تابعنا
قرية موريتانية نائية ومنعزلة يتوارث سكانها العمى جيلاً بعد جيل، وتكاد قصتها تكون أسطورة بين الأساطير لغرابتها، ففي هذه القرية الصغيرة يعيش أناس يولدون عمياناً من آباء عميان، يعملون وينتجون ويكسبون من عمل أيديهم.

تقع قرية "دالي كمبه" على بعد 60 كيلومتراً من مقاطعة تمبدغه في ولاية الحوض الشرقي أقصى شرق البلاد، وهي قرية صغيرة تأسست قبل 100 عام تقريباً، ومنذ تأسيسها إلى اليوم تقطنها أسر من العميان، وتكون الأسرة محظوظة عن غيرها من أسر القرية إذا أنجبت طفلاً بصيراً أو غير كفيف.

في قرية "دالي كمبه" يعطي مجتمعها المكفوف صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة عن المكفوفين، وكيف تحدّوا في هذه القرية الإعاقة وتجاوزوها، إذ يزرعون في قريتهم وينتجون من مزارعهم بعمل أيديهم، ويربون المواشي ويعتمدون على لحومها وألبانها في معيشتهم اليومية.

وتعد هذه القرية حالة نادرة، فهي القرية الوحيدة في عموم المنطقة التي يتوفر فيها العميان بهذا الكم، فكل أفراد الأسرة الواحدة عميان إلا في حالة نادرة يوجد بصير أو اثنان في أسرة أخرى من أسر القرية، وتوارث سكان القرية العمى في عدة أجيال متتالية إلى جيلهم الحالي التاسع، وهو ما يقدر بحوالي 350 سنة.

الرأي الطبي

وتقول الدكتورة منى الحضرامي وهي باحثة بيولوجية موريتانية أعدت بحثاً اكتشفت من خلاله طفرة وراثية مسببة للعمى بين سكان قرية دالي كمبه المعروفة بقرية المكفوفين، إنها توصلت إلى علاج لهذه الحالة الفريدة من نوعها في البلاد، عن طريق عملية جراحية تقول الدكتورة منى إنها غير مكلّفة، فكل ما تحتاج إليه هو وحدة طبية في القرية وطبيب جراحة أطفال.

وتقول الدكتورة الموريتانية منى الحضرامي التي قدمت الجانب التجريبي من بحثها في مستشفى العيون بالعاصمة الفرنسية باريس وجامعة نواكشوط العصرية، إن العلاج ستكون نتائجه مؤكدة إذا أجريت العمليات للأطفال حديثي الولادة، بينما تتضاءل نسبة نجاحه بالنسبة إلى الطفولة الصغرى والشباب وكبار السن، وقد شكل هذا الاكتشاف بارقة أمل لسكان القرية لكنه لم ينفذ حتى الآن.

تكافل اجتماعي نادر

البصير يساعد الكفيف، قاعدة تطبق في قرية دالي كمبه ربما أكثر من أي مكان آخر في العالم، فالمكفوفون يستعينون بالمبصرين في تعليمهم وبعض الجوانب الحياتية الأخرى، لكنهم لا يعتمدون عليهم في أمور كالزراعة والطبخ وحلب الماشية، فقد علمتهم الحياة كيفية القيام بهذه الجوانب على الرغم من فقدان البصر في قرية من المكفوفين وشظف العيش وتصاعد وتيرة غلاء الأسعار في البلاد وتأخر الأمطار التي تشكل العمود الفقري لديمومة الحياة في هذه القرية.

وفي جزء آخر من التكافل الاجتماعي النادر يحرص المبصرون من شباب القرية على زواج المكفوفات من بناتها، بينما تُزوَّجُ المبصرة للشاب المكفوف غالباً.

كتاتيب في قرية المكفوفين

تعتبر كتاتيب تحفيظ القرآن وتدريس علوم الشريعة الإسلامية المعروفة محلياً بـ"المحظرة" هي وسيلة التعليم الوحيدة المتاحة لأبناء قرية المكفوفين، فيها يحفظون القرآن ويتعلمون علوم الشريعة واللغة العربية والشعر بالسماع.

وعلى الرغم من أن إعاقة البصر المزمنة والوراثية تمنعهم من رؤية الحروف والكلمات، فإن بصيرتهم وإصرارهم على كسب العلوم والمعرفة جعلهم يحققون جزءاً من طموحاتهم في هذا الصدد، فالشعر والقرآن والنصوص الشرعية المنظومة التي يسهل حفظها تعد من ثوابت الفتوة في قرية المكفوفين.

مطالب ومعاناة

طالب سكان قرية دالي كمبه الحكومة الموريتانية بالتدخل للاطلاع على أوضاعهم وتقديم الدعم لهم، لكنها مطالب ظلت حبيسة الرفوف إلى اليوم، ومع ذلك لا يزال بعض وجهاء القرية يحاولون جاهدين الاستجابة لمطالبهم التي لا تتجاوز توفير العلاج والماء الصالح للشرب وبناء مدرسة تعليمية للأطفال تراعي خصوصية الإعاقة المتوارثة.

وعلى الرغم من تماسك السكان وتوحيد موقفهم وما باتوا يشكلون من أهمية كمجموعة انتخابية تعد وجهة للمترشحين للمناصب الانتخابية في المواسم السياسية، فإن ذلك لم يساهم في حلحلة مشاكلهم الملحة.

ويقول أحد وجهاء القرية بنبرة تتكّورُ داخلها فصول من المعاناة إنهم جربوا كل الطرق المتاحة لهم ولم يُستجب لمطالبهم، ولم يبقَ أمامهم إلا مزيد من مواجهة الواقع غير المشجع للحياة على حد تعبيره، مستغرباً في الوقت ذاته صمت الحكومة عن واقعهم.

خريطة القرية

تتكون قرية دالي كمبه من ثلاث قريّات متقاربة، وتشكل مع بعضها مجتمعاً بدائياً منعزلاً عن الحياة الخارجية والتأثر بمقتضياتها، فالمساكن أكواخ وأعرش بالية مترامية بين الأشجار على الرغم من التطور الطفيف في شكلها وبناء بعض الغرف الإسمنتية مؤخراً في أطراف القرية.

لا توجد في القرية مكاتب حكومية أو نقطة صحية أو صيدلية أو مخفر شرطة أو درك، فهي قرية تعيش خارج الاهتمام الحكومي واهتمام المجتمع المدني والأهلي.

غالبية السكان لا يميز بين ضوء الشمس الساطعة وظلمة الليل البهيم بسبب الإعاقة الوراثية، ومع ذلك فليلهم تميزه المدائح النبوية والإنشاد، كما يتبارى الرجال في معرفة الشعر واللغة والتاريخ والأنساب في جو أخوي وفكاهي يتجاوز آثار المعاناة الصعبة.

مستقبل غير مبشر

حسب المعطيات الحالية لا تبدو قرية دالي كمبه ضمن اهتمامات الجانب الرسمي الموريتاني، كما أن المجتمع المدني لا يعتبرها أولوية بالنسبة إليه لتركيز جهوده في العاصمة نواكشوط، وضعف إمكانياته وبعد القرية من العاصمة وصعوبة الوصول إليها.

وجدير بالذكر أن عدة منظمات أجنبية زارت القرية خلال السنوات الماضية، لكن مستوى المساعدات الذي قدمته لم يقلص حجم المعاناة، هذا بالإضافة إلى زيارة أداها والي ولاية الحوض الشرقي واجتمع بالسكان، لكن أيّاً من مطالبهم لم يُلبَّ حتى الآن.

ويفتح باب عدم التدخل الطبي المزيد من حالات الإصابة بهذه الإعاقة المتوارثة بين سكان القرية جيلاً بعد جيل.

هناك طفرة وراثية مسببة للعمى بين سكان قرية دالي كمبه المعروفة بقرية المكفوفين (TRT Arabi)
;تعتبر كتاتيب تحفيظ القرآن وتدريس علوم الشريعة الإسلامية المعروفة محلياً بـ"المحظرة" هي وسيلة التعليم الوحيدة المتاحة لأبناء هذه القرية (TRT Arabi)
في قرية "دالي كمبه" يعطي مجتمعها المكفوف صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة عن المكفوفين (TRT Arabi)
البصير يساعد الكفيف، قاعدة تطبق في قرية دالي كمبه ربما أكثر من أي مكان آخر في العالم (TRT Arabi)
طالب سكان قرية دالي كمبه الحكومة الموريتانية بالتدخل للاطلاع على أوضاعهم وتقديم الدعم لهم (TRT Arabi)
TRT عربي
الأكثر تداولاً