تابعنا
من بلد غارق في الدماء إلى أكثر البلدان الإفريقية جذباً للسياح والمستثمرين، تمكنت رواندا خلال السنوات الأخيرة من جذب أنظار العالم إلى قصة نجاحها الرائدة التي بهرت الجميع وحولتها إلى أسرع الاقتصادات نمواً في القارة الإفريقية.

بعد أن عصفت بها الحروب الأهلية والصراعات العرقية لسنوات، نجحت رواندا أخيراً في النهوض من تحت أشلاء مئات الجثث، وأسست نظاماً مستقراً بوَّأها مرتبة متقدمة بين بلدان القارة السمراء، من حيث النمو الاقتصادي والتجاري واستقطابها الاستثمارات الأجنبية واستقبالها عدداً كبيراً من السياح من مختلف الجنسيات.

وبينما كان اختلاف العرقيات في رواندا في السابق سبباً في غرقها في مستنقع من الدماء، أصبح اليوم عامل إثراء وتنوع، أسّس ثقافة مجتمعية بديلة مبنية على الوحدة الوطنية والتعايش السلمي بديلاً من الصراع والاقتتال، لدفع البلاد إلى مصافّ الدول المزدهرة.

واستحقت بذلك أن تكون نموذجاً يُحتذى بين بلدان القارة السمراء التي لا تزال حتى اليوم تعاني ويلات الحروب العرقية والأهلية، ومرتعاً سهلاً للمليشيات والعصابات الأجنبية التي تستنزف مواردها.

من الصراع إلى المصالحة الوطنية

بعد استقلالها عام 1962، اندلعت مواجهات شديدة بين أبناء طائفة الهوتو الذين يمثلون تقريباً 85% من إجمالي عدد سكان رواندا، وكانوا قد نجحوا في الوصول تدريجياً إلى السلطة، وبين أبناء طائفة التوتسي الذي مثّلوا حينها نحو 10% من السكان. وكان فتيل الصراعات اشتعل بين الطائفتين منذ فترة الاستعمار، إلا أنه اشتدّ وطيسها بعد ذلك وتطورت إلى حرب أهلية دامية استمرت سنوات وأسقطت آلاف القتلى والجرحى، وعدداً كبيراً من اللاجئين الذين فرُّوا إلى الدول الإفريقية المجاورة. وباءت آنذاك جهود الحكومات المجاورة ومنظمة الوحدة الإفريقية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في تحقيق السلام، بالفشل.

ومع حلول شهر أبريل/نيسان عام 1994، تعرضت طائرة زعيم الهوتو رئيس رواندا آنذاك جوفينال هابياريمانا، لضربة صاروخية أسقطتها وأدّت إلى مصرعه على الفور، واتُّهم حينها التوتسي بالوقوف وراء هذه الحادثة، وكان ذلك مبرراً لإشعال جذوة مذابح فظيعة وجرائم إبادة استمرت 100 يوم.

برقية دبلوماسية تكشف أن فرنسا أمرت مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 بالفرار (AA)

وتشير التقديرات الأممية إلى أنه قُتل حينها ما يناهز مليون شخص أغلبهم من طائفة التوتسي والساسة الروانديين المعتدلين، واغتُصب ما بين 150 ألفاً و200 ألف امرأة. وأقيمت المتاريس التي وقف عندها أعضاء الحرس الجمهوري والعسكريون وأفراد الشرطة شبه العسكرية، للتحقق من أفراد التوتسي وتصفيتهم بطريقة مروعة.

وهزت الإبادة الجماعية والوحشية المجتمع الدولي الذي عجز عن وقف هذه الكارثة الإنسانية، وقد كشف في هذا السياق تقرير استقصائي صدر مؤخراً عن مكتب المحاماة الأمريكي ليفي فايرستون ميوز، تورط فرنسا في دعم هذه الإبادة الجماعية، التي سترافق تاريخها المنغمس في الدماء في القارة السمراء، وذلك عبر تسليحها نظام رئيس رواندا آنذاك جوفينال هابياريمانا الذي ينتمي إلى الهوتو، على الرغم من توقعها ارتكابه إبادة جماعية في حق التوتسي.

ومع نهاية الإبادة الجماعية وتوقف سيل الدماء إثر دخول "الجبهة الوطنية الرواندية" العاصمة كيغالي، بات على رواندا النهوض من تحت رماد المحارق التي التهمتها وخلفت وراءها اقتصاداً متهالكاً وشعباً متشظِّياً، وإن كان ذلك يبدو في ذلك الحين أمراً شبه مستحيل، فإنه أصبح اليوم واقعاً ملموساً، وذلك عبر التجريم القانوني لمجرد الحديث او أي استثارة للعرقيات، كأول بند للتأسيس للتعايش السلمي.

ونجحت في الاستثمار في التنوع كعامل مساعد على النجاح والتطور بدل الصراع والاقتتال، وتلاحق إلى اليوم عبر نظام قضائي وجنائي المتورطين في ارتكاب هذه المجازر، لتحقيق المصالحة الوطنية وطيّ صفحة غارقة بالدماء تُعتبر أسوأ حقبة في تاريخ رواندا.

قفزة اقتصادية

على الرغم من أن الأمر استمر عقوداً وسنوات طويلة، فإن رواندا نجحت أخيراً في تحقيق وثبة اقتصادية حولتها من بؤرة للتوتر ورمز للدمار والخراب، إلى أكبر وجهة إفريقية للمستثمرين ورأس المال الأجنبي والسياح من جميع أنحاء العالم.

الزراعة أولى الدعائم الاقتصادية

اعتمدت رواندا منذ البداية للنهوض بالقطاع الاقتصادي على الزراعة، التي تمثّل اليوم نحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي لها، ونحو ربع إجمالي الصادرات، وقطاعاً هامّاً ترتكز عليه العمالة الرواندية.

وتقف القهوة والشاي على رأس قائمة الصادرات الرواندية إلى عدد كبير من دول العالم. وقد شهد هذا القطاع نمواً لافتاً خلال فترة قصيرة، بعد انتهاج خطة وفرت الأسمدة والمعدات الزراعية للفلاحين بأسعار منخفضة، وسهّلَت نقل المحاصيل، فتضاعف الإنتاج بسرعة وحقّق دفعة للاقتصاد الرواندي.

أولى الوجهات السياحية

على الرغم من موقعها الجغرافي الذي لا يتمتع بواجهة بحرية وتحدّه بلدان إفريقية لا تزال تواجه عدة توترات، فإن رواندا تمكنت من جذب السياح بفضل تحقيقها الاستقرار الأمني، وبفضل طبيعتها الغنية بالمتنزهات الجبلية والغابات والأنهار والبحيرات.

ولتشجيع مزيد من توافد السياح، ألغت السلطات الروندية التأشيرات على جميع الأجانب، وفرضت رسوماً رمزية ووفرت مختلف التسهيلات في المعاملات بالمطارات، فحقّق القطاع السياحي وفق إحصائيات رسمية عام 2016، نحو 400 مليون دولار، أي ما يعادل 43% من الدخل الإجمالي للبلاد.

وإلى جانب الزراعة والسياحة، يعتمد الاقتصاد الرواندي أيضاً على التعدين بنحو 13% من إجمالي الدخل العامّ. وبينما تعددت الموارد والقطاعات التي حقّقَت انتعاشة كبيرة للاقتصاد، تمكنت رواندا من تخفيض نسب الفقر وتحقيق ازدهار ونسبة نموّ لافتة، واحتلت المرتبة 29 دولياً في تقرير البنك الدولي عام 2019، لممارسة أنشطة الأعمال.

وأصبح اليوم كثيرون يلقبونها بـ"سنغافورة إفريقيا" أو "سويسرا إفريقيا"، لما حقّقَته من إنجازات رائدة ووثبة اقتصادية هائلة في وقت قصير من الزمن. ويرى خبراء ومحللون أن الإصلاحات التي شملت تقريباً جميع القطاعات، كُثّفت خلال السنوات الأخيرة منذ تولي الرئيس بول كاغامه السلطة عام 2000، الذي وضع خطة استراتيجية لجعل رواندا دولة ذات دخل متوسط ​​أعلى بحلول عام 2035، ثم دولة ذات دخل مرتفع بحلول عام 2050.

TRT عربي