تابعنا
تحت سماء الدار البيضاء الماطرة، تتنقل "حافلة - حمام" جمعية "جود" بين شوارع المدينة وأزقتها، لتقترب من الأشخاص الذين يعيشون دون مأوى، وتقدم لهم ملابس وأغذية وخدمات للنظافة والرعاية الصحية.

الدار البيضاء ــــ الدار البيضاء مدينة حبلى بالتناقضات والتفاوتات الطبقية الصارخة، تجمع بين عوالم متقاطبة، الغنى الفاحش والفقر المدقع، منازل الميسورين الفاخرة والأحياء الشعبية التي تسكنها الطبقات المتوسطة والمسحوقة، وفئة ثالثة "غير مرئية"، تقتسم معهم جزءاً من هذا الفضاء المكاني، تعيش في الشوارع، تنام على الاسمنت البارد وتلتحف السماء العارية.

منذ 4 سنوات كرَّسَت جمعية "جُود" جهودها لمساعدة الأشخاص معدومي المأوى، فتدخل أزقة وأحياء المدينة وأماكنها المهجورة، تقدِّم لهم وجبات غذائية وملابس وأغطية، كما تحاول مساعدتهم على التخلص من وضعية التشرد، سواء عبر لَمّ شملهم بأسرهم أو دفعهم لتأسيس حياة جديدة بعيداً عن حياة الشارع.

تجربة عابرة للحدود

تقول هند العيدي رئيسة جمعية "جود": من خلال اشتغالنا مع الأشخاص دون مأوى، وقفنا على حاجتهم الأساسية إلى الاستحمام والنظافة، غالبيتهم لا يحظون بفرصة الاستحمام، بما يجعلهم عرضة لأمراض ومخاطر كثيرة، كما يؤثر على صورتهم الاجتماعية ويكرِّس الصور النمطية حولهم".

أمام هذا الوضع، تقول رئيسة الجمعية لـTRT عربي، قررت الجمعية تنظيم زيارات للاستحمام في الحمامات العمومية لصالح الأشخاص دون مأوى، وتضيف: "المبادرة كانت ناجحة، غير أننا اضطُررنا لوقفها مع توالي رفض الحمامات العمومية استقبالهم بسبب شكاوى الجيران حول أن استحمام المشردين في تلك الحمامات سينقل لهم الأمراض المعدية".

"بعد توقف مبادرة الحمامات العمومية"، تكشف العيدي، "توصلت عبر فيسبوك خلال السنة الماضية، بشريط فيديو من أحد أصدقائي بأمريكا، حول "حافلة حمام -shower truck" مجهزة بحمامات مخصصة للأشخاص دون مأوى، تضيف: "راقتنا الفكرة كثيراً، وفكّرنا في تبنِّيها هنا في المغرب، وبدأنا في دراسة المشروع وتكاليفه، وبعدها أهدى شخص محسن جمعيتنا هذه الحافلة مع كامل تجهيزاتها".

" جُود" تجود

انطلقت مبادرة "حافلة حمام جود" قبل 8 أيام، وإلى حدود بداية هذا الأسبوع وصل عدد الأشخاص المستفيدين إلى 305، بمعدَّل متوسط بين 30 و35 شخصاً يوميّاً، وتهدف الجمعية إلى بلوغ 8000 مستفيد، ونقل مبادرتها إلى مدن الدار البيضاء والجديدة والرباط ومراكش وطنجة.

تحمل الحافلة التي تزن 20 طنّاً قرابة 2000 لتر من المياه، وتضم 4 حمامات، بالإضافة إلى مكان مخصص للحلاقة، كما تقدّم ملابس وأحذية رياضية ووجبة عشاء وأغطية لصالح المستفيدين.

يعيش زكرياء منذ 6 سنوات في الشارع، لظروف أسرية قاهرة رفض الخوض فيها، قال إنه سمع بانطلاق المبادرة عن طريق أصدقائه، وقدم من أجل الاستفادة من خدماتها، خصوصاً للاستحمام والحصول على البذلة الرياضية. يقول ساخراً: "دائماً ما أحظى بحمام مائي بارد تحت الأمطار، غير أني أشتاق إلى مياه ساخنة تدفئ جسدي أمام موجة الصقيع".

"حياة الشارع، نهارها قاسٍ وليلها قاتل"، يزيد زكرياء بلسان دارج ولكنة خاصَّة تميِّز شباب الدار البيضاء: "نعيش في خطر دائم ليلاً، وصباحاً نعاني نظرات الاحتقار والإهمال، الكل ينظر إلينا كمجرمين أو كأشخاص سيئين، غير أن الصحيح أننا ضحايا لهذا المجتمع، ولا نؤذي أحداً، بل فقط الظروف دفعتنا إلى ما وصلنا إليه".

تنطلق المبادرة في الساعة العاشرة من مساء كل يوم، ومع اقتراب الموعد مساء الاثنين الماضي اصطفّ أمام الشاحنة عشرات الأشخاص في طابور طويل، مغاربة وأجانب، همهم واحد، الحصول على لحظات من الدفء لأجسادهم المنهكة بصقيع البرد وقساوة كازابلانكا، وفي المقابل، يضع متطوعو الجمعية -أغلبهم من الشباب- آخر الترتيبات لاستقبال ضيوف الليلة.

مع حلول الساعة العاشرة مساءً، تنطلق المبادرة عبر استسقاء معلومات كل مستفيد على حدة، عبر برنامج معلوماتي خاصّ، ثم يمر (المستفيد) إلى عملية تقليم وتنظيم الأظافر بعدها يلج الشاحنة وتقدم له فرشاة ومعجون الأسنان، ثم يمر إلى الحلاق، بعدها الولوج إلى حمامات الاستحمام بالماء الساخن، وعند الانتهاء يحصل على ملابس وحذاء رياضي وغطاء ووجبة عشاء، وأخيراً يخضعون لفحوصات طبية يشرف عليها طاقم طبي.

"لا أستعمل الحمام إلا نادراً، خلال الشهرين الماضيين استحممت مرة واحدة بحمام عمومي، وواجهتني نظرات المرتادين الدونية، وأيضاً تفاديهم الاقتراب مني"، يكشف زكرياء لـTRT عربي، ويضيف: "أرجو أن تستمر هذه الحافلة، أو توفير فضاءات خاصة تحترم كرامتنا من أجل قضاء أغراضنا الحياتية الضرورية".

قصص وتجارب زكرياء ورفاقه في الشارع، تتقاطع رغم الاختلاف في التفاصيل، إذ يتقاسمون المعاناة اليومية واللحظية من أجل الحياة، وأيضاً الأمل في أن انتشار مبادرات كمبادرة "جود" تحفظ إنسانيتهم، أمام ما يعتبرونه "تخاذُلاً" من الجهات الوصية على حمايتهم وتوفير مقومات حياة كريمة.

تقول المشرفة على المبادرة: "نحاول مساعدة المشردين، خصوصاً في الجانب المتعلق بالنظافة، لأهميتها القصوى صحِّيّاً، وأيضاً على المستوى النفسي. عندما يكونون في حالة جيدة، على مستوى الهندام، تتحسن نفسيتهم ويسهل عليهم الاندماج في المجتمع والحصول على عمل وأيضاً تحدِّي النظرة الإقصائية التي تواجههم والتي تحبطهم، فضلاً على أن عدداً منهم بعد هذا قرّر الذهاب للقاء الأهل".

شيماء، شابة عشرينية، تكرِّس ساعات من يومها للتطوع مع جمعية "جود" لمساعدة الأشخاص المشرَّدين، تقول: "اليوم الأول الذي خرجت مع الجمعية رأيت الظروف التي يعيشون فيها، وأثرت فيّ كثيراً، بعدها قرّرت التطوُّع في أنشطة الجمعية، والمساهمة في صناعة سعادة أشخاص آخرين تُشعِرني بالسرور والفرح".

"رغم السهر، أستيقظ في الصباح الباكر للذهاب إلى عملي بكل نشاط ولا أحس بالإعياء، لكوني أنام هانئة وسعيدة بعد أنشطة الجمعية"، تضيف شيماء في تصريح لـTRT عربي، "المستفيدون يخرجون بأحاسيس جيدة وبسعادة غامرة، وهو نفس الأمر بالنسبة إلينا، نتقاسم الأحاسيس ذاتها".

قاعدة بيانات

قبل الاستفادة من خدمات الحافلة، على الأشخاص المشرَّدين تسجيل معلوماتهم في قاعدة بيانات رقمية خاصة، أعدَّها مهندسو معلوميات لصالح جمعية "جود" حتى تتمكن من تسجيل بياناتهم الخاصة: الاسم والسن ومكان الولادة والتوفر على الوثائق التعريفية والمستوى الدراسي والخبرة المهنية...

عن هذه العملية، تقول العيدي إنها بغية جمع إحصائيات حول أعدادهم، وأيضاً مساعدتهم للحصول على عمل أو العثور على عائلاتهم، فضلاً عن أن هذه العملية تسهل علينا تتبُّع كل حالة والبقاء على تواصل معها.

وحول قبول المستفيدين لهذا الإجراء قالت المتحدثة: "توقعنا في البداية أن يعترضوا، غير أنه لم يعترض أي منهم، باستثناء 6 حالات خاصَّة كانت تعاني أمراضاً عقلية، ولم نتمكن من تسجيل معطياتها".

وتربط بين بعض المشرَّدين، وأعضاء ومتطوعي الجمعية، علاقات إنسانية جميلة، كما تلامس الثقة والاحترام المتبادل بينهم، تقول هند: "نعمل معاً منذ سنوات، ربطَتنا علاقات ثقة مع عدد كبير منهم، نعرفهم بالاسم وهم كذلك، هذا من نتائج الاشتغال لأربع سنوات في الشارع".

وبخصوص دعم وتمويل المبادرة، صرّحَت المتحدثة بأن "جود" لا تستفيد من أي دعم من الحكومة أو من الخارج، موضحةً: "دعمنا كله من النشاط الإحساني من أشخاص ذاتيين".

وأبرزت المتحدثة أن الجمعية تشتغل بنظام التطوع، إذ تضمّ شباباً وشابات يعملون أو يدرسون، "خلال الأشهر الستة الأخيرة وُظّف خمسة أشخاص، غير أن باقي الأشخاص الذين يشتغلون مع الجمعية متطوعون، وكل منهم يؤدِّي مهامَّ محدَّدة".

توفّر شاحنة العناية بالمشرّدين في الدار البيضاء أيضاً ملابس وأغطية لهؤلاء الذين يقاسون برد الشوارع (TRT Arabi)
توفر الجمعية في الشاحنة حمّاماً عمومياً للمشردين وخدمات كالحلاقة وغيرها (TRT Arabi)
منذ 4 سنوات كرَّسَت جمعية "جُود" جهودها لمساعدة الأشخاص معدومي المأوى (TRT Arabi)
تنطلق المبادرة في الساعة العاشرة من مساء كل يوم، ومع اقتراب الموعد مساء الاثنين الماضي يصطفّ أمام الشاحنة عشرات الأشخاص في طابور طويل (TRT Arabi)
يستفيد من هذه المبادرة مشرّدون مغاربة وأجانب على حدّ سواء (TRT Arabi)
تحاول الجمعية مساعدة المشردين، خصوصاً في الجانب المتعلق بالنظافة، لأهميتها القصوى صحِّيّاً (TRT Arabi)
TRT عربي