تمطر فناً حقيقياً. احتفى بها المتفائلون واعتبروها رجّة إيجابية ستخلصنا من التكلس الفني ويكون لها ما بعدها على غرار حركات مثل الـ"موبيدا" الإسبانية، بينما توجس منها آخرون ولم يروا فيها سوى ظاهرة مفتعلة وعملية ماركيتنغ محبوكة رُصدت لها إمكانيات كبيرة وروجت لها وسائط إعلامية حملت لواء التغيير، مثل أسبوعية "تيل كيل" و"لوجورنال". وخلافاً لجاره الإسباني لم يعش المجتمع المغربي قطيعة سياسية وثقافية تستدعي تحولاً حادّاً في الذوق والشكل كالذي اقترحته الظاهرة، بينما انتزعت "موفيدا" مكانتها في مشهد ما بعد فرانكو كمقاومة ثقافية واكبت رسوخ الديمقراطية في إسبانيا ورسوها على برّ الحداثة. وبشكل أعمّ قامت "الموجة الجديدة" في أوروبا على تغييرات اقتصادية واجتماعية عميقة ورافقت تحسن مستوى معيشة فئات اجتماعية وبزوغ عصر جيل جديد غير معنيٍّ بقضايا جيل الحرب العالمية وله مشاغله الخاصة؛ وهي النقلة النوعية التي لم تحدث في المغرب ولا تبرّره بما يكفي نظرية الانفتاح على أوروبا والتأثر بها.

مجموعات ارتبط نجاحها بفضاء "نايضة" أمثال فناير، تبنت شكلا موسيقياً متمرداً وعبّأته بخطاب مثالي مرتبط بالثوابت، فيما عُرف بـ"الراب الوطني" وهي حالة مغربية صرفة.

ومن المفارقة أن مجموعات ارتبط نجاحها بفضاء "نايضة" أمثال فناير، تبنت شكلا موسيقياً متمرداً وعبّأته بخطاب مثالي مرتبط بالثوابت، فيما عُرف بـ"الراب الوطني" وهي حالة مغربية صرفة. وإن كان من غير المنصف إنكار أهمية تجارب خاضها شباب بخلفيات أكاديمية أكثر صلابة عبر مجموعات مثل "غانغا فايبز" و"ضركة" حاولت رسم ملامح جيل قلق على مصيره بلغة ترن فيها مفاهيم المواطنة والحقوق والحريات. ولا شك أن نايضة فجرت مخزون طاقات فنية هائلة، لكن منتقديها يرون فيها فرصة مُهدرة جرت مصادرتها وتسويقها سياسياً، وهو ما يختزله المخرج هشام العسري بقوله إن "نايضة حاولت أن تقول شيئاً في مغرب مشتت ثقافياً ولكن لم تغير شيئاً ولم تحدث رجة في المجتمع".

في المقابل، اعتمدت "ناس الغيوان" وأخواتها نهجاً على قدر من الالتزام السياسي منذ البداية وصدحت بهمهمات الفقراء والفئات المهمشة، في مرحلة طبعها تضييق خانق على الحريات، بل اتسعت آفاقها لقضايا وانشغالات كونية. وعلى الرغم من تأثر مؤسسيها برياح التحرّر التي عاشها جيل الستينيات ونزعتها الأممية، فإن أقدامهم ظلت راسخة في تربتهم الشعبية ونسجوا متن أغانيهم من ديوان الشعر الملحون والعيطة والزجل المكنون في ذاكرة الرواة والحرفيين وصناع الفرجة... فحقّقوا نصوصها وضبطوا إيقاعاتها وأوزانها وأدنوا قطوفها من جمهور يافع اكتشف هويته الفنية من جديد، فأغنته عن استئجار إقامات فنية جاهزة.

من حيث الشكل، وضع رواد "نايضة" نصب أعينهم انتزاع السيادة من النخبة لصالح أبناء الطبقة الوسطى وتلقفهم قبل أن تسرقهم الدروب القديمة. الوصول إلى هذا الخزان البشري كان هو الهدف، والوسيلة جودة الصوت والصورة وإطلاق يد رموز الموجة أمثال "البيغ" و"كازا كرو" و"آش كاين" في تأليف قاموسهم الخاص من ما تسميه النخبة "لغة الزنقة" وتحميله انشغالات جيلهم المباشرة، ورسم أحلامهم بألوان جديدة تعكس قرفه من السياسة والفساد والوصاية ولغة الخشب. لم يحملوا شارات المثقفين لكن امتلكوا دراية تقنية وفنية وظفوها بفاعلية. ويحسب لهم أنهم استطاعوا تنظيم أنفسهم وشق طريقهم في وقت كادت تنعدم فيه صناعة الموسيقى بسبب تفشي القرصنة.

وضع رواد "نايضة" نصب أعينهم انتزاع السيادة من النخبة لصالح أبناء الطبقة الوسطى وتلقفهم قبل أن تسرقهم الدروب القديمة.

أما الظاهرة الغيوانية فكان لها همّ "استيتيقي" مختلف تماماً يكمن في محاولة استعادة الاندماج الاجتماعي الذي فكّكه الاستعمار والخروج من مرحلة التيه الفني لجيل ما بعد الاستقلال، فابتكرت لشباب المغرب الكبير نموذجاً من النماذج الممكنة قوامه لملمة أجزاء الهوية الوطنية والبحث عن الخلاص عبر الثقافة الشعبية. التجربة الغيوانية كانت لها نجاحات مُبهرة من دون شك واستطاعت تحقيق انقلاب على المسار الغنائي السائد في المغرب آنذاك، والعالق بين تأثيري المدرسة الموسيقية الشرقية والنمط الفني الفرنسي، والتفوق على ممثله الرسمي "الأغنية العصرية" التي لم تتخلص من تيمة العشق والحنين.

على أننا لا نبخس أهمية "الحراك الفني" الذي مثلته ظاهرة نايضة بالادعاء أن شهادة ميلادها وقعتها سلطة ما، فليس بوسع أي قرار سياسي أن يخلق تجربة ثقافية. والموجة انطلقت موضوعياً كردّ فعل على تغوّل التطرف السلفي الذي بلغ مداه في هجمات 16 مايو/أيار الإرهابية ثم صعود تيار سياسي محافظ وضِيق ذرع الجيل الجديد بالأعراف والكليشيهات التي وصمته بالانحراف وأدانت موسيقاه المفضلة ووضعتها في خانة العمالة الثقافية والأهواء الشيطانية والمؤامرات الأجنبية. العرف الفني، إن جاز التعبير، كان مُسيجاً بالتابوهات فخنق التجربة وحاصرها في الزمان والمكان، ولم يبقَ لها إلا الاحتواء الناعم أمام صدود الحاضنة الشعبية.

TRT عربي