تونسيون يجهزون قبورهم وهم أحياء (TRT Arabi)
تابعنا

تونس ـــ للموت والحياة فلسفة خاصة جداً لا يفقه سرها إلا سكان مدينة "تستور" الواقعة في الشمال الغربي لتونس، فكما يحرص الأهالي على تشييد بيوتهم، يحرصون أيضاً على بناء قبورهم وتجهيز أكفانهم وهم أحياء يرزقون، في عادة أندلسية ضاربة في القدم توارثوها عن أجدادهم منذ أربعة قرون.

عادة أندلسية

يقضي الشيخ السبعيني عبد العزيز الهمامي يومه داخل المقبرة الإسلامية في مدينة تستور، من محافظة باجة غرب البلاد، مماسكاً معوله حينا وفأسه حينا آخر، متنقلاً بين قبورها، وهو الذي امتهن الحفر والبناء منذ أكثر من 30 عاماً، وظلّ حارساً أميناً لسكان المقبرة وزوارها دون أن يكلّ أو يملّ، كما يقول لـTRT عربي.

فخوراً بأصوله الأندلسية، يؤكّد الرجل أن عادة حفر القبور للأحياء في هذه المدينة لها طقوسها الخاصة حتى خلال عملية بناء القبر وتشييده، ويستنكر محدثنا ما يُقال عن "الفال السيئ" في عادة بناء القبور وشراء الأكفان للأحياء، مؤكداً أنها الطريقة المثلى لاستحضار الموت والتقرب أكثر إلى الله والتوبة عن الخطايا والذنوب قبل فوات الأوان.

يستحضر حفار القبور ذكرى حزينة جداً على قلبه، وكيف أنه جهز سابقاً قبره كغيره من سكان المدينة، لكن سخرية القدر عجّلت بوفاة ابنه الشاب في حادثة إجرامية بشعة، ليكفنه الأب بكفنه ويدفنه في "منزوله" أو قبره الفارغ، فيما لا يزال الأب المكلوم ينتظر حكم القضاء للقصاص من قاتل ابنه.

وتُعَدّ مدينة تستور من أقدم المدن الأندلسية، إذ حطّ "المورسكيون" رحالهم في هذه البلدة قادمين من الأندلس قبل أكثر من 4 قرون، ولا تزال آثارهم شاهدة على تلك الحقبة الزمنية سواء في خصوصية عمرانها ومبانيها أو في عادات سكانها التي لا تزال متشبثة بعبق الحضارة الأندلسية.

وحسب المراجع التاريخية فقد أمر فيليب الثاني ملك إسبانيا سنة 1609 بطرد كل المورسكيين الذين رفضوا اعتناق الدين المسيحي وتهجيرهم عنوة إلى شمال إفريقيا كمحاولة منه لطمس معالم الحضارة الأندلسية، ليستقر جزء كبير منهم في تونس بدعم وتشجيع من السلطات العثمانية الحاكمة في تونس آنذاك، ويؤسسوا عدة مدن بينها مدينة تستور التي لا تزال -على خلاف غيرها من المدن- محافظة على العادات والطقوس الأندلسية.

"المنزل والمنزول"

ويطلق أهالي تستور على القبر الفارغ "المنزول" نسبة إلى عملية محاكاة نزول الجثمان إلى القبر، فيما يستغرق بناء القبر الواحد مدة زمنية لا تقلّ عن يومين من الحفر والتشييد، وتتجاوز كلفته 100 دولار، كما أن مقاساته ثابتة لا تتغير، فيما يقع فرشه بالرمل ووضع الحجارة فوقه على شكل هرمي تغطى بعدها بطبقة غير سميكة من التراب والأسمنت ليسهل بعد ذلك فتح القبر عند الحاجة.

ومن العادات التي تميز سكان هذه المدينة، أن يدخل صاحب "المنزول" لقبره بعد تجهيزه وهو على قيد الحياة خلال فترات متباعدة من حياته، ويأخذ وضعية الميت، في مشهد رمزي لاستحضار هيبة الموت وإعطاء النفس فرصة للتدارك والندم عن الخطايا والذنوب قبل ملاقاة ربها.

وعلى خلاف الحركة البطيئة التي تميز باقي المقابر التونسية، فإن مقبرة مدينة تستور أشبه بورشة بناء، فلا تنقطع الحركة على مدار السنة من نشاط العمال، المنهمكين في تجهيز قبور فارغة بطلب من أهالي المدينة، في حرص تامّ على الحفاظ على تلك العادة الأندلسية التي ورثوها عن أجدادهم الأندلسيين.

أكفان للأحياء

شراء القماش المُعَدّ لتجهيز الأكفان، يُعَدّ بدوره من الطقوس التي تحرص عوائل تستور على توارثها جيلاً بعد جيل،كما يقول الكاتب العام المساعد لـ"جمعية تراث مدينة تستور" البحري البوغانمي لـTRT عربي، فيما يفضل بعض العوائل الميسورة شراءه من أسواق مكة أو المدينة المنورة، خلال موسم الحج أو في أثناء أداء مناسك العمرة، وتضاف هذه العادة إلى عادة تجهيز القبور في إطار عقيدة دينية متكاملة لسكان المدينة، حول حتمية الموت وضرورة الاستعداد له.

ومن العادات الأخرى التي تميز سكان هذه المدينة الأندلسية في علاقة بحتمية الموت كما يقول محدثنا، أن النساء يتلحفن بثوب أبيض حريري يسمى "السفساري" حين يقصدن بيت عزاء، على خلاف اللون الأسود المتعارف عليه، كما أن طقوس جنازة الميت "عازباً أو عزباءَ" تتخذ شكلاً احتفالياً بإطلاق الزغاريد، لكنها عادة تلاشت أو تكاد، حسب قوله.

معمار أندلسي فريد

المقبرة الإسلامية بتستور تُعَدّ في حد ذاتها تحفة معمارية، إذ تتخذ أشكال القبور خصوصية مستمَدّة من تاريخها الأندلسي من جهة وجغرافيا المدينة المحاذية لوادي "مجردة" الشهير، حيث يقع جلب "الحصى" واستغلاله في تزيين القبور، كما يقع وضع علامة تسمى "الشاهد" لتمييز جنس المتوفَّى ذكراً أو أنثى، فيخصص للذكر منقوشة حجرية من مادة الجبس تحاكي شكل "العمامة التركية".

حافِظو القرآن الكريم لهم أيضاً مكانة خاصة في قلوب أهالي تستور، فتختلف قبورهم عن باقي القبور العادية ببناء قبة صغيرة تنتهي بفتحة من أعلى شبيهة بزوايا الأولياء والصالحين تكريماً لهم.

يتلاشى الخوف من الموت وقصص أهوال القبور وعذاباتها عند سكان مدينة تستور، بمجرد وقوفهم أمام قبورهم ومحاكاتهم اليومية وهم أحياء يرزقون لعملية دفنهم، حيث لا فرق بين النوم في المنزل والنوم في "المنزول".

مدخل المقبرة الإسلامية في تستور (TRT Arabi)
يطلق أهالي تستور على القبر الفارغ "المنزول" نسبة إلى عملية محاكاة نزول الجثمان إلى القبر (TRT Arabi)
قبور مزينة بالحجارة التي يتم جلبها من وادي مجردة (TRT Arabi)
قبر أندلسي يتميز بالقبة البيضاء من جهة الرأس كدلالة أن المتوفي من حفظة القرآن (TRT Arabi)
تُعَدّ مدينة تستور من أقدم المدن الأندلسية، إذ حطّ "المورسكيون" رحالهم في هذه البلدة قادمين من الأندلس قبل أكثر من 4قرون (TRT Arabi)
TRT عربي