تابعنا
البلدة المترامية الخضرة والجمال البهي التي لا يكلّ سكانها ولا يملون من حرث أراضيهم، وشتلها بشتى أنواع الخضراوات والفواكه والمزروعات المتنوعة انطمست معالمُها، كأنَّ طوفاناً حلّ بها وزلزلَها عن بكرة أبيها.

غزة ـــ قرابة خمسة أعوام مضت على الحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في صيف عام 2014، وتحديداً في الثامن من يوليو/تموز التي أطلق عليها الاحتلال اسم "الجرف الصامد"، فيما سمتها حركة حماس معركة "العصف المأكول".

دامت هذه الحرب القاسية واحداً وخمسين يوماً متواصلًة، لتخلف 2174 قتيلاً، منهم 1743 مدنياً، نصفهم من النساء والأطفال، فيما أثقلت الحرب الجراح في 10870 شخصاً، غالبيتهم من النساء والأطفال أيضاً، حسب أرقام المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

بعد مضيّ عشرة أيام كاملة من حصار خزاعة و35 يوماً من نشوب حرب صيف عام 2014 على غزة، تمكن الصحفيون، أخيراً، من دخول بلدة خزاعة الفلسطينية، المنطقة الأقرب إلى حدود سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، ونقاط التماس والاشتباك معه، لتكون الصدمة على مرأى من أعينهم، إذ انطمست معالم البلدة الزراعية البسيطة، وتوزعت أجساد أبنائها جثثاً ملقاة على الطرقات تنهشها الحيوانات الضّالة، فيما تفوحُ من شوارع البلدة ومن كل زاوية فيها رائحة الموت، والعفن، بعد تحلل تلك الأجساد التي تُركت تنزف لأيام عديدة، في حين مُنع الصليب الأحمر والطواقم الطبية وتم تحذيرهم من الاقتراب من البلدة.

دخل الصحفي أحمد قديح، وهو من سكان بلدة خزاعة، وكانت منعته ظروف الحرب من رؤية أهله على مدار 35 يوماً كاملة مضت من الحرب، دأب فيها على مواصلة عمله، وتغطية جرائم الاحتلال، فيما حالت وسائل الاتصال المقطوعة عن البلدة دون تواصله مع أي فرد من عائلته، سواء والدته أو إخوانه أو زوجته، حتى دخلها صحفياً يمارس مهنته الإعلامية.

آلة القتل المتوحشة

دخل أحمد البلدة ليكشف مع غيره من الصحفيين المجازر التي ارتُكبت في خزاعة. وخلال حصار 10 أيام، لم تتوقف فيه آلة قتل الاحتلال عن صبّ جام نارها وغضبها ولهيبها على كل إنسان وحيوان وجماد في المنطقة، ولم تسعفهم حتى الراية البيضاء في منع الاحتلال من أن يوجه إليه حكماً بالإعدام، كما حصل مع جاره أبو ياسين قديح، وعدد من جيرانه الآخرين من عائلة أبو رجيلة ارتُكبت في حقهم مجزرة شنيعة.

على الرغم من أنهم مدنيون، يبرز أنهم "حاولوا كثيراً استغاثة الصليب الأحمر لإنقاذهم من الموت، أو على أقل تقدير إمدادهم بالطعام وبحليب الأطفال الذي انقطع عن الرضع لأيام طويلة، واستغاثوني كثيراً قبل أن تشتد الاشتباكات وتنقطع الاتصالات"، يحكي قديح لـTRT عربي.

الصدمة الكبيرة

كانت صدمة قديح مضاعفة عن أيّ صحفي آخر دخل خزاعة، فهذه بلدته، هنا بيته، عائلته، أهله، جيرانه وأصحابه، صُدم منذ البداية، فقد انطمست معالم البلدة تماماً، حتى مدخلها الذي يميزها بات ركاماً، أثراً بعد عين، أخذ يسير في شوارع البلدة، لا يرى إلا الركام، والأنقاض، والجثث الملقاة هنا وهناك.

يقول "هالني ما رأيته، شعرت بحزن شديد، تأثرت كثيراً بالصور التي رأيتها، تلك المرأة من عائلة اللحام التي استُشهدت ولا يزال رضيعها يرضع منها طعامه، خارج خزاعة... لكن في خزاعة حدث ما هو أبشع من ذلك، فبدر قديح ضُرب بصاروخ استطلاع هو وعائلات أخرى، وخرجت أمعاؤه، وتُرك لأربعة أيام للحيوانات تنهشه، حتى سُمح للصليب بإخراجه وغيره من المصابين".

ذكريات محفورة

يستكمل مسترجعاً تلك المشاهد البشعة التي لم يستطع محوها من ذاكرته، هناك حيث رأى جثث أربعة من أصدقائه وأقربائه الذين أُلقيَت جثثهم في الطرقات، بل وجرفت آلات الاحتلال جثثهم ومَّثَلت بهم، ومن المشاهد الأصعب التي ربطت لسانه وأبكمته، هناك حيث رأى جثث ستة ممن يعرفهم أُعدموا بدم بارد في حمام أحد البيوت.

يقول "من أفظع المشاهد التي واجهتها كان إعدام الصديق والقريب أحمد قديح مع غيره من الشباب داخل حمام صديق لنا، بعد رميهم بالغاز، وإغمائهم، وتركوا لأيام حتى تحللت جثثهم، وانتشرت الروائح النتنة".

من ذلك البيت الذي لم يستطع صديقه سكناه إلا بعد مضي عامين، عمل فيهما على تغير كل معالمه القديمة، وهو لم يستطع حتى الآن رؤية خزاعة كما كانت سابقاً وإن تم إعمارها ثانية، فلم يتم إعمار تلك القلوب التي نزفت، وفُجعت، والتصق بروحها كل ذلك الكم من البؤس والجرم الذي بات مباحاً.

لم تكن بداية المجزرة في خزاعة

في قرية محاذية لخزاعة تقع الفخاري، وهي بلدة زراعية أخرى تقع بالقرب من الحدود الإسرائيلية مع القطاع، من هناك بدأت الاشتباكات، إذ تسلّلَت عبرها قوات الاحتلال إلى خزاعة لتستكمل جرائمها.

يروي حماد العمور، رجل ستيني وواحد من وجهاء المنطقة الملاصقة لخزاعة، مبيناً صموده وزوجته وأبنائه الثلاثة وابنته مع عائلة شقيقه في منزله القريب من الحدود الشرقية لأيام طويلة، حتى اشتدّ القصف، وزادت الهجمات الإسرائيلية على المنطقة في 21 من يوليو/تموز، فما كان منه إلا أن أصرّ على أن يترك أبناؤه وزوجته وعائلة شقيقه المنطقة التي باتت أكثر خطورة، ويحتّموا في بيت جدهم المتهالك في أطراف أبعد من المنطقة نفسها لكنها باتت أكثر أماناً في هذه اللحظات.

يقول "بقيت صامداً في بيتي حتى اليوم الثاني، بدأت القوات البرية الإسرائيلية التقدم أكثر في المنطقة، وأخذت تجرّف كل البيوت والبنايات في طريقها دون سابق إنذار، فتوجهت حينها إلى بيت شقيقي حامد الذي يبعد عن بيتي نحو كيلومترين إلى الغرب".

بشق الأنفس وبعد تعب طويل من المشي في ذلك الجو المرعب، ووسط الحر الشديد من شهر رمضان، وصل حماد إلى منزل شقيقه حامد يتفقده ويلوذ به، ووجد هناك اثنين من أبناء أشقائه، إبراهيم وسليمان، وهما من المقاومين الذي يحمون البلدة من بطش الاحتلال، فمكث معهما ليوم كامل يرعاهما، ويحثّ همّتهما، قبل أن يشتد القصف أكثر، ويتصل به ولده (تامر) مُصِرّاً على التحاقه بهم في منزل جدهم وإلا فإنهم سوف يعودون ليكونوا معه، ويصيبهم ما سيصيبه.

يقول بألم "ما كان لي وقتها إلا أن أذهب إليهم، وأوصيت ابني شقيقَيّ بالصمود، والانتباه لنفسيهما، ودعوت أن يحميهما ربي ويسدّد خطاهما، وتركتهما وسرت مشياً عبر طريق كروم اللوز لأصل إلى أبنائي".

كانت صدمة أحمد قديح، صحفي فلسطيني، مضاعفة عن أيّ صحفي آخر دخل خزاعة، فهذه بلدته، هنا بيته، عائلته، أهله، جيرانه وأصحابه.  (TRT Arabi)
يروي حماد العمور، واحد من وجهاء المنطقة الملاصقة لخزاعة، عن رؤيته للقوات البرية الإسرائيلية وهي تجرف البيوت والبنايات بدون سابق إنذار.  (TRT Arabi)
صُدم الكثير من الفلسطينيين من رؤية بلدة خزاعة، بعد حرب تموز 2014، وقد تحولت إلى ركام، ومن رؤية الجثث التي قُتلت بدمٍ بارد.  (AP)
دامت هذه الحرب القاسية واحداً وخمسين يوماً متواصلًة، لتخلف 2174 قتيلاً، منهم 1743 مدنياً، نصفهم من النساء والأطفال.  (AP)
TRT عربي