دير "سوميلا" الواقع في مدينة طرابزون التركية (AA)
تابعنا

بعكس حلم الراعي في رواية الخيميائي لباولو كويلو، الذي سعى خلف حلمه من إسبانيا إلى مصر من أجل البحث عن الذهب، كان الحلم الذي راود راهبين في القرن الرابع الميلادي سبباً في بناء هذه الأعجوبة المعمارية، ليس من أجل مصالح مادية دنيوية، بل تحقيقاً لرؤيا شاهداها في مدينة أثينا اليونانية، قادتهما إلى الإبحار إلى طرابزون من أجل بناء دير "سوميلا".

ودير "سوميلا" ليس مجرد دير وحسب، بل هو عبارة عن أسطورة حية ما زالت تعيش بيننا، تغني تراث تركيا التاريخي والثقافي، إذ يعد الدير أحد أكثر المواقع الأثرية المثيرة للإعجاب في منطقة البحر الأسود شمال شرق تركيا، ويعتبر من أكثر الأماكن السياحية جذباً للسياح المهتمين بالتاريخ والآثار في ولاية طرابزون، بفضل هيكله المميز وموقعه الفريد على سفح الجبل، كأنه جزء منه.

وعلى منحدر صخري شاهق، يتموضع "سوميلا" كدير أرثوذكسي شرقي على مشارف الجبل الأسود (Kara Dağ) في وادي "ألتين دره" بمنطقة غابات ماتشكا، على ارتفاع 1150 متراً عن سطح البحر. وتأسس الدير المعرف أيضاً بين السكان المحليين باسم "دير مريم العذراء" في القرن الرابع الميلادي بالقرب من مدينة طرابزون، فيما تم تحسين هيكله والإضافة إليه وتزيينه بصور جدارية ومشاهد توراتية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.

بداية الحكاية

وفقاً للأسطورة، شاهد الراهبان برنابا وسوفرونيوس الحلم نفسه، الذي يخبرهما بمكان الكنيسة القديمة "الذي توجد به أيقونة من صنع الرسول لوقا (أحد رسل المسيح الأربعة) الذي يصور بها مريم العذراء"، أو ما يُعرف أيضاً باسم "الأيقونة السوداء"، وعلى أثر ذلك أبحر الراهبان كلّ على حدة من أثينا باتجاه طرابزون، وفي أثناء الرحلة تحدث الراهبان عن حُلمهما بمجرد تلاقيهما، واستنتجا أنها معجزة.

وتتبعاً للقرائن التي شاهداها في حلميهما، ذهبا إلى المنطقة التي يوجد بها دير "سوميلا" الآن، وتمكنا خلال بحثهما من إيجاد الأيقونة التي اختفت لسنوات عديدة داخل كهف في الجبل، وعلى إثر ذلك نجحت محاولاتهما في إقناع الإمبراطور ثيؤدوسيوس الأول من أجل السماح لهما بتأسيس منطقة الدير عام 386 ميلادي، وبناء كنيسة الصخرة التابعة للدير.

ولاحقاً، شهدت منطقة الدير الكثير من التحسينات والإضافات، بدءاً من القرن السادس بعد أن أمر الإمبراطور جستنيان (باني كنيسة آيا صوفيا في مدينة إسطنبول) بترميم الدير، مروراً بالقرن الثالث عشر الذي شهد أوج تطورها خلال فترة حكم الإمبراطور ألكسيوس الثالث لإمبراطورية طرابزون التي تأسست عام 1204، وصولاً إلى فترة الحكم العثماني بعد ضم سواحل شرق البحر الأسود إلى الإمبراطورية العثمانية على يد السلطان محمد الثاني (الفاتح) عام 1461، حيث تبعت منطقة الدير لوصاية السلطان وشهدت في عهده إعادة البناء والتجديد.

وخلال فترة الحكم العثماني، أُوكلت مهمة حماية الدير والمنطقة للجيش العثماني، كما حوفظ على حقوق وامتيازات الرهبان المسافرين للمنطقة، وتمت توسعتها عام 1860.

صورة تظهر بعضاً من ملحقات مبنى الدير (AA)

دير "سوميلا"

يضفي دير "سوميلا" الذي تم تشييده وسط الصخور على سفح منحدر حاد فوق وادٍ ضيق، مظهراً صوفياً على المنطقة المحيطة به، فضلاً عن كونه أحد أقدم وأجمل الأديرة منذ تأسيسه قبل أكثر من 1600 عام ولغاية وقتنا الحالي.

ويتكون مجمع الدير الذي بني على فترات من كنيسة الصخرة، و10 مصليات مختلفة الأحجام، وعين ماء مقدسة لدى الأرثوذوكس (يُعتقد أنها دموع مريم)، وبرج الجرس، وغرف للدراسة، وغرف إقامة الرهبان، ومساحات إدارية، وغرف الطلاب، وكذلك مكتبة ومطبخ من طابقين وبيت الضيافة، كما أن مدخل الدير يحوي العديد من أماكن الحراسة، وبعد التعديلات التي حدثت في فترة الحكم العثماني عام 1860، أثّر المعمار التركي بشكل كبير على بعض البنايات ومحتوياتها مثل الخزائن والمحاريب والمدافئ.

وخلال الفترة الممتدة من القرن الثالث عشر إلى التاسع عشر، زُينت جدران المباني والكنائس داخل منطقة الدير بأكثر من 100 لوحة جدارية رُسمت على الطراز الأرثوذكسي الشرقي بحرفية عالية، تظهر أبرز الأحداث في تاريخ المسيحية وتصور مشاهد من الكتاب المقدس، فضلاً عن ضمها لأشهر شخصيات المعتقد الأرثوذكسي.

ويرجع تاريخ اللوحات الجدارية في الكنيسة إلى بدايات القرن الثامن عشر، ويوجد بها ثلاث طبقات صنعت في ثلاث فترات مختلفة، حيث تعد الطبقة السفلى الأكثر جودة، إذ تحتوي على رسومات مسيحية، وفي الجزء العلوي من الكنيسة المواجه للشرق رُسمت أحداث سفر التكوين، وهو أول أسفار العهد القديم لدى المسيحيين، مثل خلق آدم وحواء والطرد من الجنة، بالإضافة إلى رسومات مسيحية أخرى.

أعمال الترميم

أعيد افتتاح دير "سوميلا" من قبل وزارة الثقافة والسياحة التركية بعد انتهاء أعمال الترميم التي استمرت لأكثر من 5 سنوات، التي ابتدأت في فبراير/شباط 2016 واكتملت على مرحلتين بعد إنهاء مشاريع تنظيم وتجميل المنطقة المحيطة به، بالإضافة إلى أعمال قلع وتقوية الصخور فوق مباني الدير والصيانة الجيولوجية والجيوتقنية لسفح الجبل، بتكلفة وصلت إلى نحو 57 مليون ليرة تركية (6.53 ملايين دولار أمريكي).

وفي أثناء عملية الترميم الضخمة التي شهدها الدير المدرج في قائمة اليونسكو المؤقتة لمواقع التراث العالمي، شارك نحو 100 شخص في الفريق الموكلة إليه مهام الترميم، والذي ضم 5 مهندسين و30 متسلق جبال و55 فنياً و10 عمال مختصين بالترميم.

وبدءاً من شهر يوليو/تموز الجاري يفتتح بعض من أقسام المبنى، مثل الكنيسة ودار الضيافة وغرف الراهبان وغرف المحبسة والقبو، للزوار لأول مرة بعد أكثر من خمس سنوات، وذلك بعد إغلاقها عام 2015 خوفاً من خطر سقوط الصخور من سفح الجبل فوق مباني وملحقات الدير.

TRT عربي