تعود جذور التنافس حول المانش إلى القرن 17م (Others)
تابعنا

منذ أشهر تعصف أزمة الصيد البحري بعلاقات لندن بجارتها الجنوبية باريس، التي احتجزت مؤخراً سفن صيد بريطانية ولوّحت بعقوبات ضد المملكة ردّاً على عدم منحها "ما يكفي" من التراخيص للصيادين الفرنسيين بمياه المانش.

ما تعيبه فرنسا هو أن "لندن لم توفِ بالتزاماتها بموجب اتفاقية ما بعد بريكسيت"، حسب رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس. أما البريطانيون، نقلًا عن المتحدث باسم حكومتهم، فإن المملكة "وافقت على 98% من طلبات تراخيص الصيد التي قدَّمها الاتحاد الأوروبي".

وليست هذه أول أزمة من هذا النوع تعرفها أوروبا، التي طالما عاشت توترات حول السيادة على المياه الإقليمية بين بلدانها، بل وتحولت في أكثر من مرة إلى صدامات عسكرية، على وجه أخصّ في مياه المانش التي يعود التسابق حولها إلى بدايات القرن 17م.

جذور التنافس حول المانش

قبل القرن 17م كان مفهوم السيادة على المياه الإقليمية غائباً عن النقاش الدولي. ومع تطور الصناعة في تلك الحقبة، البحرية منها على وجه التحديد، ومع اكتشاف طرق تجارية جديدة، نشأ تنافس حول التحكم بالمياه.

هكذا، وعند اعتلاء شارل الأول عرش إنجلترا سنة 1603، تعالت معه الشكاوى من تزايد أعداد سفن الصيد الفرنسية والهولندية في بحر المانش. وأصدر وزيره آنذاك روبرت سيسل تقريراً يُحصي فيه من 2000 إلى 3000 سفينة صيد أجنبية بمحاذاة سواحل المملكة، مقابل 100 فقط كانت قبل خمسين سنة من ذلك. وفي سنة 1609 قررت بريطانيا مواجهة ما اعتبرته "اجتياحاً" لملكيتها في تلك المياه. ردّ عليهم الهولنديون بالتلويح بأسلحتهم أمام أي تهديد لمصالحهم في المنطقة.

في ذلك الوقت كان النقاش القانوني قد اشتدّ حول الأحقّية في بسط السيادة على البحر، إذ نشر المحامي الهولندي هوغو غروتيوس إعلان "حرّية البحار Mare Liberum"، الذي ينادي فيه بأن لا أحد له الحق في تملُّك البحر ولا أن يمنع الآخرين من التنقل أو الصيد فيه. الإعلان واجهه النائب البريطاني جون سليدن بإعلان آخر، تحت عنوان "اتفاقية سياسة البحار Mare Clausum"، محاولاً أن يؤكّد أن الدول طالما بسطت نفوذها على مياهها منذ عهد الإمبراطورية الرومانية. فيما يُعَدّ هذان الإعلانان مؤسِّسَين للقانون الدولي حول البحار.

سنة 1662 رفض الملك الفرنسي لويس الخامس عشر المطالبات الإنجليزية بالسيادة على مياه المانش، لينطلق بعدها سباق نحو التسلح البحري وتنافس في امتلاك السفن العسكرية بين الدول المطلة على المضيق. وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب بين بريطانيا من جهة وهولندا وفرنسا من جهة أخرى، فكانت الغلبة فيها للإنجليز بدايةً، لكن الأمور انقلبت لصالح خصومهم في النهاية.

حرب القد

منذ ذلك العهد تدفع النزاعات حول السيادة على البحار العلاقات بين الدول الأوروبية نحو التوتر، وصولاً إلى ما هو طارئ بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لكن قبلها، يُعَدّ آخر صدام حقيقي حول الصيد البحري هو ذاك الذي عاشته أوروبا ما بين نهاية سنوات الخمسينيات والسبعينيات، أو ما يُعرف إعلامياً بـ"حرب القد".

ففي خريف 1958 عرفت المياه الأيسلندية نزاعاً حول الصيد بين جمهورية الجزيرة والمملكة المتحدة، وذلك بعد حصر المنطقة الاقتصادية الحصرية لأيسلندا في أربعة أميال بحرية فقط من سواحلها، مما فتح المجال أمام السفن البريطانية للصيد على مقربة من الجزيرة، وهو الأمر الذي أثار حفيظتها.

رداً على ذلك قرّرَت أيسلندا تمديد مياهها الإقليمية إلى 12 ميلاً بحرياً، الأمر الذي تجاهلته بريطانيا، ليتصاعد التوتر بين الدولتين الذي لجأت فيه البحريتان إلى التهديد بإغراق أي سفن تتخطى حدودها. غير أنه بعد مساعٍ دولية تراجعت المملكة المتحدة في النهاية، واتفق البلدان على تسوية النزاع في المحاكم الدولية.

هذا النزاع الذي سيتجدد مرة أخرى مع قرار توسيع أيسلندا مياهها الإقليمية إلى 50 ميلاً بحرياً، سيوقظ التوترات من جديد بين الجزيرة من جهة وبريطانيا وألمانيا الغربية من جهة أخرى. في هذا الوقت بالذات ستلعب إيسلندا ورقتها الرابحة، وتهدد بالانسحاب من حلف الناتو الذي كان يعتمد على مياهها الإقليمية لرصد تحركات الغواصات السوفييتية، وبالتالي فرضت أمرها الواقع على الدولتين الأوروبيتين الأخريين.

TRT عربي