تابعنا
لا يزال فيروس كورونا يلقي بظلاله المرعبة على العالم أجمع، حيث معظم الناس في حجرهم الصحي، والأفق رمادي فيما يتعلق بتداعيات الجائحة على كل الأصعدة.

كما طالعتنا الأخبار بكثير من الإنجازات الريادية للأفراد والأسر خلال الأزمة، فقد فاجأتنا أيضاً مقالات وتقارير مقلقة عن تداعيات الجائحة على الأسرة والمجتمع.

وحسب تقارير رسمية تفاقمت معاناة النساء والأطفال والمرضى، ونشطت خفافيش العنف وتوفرت للمعتدين ظروف مواتية للإساءة.

لقد كان ومازال العنف الأسري ضد النساء والأطفال وكبار السن والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة معضلة حقيقية تزداد تعقيداً في الظروف الاستثنائية كما هو الحال الآن وكذلك في حالات الحروب وعدم الاستقرار عموماً.

ففي بياناتها الرسمية لهذا العام، تحدثت منظمة الصحة العالمية أن من بين 204 ملايين طفل دون سن 18 في أوروبا ، 9.6٪ يتعرضون للاستغلال الجنسي، و 22.9٪ للعنف الجسدي و 29.1٪ منهم عرضة للضرر العاطفي و 700 طفل يُقتلون سنوياً، فإذا كان هذا يحدث في أوروبا موطن حقوق الإنسان، فماذا عن الطفولة في مناطق النزاع والحرب، وماذا عن النساء والأطفال من اللاجئين والمشردين والمهجرين؟

الأسرة محضن وحصن الإنسان السوي المتوازن، تغذي نظام الأمن والأمان الجسدي والنفسي، وفيها تسكن النفوس وترتاح الأجسام، وينعم الأفراد بالمحبة والمودة والدعم لمواجهة تحديات الحياة، والرحمة والتعاون والاحترام المتبادل، لكن حين تفقد خصائصها ويختل توازنها، قد يتحول هذا الصرح إلى ساحة عنف، قد يكون جسدياً ويشمل أنواع الضرب والركل والصفع والدفع أو الخنق أو بالسلاح والعنف أثناء الحمل، أو نفسياً كالسب والشتم والإهانة وكثرة اللوم والتشهير، أو التهديد والمعايرة، أو المراقبة أو الحبس في المنزل، أو التهديد والإذلال والإهمال.

كما قد يتجلى العنف في الغيرة المرَضية المفرطة، وقد يكون أيضاً جنسياً كالتحرش والإجبار على ممارسة العلاقة الزوجية بالقوة والعنف، أو باتخاذ وضعيات جماع محرمة أو مؤلمة، أو الاعتداء والإجبار على تناول الكحول أو المسكرات، أو يكون اقتصادياً كالحرمان من الحقوق المالية أو التحكم في صرف الأموال واختيار الأماكن والملابس والأكل وغيرها من الممارسات المرَضية التي لا يسندها مبرر شرعي أو قانوني، بل ترفضه الفطرة البشرية وتعافه الأنفس الإنسانية السوية.

سجلت منظمة "المساواة الآن" غير الحكومية في الصين تضاعف عدد المكالمات على الخط الساخن للإبلاغ عن العنف المنزلي.

فإذا كان العنف الأسري مستشرياً قبل تفشي فيروس كوفيد-19، فكيف به في هذه الظروف الاستثنائية القاسية التي تمر بها المجتمعات وتعاني منها ملايين الأسر، خاصة أولئك الذين اجتمعت عليهم معضلات الحجر والفقر والمرض والجهل؟

وحسب منظمات الخدمات الاجتماعية العالمية، فإن السبب يعود إلى الجائحة والظروف الاقتصادية والتداعيات الاجتماعية والنفسية للفيروس والتي ساهمت جميعاً في تصاعد وتيرة العنف في أجواء متوترة تسود البيوت، خاصة تلك التي فقد فيها أحد الزوجين أو كلاهما وظيفته، و حسب تلك التقارير فإنه ومنذ بداية الحجر الصحي أبلغت معظم البلدان عن زيادة نسب العنف المنزلي، حتى أن معدلات قتل الإناث تضاعفت.

وسجلت منظمة "المساواة الآن" غير الحكومية في الصين تضاعف عدد المكالمات على الخط الساخن للإبلاغ عن العنف المنزلي، وتشير التقارير الواردة من الصين أن حوادث العنف الأسري تضاعفت ثلاث مرات خلال الوباء.

وحسب إحصائيات الجرائم التي نشرتها الهيئة الملكية الأسترالية في فيكتوريا أن نسبة العنف الأسري هي الأعلى على الإطلاق، أي بزيادة 6.6 ٪ من العام الماضي.

وفي إسبانيا تم الإبلاغ عن أضعاف الحالات طلباً للمساعدة بنسبة زيادة تقدر بـ18٪ في الأسبوعين الأولين من بداية الحجر الصحي، وفي فرنسا أبلغت الشرطة الفرنسية عن زيادة بنسبة 30% في العنف المنزلي، و تراوحت الزيادة في العراق بين 30- 50 ٪ في حين وصلت حسب وسائل إعلام إلى 100 ٪ في.لبنان

وفي تونس صرحت وزيرة المرأة والأسرة أسماء السحيري بتضاعف معدلات العنف المسلط على النساء خمس مرات مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي،وتسجل إحصاءات الأمم المتّحدة أن 37% من النساء في العالم العربي تعرّضن لعنف جسدي أو جنسي لمرّة واحدة على الأقل في حياتهنّ، وأن ستّاً من كلّ عشر نساء معنّفات، لا يُخبرن أي جهة عن معاناتهنّ.

ويوضح تقرير للإسكوا أنّ دولاً عربية قليلة جداً توثّق حالات العنف الأسري، الأمر يجعل من الصعب جداً معرفة حقيقة مستوى زيادة الانتشار، كما سجلت بيانات إدارة شرطة مدينة إسطنبول أن حالات العنف المنزلي بالمدينة زادت في مارس/آذار 2020، 38.2% مقارنة بالشهر نفسه من السنة الماضية.

وحيال هذا الوضع أصدرت الصحة العالمية تقريراً خاصاً عن زيادة العنف الأسري خلال الحجر الصحي بغرض دفع الحكومات والمؤسسات والهيئات الطبية الاجتماعية لاتخاذ تدابير عاجلة لتدارك جائحة عنف منزلي الذي بدا وكأنه يخرج عن السيطرة، خصوصاً أن ارتفاع هذه النسبة إلى الضعف أو أكثر، وهو الأمر الذي دعا المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، السيدة فومزيلي ملامبو-نكوك، لتسميها بالجائحة المستترة.

أصدرت الصحة العالمية تقريراً خاصاً عن زيادة العنف الأسري خلال الحجر الصحي بغرض دفع الحكومات والمؤسسات والهيئات الطبية الاجتماعية لاتخاذ تدابير عاجلة لتدارك جائحة العنف المنزلي.

إن تفشي العنف الأسري في العالم أدى إلى تغيير الطريقة التي تعالج بها محاكم الأسرة مثل هذه القضايا، وجرى تعديل مدونات وقوانين الأسرة بشكل مستمر بما يواكب تطور أشكال العنف الأسري وتفاقم آثاره.

واستدعت كثافة القضايا إلى تعديلات كبيرة في النظام القضائي بل ونهج جديد بأسلوب "عائلة واحدة، قاضٍ واحد"، ليجري دمج الجلسات في مكان واحد من أجل معالجة شاملة لمشكلات الأسرة.

وخلال هذه الجائحة فإن التدابير الاستثنائية ضرورية، و من المهم للغاية ولأجل الحد من العنف الأسري أن تكون العقوبات صارمة ومتسقة في آن واحد لأن إجبار المعنِّفين على العلاج قد يصلح فقط للبعض.

والعلاج يقدم فقط في حالة إذا كان مفيدًا، ولكن ليس بديلاً عن العقاب كما يحدث الآن في كثير من مجتمعاتنا، وذلك حتى لا يفتح الباب لمزيد من المعتدين ويتفاقم العنف الأسري ما دام هناك مهرب من العقاب بحجة التداوي من الضغوط النفسية وغيرها من المبررات.

كما أن هناك أسباباً كثيرة أخرى تزيد من حدة العنف و نجاح المعتدي أو المسيء في النيل من ضحيته على المستوى الفردي والمؤسساتي على حد سواء، أهمها الخوف الذي يسيطر على الضحية، خاصة في حالة تكرار العنف واستمراره لمدة طويلة، وكذلك الحاجة المادية إلى المعتدي.

و في السياق،ترى جوان ماير، أستاذة القانون في جامعة جورج واشنطن ومؤسّسة قانون العنف المنزلي: "تبقى الكثير من النساء في علاقات مدمرة خوفاً من أن يصبحن بلا مأوى مع أطفالهن إذا غادرن البيت أو لأنه لا يمكنهن إعالة أنفسهن وأطفالهن".

وبتتبع حالات المعنفين، فإننا نلاحظ أن الإساءة طالت أيضاً فئات المسنين والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصة الذين يعتمدون على الآخرين في تناول طعامهم و لبسهم وأدويتهم ومجمل أنشطة حياتهم اليومية.

إن العناية بكبار السن وذوي الاحتياجات الخاصة وحمايتهم من كل أنواع العنف الجسدي والمعنوي أصبح ضرورة تشريعية وأخلاقية تستدعي الكثير من التدابير والتشريعات الرادعة في مستوى أهمية هذه الشريحة التي تمثل أصول المجتمع وجذوره تستحق التبجيل والتكريم.

وما زال العالمان الإسلامي والعربي إلى يومنا هذا يعانيان من نقص كبير في السياسات والتشريعات والقوانين الأسرية المتعلقة بمختلف المجالات الاجتماعية، خاصة في موضوع الوقاية والحماية، في حين أن المنظومة الإسلامية بطبيعتها استباقية ووقائية وشاملة، والممارسات الجيدة في العالم كثيرة ومتوفرة.

ما زال العالمان الإسلامي والعربي إلى يومنا هذا يعانيان من نقص كبير في السياسات والتشريعات والقوانين الأسرية المتعلقة بمختلف المجالات الاجتماعية.

وبالنظر إلى الأرقام المخيفة لانتشار فيروس العنف الأسري المصاحب لجائحة كورونا، فإن إعادة النظر في كثير من القوانين ومراجعتها ووضع الهياكل و الآليات المناسبة هو الطريقة المثلى للحد من العنف الأسري و تفاقمه المخيف.

ومن التدابير الجيدة التي قدمتها منظمة الصحة العالمية "حزمة إلهام" لإنهاء العنف ضد الأطفال، وتعتمد على البلدان الملتزمة بمنع العنف ضد الأطفال والتصدي له من خلال سبع استراتيجيات، أهمها: تعزيز تطبيق وإنفاذ القوانين، وتعزيز المعايير والقيم، وإيجاد بيئات آمنة، ودعم الآباء ومقدمي خدمات الرعاية، وتحسين الدخل وتعزيز الوضع الاقتصادي، وتطوير خدمات الاستجابة والدعم والتعليم والمهارات الحياتية. وهي خطة شاملة للقضاء على العنف الأسري وهو الأمر الذي دفع منظمة الصحة العالمية لدعوة كل الدول للانضمام إليها وتبنيها.

إن وقاية الأسرة وحمايتها من العنف متوقف على الإرادة السياسية القوية، والتدابير التشريعية والاجتهاد في تطوير آليات التنفيذ والمتابعة، واستحداث أساليب معالجة فاعلة لمحاكم الأسرة وقضايا العنف المنزلي، وتلقي قضاة محاكم الأسرة تدريبات متخصصة تشمل الأبعاد النفسية والاقتصادية والجنسية للعنف الأسري.

ولضمان تكامل الأدوار واتساقها، ينبغي أيضاً أن يتم دمج مستشارين ذوي خبرة في العنف المنزلي للعمل، ومتخصصين في الصحة النفسية في المحاكم، مع الاستمرار في تعزيز برامج الوقاية ونشر الوعي التي تعتبر صمام الأمان من الفيروسات الاجتماعية المتفشية.

ولا بد أيضاً من رفع مستوى البرامج التدريبية الموجهة للأسرة والمتخصصين في الشأن الأسري من القطاع الطبي والنفسي إلى القطاع الاجتماعي والقضائي والتشريعي، فالوقاية والوعي هما الدرعان الاجتماعيان الأقوى ضد العنف.

مع الأخذ بعين الاعتبار بأن التمكين الاقتصادي للأسرة لب الحل، ثم يأتي الردع والعقوبة في مرحلة لاحقة. إضافة إلى أن الاستثمار المدروس في البناء الثقافي والديني، فيما يسمعه الناس من الأئمة والعلماء والقادة والمشاهير يشكل وعياً مجتمعاً، كما أثبتت التجربة أن حملات الوعي على شاشات التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي مجدية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً