تابعنا
يوماً فقط بعد إعلانه رئيساً لتونس، توجه قيس سعيد نحو المقهى الذي اعتاد على ارتياده لسنوات في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة. كسّر بروتوكولات الرئيس وحافظ على تواضعه وتعفّفه.

استطاع قيس سعيد أن يكسر الصورة النمطية السائدة حول رئيس الجمهورية، التي ارتبطت لسنوات في أذهان التونسيين بتلك الشخصية المتعالية والمحبة للسلطة والمحاطة بالعسس والمستشارين، لتنهمك في المقابل بخدمة مصالحها الشخصية الضيقة عوض الاستماع إلى مشاغل الشعب وهمومه والبحث عن حلول.

وكأن شيئاً لم يحدث، ينهض رئيس تونس الجديد قيس سعيد بعد يوم من إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية، ليمتطي سيارته ويتوجه نحو المقهى الذي اعتاد لسنوات أن يرتاده في أحد الأحياء الشعبية بالعاصمة، ليرتشف قهوته الصباحية، لكن هذه المرة تحت حراسة أمنية.

بين المقهى والحلاق

"ابن الشعب" أو "ولد الشعب" كما يحلو للتونسيين تسميته، استطاع بحسب كثيرين أن يؤسس لعلاقة أفقية ومباشرة بين الرئيس والشعب، كاسراً بذلك تقليداً دأب على تكريسه رؤساء من قبله، آخرهم الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي.

هرع الكثيرون من نشطاء التواصل ومن محبي قيس سعيد لتداول فيديوهات وصور ترصد سلوكاته وعاداته اليومية بعد توليه رسمياً منصب الرئيس، فتارة تطارده أعين المواطنين في أحد المقاهي الشعبية، وطوراً تصطاده عدسات هواتفهم وهو عند حلاق الحي، تشرئب الأعناق صوبه وتعلو الهتافات منادية باسمه فيجتمع أبناء الحي من حوله ابتهاجاً وفرحاً.

فاز الخبير الدستوري المتقاعد والخارج عن المنظومة الحزبية، بشرعية انتخابية ساحقة بعد حصوله على نسبة تصويت قياسية تجاوزت 70% من الأصوات، وهو الذي رفع شعار "الشعب يريد" منذ انطلاق حملته الرئاسية، مؤكداً أنه حامل لمشروع جديد يؤسس لعلاقة جديدة بين المواطن والرئيس، قوامها الانطلاق من القاعدة نحو المركز وتشريك جميع الفئات الاجتماعية في بلورة مشروع "البناء الجديد".

تواضع وتعفف

من 2011 تواصلت علاقة الشاب والناشط السياسي قيس القروي بقيس سعيد، مرافقاً إياه في جميع خطواته وصولاً إلى الانخراط في حملته الانتخابية في 2019، يثني الشاب في تصريح لـTRT عربي على خصال سعيد واصفاً إياه بأنه رجل متعفف ذو مواقف، وقامة علمية يشهد لها القاصي والداني، كل ذلك لم يمنعه من الحفاظ على تواضعه وانخراطه في قضايا الشباب العاطل عن العمل، ليبث فيهم أملاً جديداً ويبشر بمستقبل أفضل.

يرفض قيس القروي اتهامات وجهها خصوم الرئيس الجديد بممارسة الشعبوية الزائدة، ويصفها بالتلقائية النابعة من فلسفة خاصة بالرجل وتوجُّه نحو تحطيم الصورة النمطية لرئيس الجمهورية الذي يخاطب شعبه من وراء كرسيه الفاره بقصر الرئاسة.

ويقول إن هيبة الدولة وهيبة الرئيس لا تلخص في سيارة فارهة أو حرس رئاسي أو بدلة وربطة عنق، بل تتجلى في القدرة على تطبيق القانون وتأسيس دولة قوامها العدل والمساواة بين المواطنين ومحاربة الفساد وتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية.

خروج عن المألوف

خروج قيس سعيد عن المألوف في البروتوكول الرئاسي، وصل أيضاً إلى زوجته القاضية إشراف نبيل سعيد، إذ أعلن في تصريحات إعلامية أنها لن تحظى بلقب "السيدة الأولى" وبأنه سيعمل على إلغاء هذا البروتوكول مؤكداً أن جميع نساء تونس هن سيدات أوليات.

وتذهب الصحفية المتخصصة في الاتصال السياسي ريم بن خليفة للقول بأن التونسيين اليوم بصدد اكتشاف وجه جديد للرئاسة في تونس، فقيس سعيد علاوة على شخصه المختلف من حيث تكوينه الأكاديمي وحرصه على التواصل مع المواطنين باللغة العربية، كسر تلك الصورة النمطية للرئيس ببساطة وعفوية غير مسبوقة.

وتلاحظ بن خليفة في حديثها لـTRT عربي تمتُّع قيس سعيد بذكاء اتصالي يهدف من خلاله إلى بناء علاقة أفقية مع الشعب، ويعيد خلط المفاهيم الكلاسيكية، بحيث أن هيبة الدولة لم ترتبط يوماً بالبهرج والترف والتعالي عن الشعب بل بالتواضع وتخطي أسوار قصر الرئاسة.

نظافة يد قيس سعيد التي يشهد لها خصومه قبل أنصاره، ساهمت أيضاً في الرفع من شعبيته، ولا يكاد يُعرف للرجل أي نشاط سياسي أو حزبي، في وقت اهتزت فيه صورة الطبقة السياسة برمتها وفقدت ثقة الشعب فيها.

وترى بن خليفة أنه وعلى خلاف ما يقوم به قيس سعيد من نزول للشارع والالتحام أكثر بالمواطنين البسطاء، اعتمد الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي على استراتيجية مختلفة، من خلال إيمانه بأهمية السند السياسي وتأسيسه حزب نداء تونس وتحالفه مع حركة النهضة في إطار البراغماتية السياسية.

إيمان التونسيين برئيسهم الجديد الذي كسر جميع العادات القديمة بين الحاكم والشعب، وبقدرته الفعلية على التغيير والبناء، كان واضحاً منذ الإعلان عن نتائج الانتخابات، إذ أطلق ناشطون شبان حملة تحت شعار "رئيس نظيف دولة نظيفة" شملت حملات نظافة في ربوع البلاد من شمالها إلى جنوبها ودعوات لتغيير سلوكيات فردية وجماعية في الشارع وفي المؤسسات العامة والخاصة وفي وسائل النقل.

وفي وسط كل ذلك يبدو سعيد حلماً بالنسبة للشعب التونسي، بالقطع مع الإرث الرئاسي المهترئ ونحت صورة جديدة للرئيس المنتخب، بعيداً عن الشعارات السياسية المكررة والخطب الرنانة.

TRT عربي