تابعنا
لم تنته معاناتهنّ بمجرّد خروجهنّ من وراء القضبان، بل استمرّت هذه المعاناة لتدمّر حياتهن العائلية والمجتمعية، وتحرمهن من احتضان أبنائهن وعيش حياتهن بشكل طبيعي. هذه حكاياتٌ مؤلمة لنساء سوريات ناجيات من سجون الأسد.

إدلب ــــ لم يميز نظام الأسد بين كبير أو صغير، رجل أو امرأة أثناء اتباعه سياسة الاعتقال والتغييب القسري داخل سجونه. وقعُ ذلك على حياة النساء أشد قسوة، إذ لا تنتهي معاناتهن بمجرّد الخروج من وراء القضبان، بل تعيش الناجية ملامة من محيطها، ومقيدة بنظرات الشك والاتهام بحكم العادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي لا تزال تحكم المجتمع السوري.

حتى في أحلامها وكوابيسها تستعيد رزان ما مرت به أثناء رحلة الاعتقال، على الرغم من أن تفاصيل تلك الفترة لم تغب عن ذاكرتها للحظة بحسب وصفها.

رزان التي رفضت الكشف عن اسمها الكامل (31 عاماً) من مدينة معرة النعمان بريف إدلب الجنوبي تعمل ممرضة، وأثناء ذهابها إلى محافظة حماة لاستخراج وثيقة جواز سفر جرى اعتقالها من قبل الحواجز الأسدية بتهمة مداواة الإرهابيين، ثم جرى اقتيادها إلى السجن المركزي في مدينة حماة، لتُنقل إلى فرع الأمن السياسي في دمشق قبل إطلاق سراحها بتاريخ 30 أكتوبر/تشرين الأول عام 2017.

التعذيب والانتهاكات داخل المعتقلات

تتحدث رزان عن التعذيب داخل سجون نظام الأسد فتقول "جرى احتجازي مع عشرين امرأة في غرفة صغيرة، إحدى النساء كان يرافقها ولدها الصغير داخل السجن، وكنا نتعرض يومياً للضرب والتعذيب، وبخاصة أثناء التحقيق معنا".

تصمت رزان محاولة أن تتجاوز الدمعة التي طفرت من عينها، والغصة في صوتها لتتمكن بعدها من متابعة الحديث فتضيف "الصعق بالكهرباء والحرق بالسجائر والضرب بالعصي والشبح كلها وسائل اتُّبعت معي أثناء التعذيب، بهدف الاعتراف بتهم موجهة إليّ، لم أرتكب أيّاً منها، وكنت مع بقية المعتقلات كثيراً ما نتجاهل آلامنا حين نسمع صوت الرجال الذين يُعذَّبون، ونشتم رائحة الجثث المحروقة." مؤكدة أن كثرة الضرب على رأسها سبّب لها صداعاً مستمراً، ونوبات من الصرع وفقدان الوعي بين الحين والآخر.

غادة الحامد -اسم مستعار- (42 عاماً) من مدينة حماة نجت أيضاً من الاعتقال، وقد وصفت تلك الفترة بالجحيم، بسبب فظاعة ما شهدته وعن ذلك تقول "وُضعت في زنزانة منفردة مظلمة، وبقيت دون أغطية على الرغم من البرد الشديد، لكن السب والشتم والتعذيب النفسي كان أكثر قسوة من عصي السجان التي نهشت جسدي، ولا يمكن أن أنسى الفتاة الحلبية التي اغتُصبت وعُذبت أمامنا حتى الموت".

معاناة مضاعفة تستمر بعد نيل الحرية

معاناة المعتقلات لا تنتهي مع إطلاق سراحهن، فالمرأة حين تخرج من سجنها تتعرض لقسوة المجتمع، واتهامه بأنها وصمة عار دنست شرف العائلة، وقد يكون مصيرها الطلاق أو الإقصاء من قِبل أقرب الناس إليها، وقد تفقد مصدر الرزق وتصبح منبوذة من المحيط الذي تعيش فيه، ما يضطرها إلى السفر أو اللجوء إلى الدول المجاورة ليكون ذلك وجهاً آخر لبؤسها وشقائها.

رزان تصف حياتها بعد الخروج من المعتقل قائلة "بعد حوالي سنة وشهر واحد أُطلق سراحي، فكنت في غاية السعادة، ولكن النظرة الدونية من المجتمع المحيط أزالت فرحتي التي لم تكتمل، إذ وجدت زوجي قد تزوج من امرأة أخرى، وعند خروجي طلقني وحرمني من حضانة أطفالي الثلاثة بحجة أنني (خريجة حبوس) كما وصفني هو وأهله، وليس جديراً بي أن أكون مسؤولة عن تربية الأبناء".

طلب من رزان أن تدفع ثمن ذنب لم ترتكبه، فعادت إلى منزل أهلها مكسورة الخاطر، دمعتها لا تفارق عيونها، وحبست نفسها في غرفتها مع كوابيسها التي لا تفارقها، تقول "أصبحت أخاف أن أنام على الرغم من أن الواقع ليس أفضل حالاً".

"أحس بالألم كلما نظرت إلى أعين الناس التي تراقبني". هكذا تصف عامرة العبد (33 عاماً) من مدينة إدلب حالها بعد نجاتها من الاعتقال أثناء ذهابها للسؤال عن زوجها المعتقل في دمشق منذ أشهر، خروجها كان بصفقة تبادل للأسرى بين الجيش الحر وقوات النظام، وعن ذلك تتحدث لـTRT عربي قائلة "بعد خروجي من المعتقل وجدت معاملة الناس حولي قد تغيرت تجاهي، حتى أهلي لم يرغبوا في رؤيتي، الأمر الذي دفعني للسفر إلى تركيا مع أبنائي، وهناك عدت إلى عملي في الخياطة لتأمين مصدر رزق يساعدني على إعالة أسرتي بكرامة".

آثار نفسية تعوق التكيف مع المحيط

تداعيات مرحلة ما بعد الاعتقال ليست أقل أذىً من الاعتقال ذاته، فتجد المعتقلة نفسها على الرغم من ما تحمله من آلام جسدية وندوب نفسية أمام ظلم آخر بسبب نظرة المجتمع السلبية لها، والمبالغة في الترويج عن تعرض كل معتقلة للاغتصاب، دون تمييز بين المذنبة والضحية، كل ذلك يخلق لدى الكثيرات حالة انزواء مجتمعي وعدم رغبة في مقابلة الناس.

الناشطة الحقوقية هدى سرجاوي مديرة تجمع المرأة السورية تتحدث عن معاناة المعتقلات بقولها إن "الكثير من النساء والأطفال يجري احتجازهم في سجون نظام الأسد دون أسباب قانونية، ليكمل المجتمع المعاناة حين يعتبر كل ما يخص المرأة عاراً حتى لو كانت ضحية".

كما تشير السرجاوي إلى قلة عدد المراكز ومنظمات المجتمع المدني التي تهتم بتأهيل الناجيات والوقوف على احتياجاتهن، والتخفيف من حدة النظرة الاجتماعية القاصرة إليهن، مؤكدة أن المعتقلات السابقات في أمسّ الحاجة إلى الاحترام والحب، كما أن جلسات الدعم النفسي ضرورية للناجية، ولا يمكن إغفالها لتخطّي المخاوف التي تواجهها والذكريات التي تلاحقها".

دافع للنجاح

استطاعت بعض الناجيات أن تتجاوزن النقد المجتمعي من خلال تحويل الألم إلى إرادة ونجاح، منهن رفيف السيد التي خرجت من سجنها أقوى من أي وقت مضى.

استطاعت رفيف بعد خروجها متابعة عملها الإغاثي والإعلامي، وعن ذلك تتحدث إلى TRT عربي قائلة "اعتُقلت بتاريخ 14 أبريل/نيسان 2014 من قبل الأمن العسكري، سرية المداهمات 215 في كفرسوسة بسبب نشاطي الإعلامي والإغاثي".

خرجت رفيف من سجنها بتاريخ 17 مايو/أيار 2019 بعد اعتقال دام خمس سنوات لتتابع عملها، كما استطاعت مع مجموعة من الناجيات تأسيس جسم تنظيمي لهن في الشمال السوري تحت اسم (تجمع الناجيات) بهدف حفظ حقوقهن، ودعم قدراتهن التعليمية والمهنية.

وتضيف أن "100 ناجية اجتمعت في محافظة إدلب بمساعدة منظمة "ضمة" وفي الاجتماع جرى اختيار لجنة إدارية مؤلفة من 7 ناجيات فاعلات لتمثيل التجمع أمام الجهات المنظماتية والحقوقية، ونقل معاناة المعتقلات والمطالبة بتحريرهن".

لا تكفي الكلمات لوصف الانتهاكات التي تحدث في أقبية نظام الأسد، والظلم الذي يلحق بالمعتقلات اللواتي كان ذنبهن الخروج إلى الشوارع للتظاهر السلمي، أو محاولة إنقاذ الجرحى وتضميد جروح المصابين، أو لمجرد القرابة بأحد المطلوبين من الأفرع الأمنية التابعة لنظام الأسد، وفي كثير من الأحيان رغبة في استخدامهن كورقة ضغط أو مبادلتهن بسجناء آخرين، ليكنّ ضحيات داخل ظلام المعتقلات ثم للمجتمع الذي يحرمهن من فرصة العودة إلى الحياة الطبيعية من جديد.

استطاعت بعض الناجيات أن تتجاوزن النقد المجتمعي من خلال تحويل الألم إلى إرادة ونجاح، منهن رفيف السيد التي خرجت من سجنها أقوى من أي وقت مضى (TRT Arabi)
لا تنتهي معاناة المعتقلات السابقات في سجون الأسد بمجرّد الخروج من وراء القضبان، بل تستمر بعد ذلك، لذلك يكون اجتماعهن داخل مراكز تخفيفا لمعاناتهن (TRT Arabi)
استطاعت رفيف بعد خروجها من المعتقل متابعة عملها الإغاثي والإعلامي لفضح الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون في ظل نظام الأسد (TRT Arabi)
جرى احتجاز الكثير من النساء والأطفال في سجون نظام الأسد دون أسباب قانونية، ليكمل المجتمع المعاناة حين يعتبر كل ما يخص المرأة عاراً  (AP)
تشتغل عامرة العبد، من إدلب وناجية من المعتقل، في الخياطة من أجل ضمان قوت عيشها وأطفالها، خاصة بعد إنكار أهلها لها (TRT Arabi)
تقول الكثير من المعتقلات السابقات إنهن تعرضن للتعذيب بشتى أنواعه في سجون الأسد مثل الصعق بالكهرباء والحرق بالسجائر والضرب بالعصيّ (AP)
TRT عربي