تابعنا
تعرّف على قرية كوشكوي بتركيا التي يتواصل سكّانها بالصفير.

غيرسون، تركيا ــــ حين وصلْنا إلى مطار غيرسون شرقيّ تركيا قادمين من إسطنبول جوّاً، كانت الوجهات السياحية في الولاية المطلّة على البحر الأسود والتي خطّطَت لها مع أصدقائي منذ أشهر، واضحة لنا.

· متحف غيرسون.

· الجزيرة الصغيرة.

· قلعة غيرسون.

كانت كلّها مُسجَّلة لدينا، إلا وجهة واحدة لم نعلم من قبل أنها تقع هنا، غيّرت لنا مسار الرحلة بالكامل: كوشكوي، القرية التي يتواصل سكّانها بالصفير!

كنت قد سمعت صديقاً يحادث زملاءه عن هذه الميزة الغريبة لقرية كوشكوي و"لغة الطير" التي يتواصلون بها.

تعجّبت حين سألني سائق التاكسي إن كانت هذه وجهتنا لحظة خرجنا من المطار. إذاً هي هنا، وسيّاح كُثر يسألون عنها ويقصدونها. لم لا نزورها قليلاً؟

بصعوبة أقنعت أصدقائي بالذهاب إليها بضع ساعات، قبل أن نكمل جولتنا في المتحف والجزيرة بمدينة غيرسون.

فقرية كوشكوي تبعد عن المدينة ساعة بالسيارة، أو بالحافلات الموجودة أمام المطار، هذا ما قاله لنا كارتال، سائق التاكسي الذي بقي معنا طوال اليوم وتَحوَّل إلى مرشد سياحي وهو يسرد لنا كل زاوية كنا نمرّ أمامها وما قصتها.

قرية كوشكوي.. بين جبال بوتنيك الخضراء

طوال المسافة من المطار حتى اقترابنا من القرية الجبلية، كانت مزارع جبال "بونتيك" ذات المنحدرات الوعرة تظهر أمامنا.

فيها نساء كثيرات، بدا لي أنهنّ يجمعْن نوعاً من المكسرات، أخبرتنا عنه السيدة خديجة تشيفيليك. "هذا بندق، إنه موسم حصاد البندق يا صغيرتي".

كانت خديجة بثيابها الزاهية وحزامها الملوَّن تجيبني بحفاوة وهي تستقبلني وأصدقائي أمام منزلها الصغير في كوشكوي حيث تقطن مع أبنائها الثلاثة.

أجابتني بلغة تركية بسيطة بعدما أيقنت أنني بصعوبة أحاول تركيب جملة مفيدة، أحصل فيها على جواب شافٍ.

في يدها كيس البندق وعلى ظهرها حقيبة كبيرة وضعت فيها بعض الطعام والماء، وضعت خديجة إصبعها في فمها وبدأت تصفر.

علا صوتها في المكان، وكانت كلّما حاولنا تصويرها زادت أكثر، كأنها ترحّب بنا في باحة بيتها الخلفية.

أما كارتال فكان يحادث ابنها سردار، الذي هاتفه قبل وصولنا، عن جولتنا المستعجلة في كوشكوي، وأننا نريد التنقل فيها قليلاً وسماع "لغة الصفير" بين أهلها قبل العودة إلى غيرسون.

لكنّ معظم أهالي القرية كانوا في تلك المزارع التي لمحناها من بعيد، يحصدون البندق. وكانت خديجة انتهت وعادت باكراً، وبدأت تخمير الشاي.

كان طعمه مختلفاً، كأنه أكثر حيويَّةً، مع أنه نفسه الذي نشربه في إسطنبول، يُحضَّر ويُقدَّم بذات الطريقة.

ربّما كان السرّ في الهواء هناك، أو الأشجار الكثيرة التي تحيط بمنزل خديجة أينما نظرت. كانت كلّها تكمّل طعمه الساخن اللذيذ.

لغة الصفير.. ليست ميزة بل حلّ

"حَدِّثونا قليلاً بالصفير بينكما"، ضحك سردار ووالدته.

لم يكُن سؤالنا فقط المضحك في تلك اللحظة، فعادة لا يحدث الصفير إلا في المسافات البعيدة.

وبالنسبة إلى الأم وابنها وأهالي القرية عموماً، فهذه لغة اعتادوها، يطلقون عليها اسم "لغة الطيور" أو "كوش ديلي" (kuș dili) نسبة إلى مكان نشأتها، وتعني " قرية العصافير".

هي ليست ميزة كما تقول خديجة، بل حلّ لجأ إليه سكان كوشكوي منذ أكثر من 400 عام للتواصل.

صحيح أن وسائل الاتصال لم تكُن متاحة في ذاك الوقت، لكنّها موجودة الآن. وجارة خديجة التي يبعد منزلها أمتاراً مثلاً، لديها هاتف، لكنّها لا تعرف رقمه، ولا تريد.

تتواصل معها بالصفير كما علّمَتها والدتها منذ سنوات، وكذلك يفعل أهالي القرية، صغارها وكبارها.

المنحدرات الجبلية الوعرة التي تجعل السفر وإن كان لمسافات قصيرة أمراً صعباً للغاية، كانت الدافع إلى ابتكار هذه اللغة، فاستوحى الأهالي طريقة المناداة بالصفير من زقزقة الطيور ورعي الأغنام، إذ يُسمع الصفير لمسافة تصل إلى ثلاثة كيلومترات، وقد تزيد.

ولن تدخل عالَم النسيان..

هذه اللغة أُدرِجَت ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادِّيّ لمنظَّمة الأمم المتَّحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 2017.

مع ذلك يخاف أهالي كوشكوي أن تدخل لغة الصفير عالَم النسيان، لا سيما وأن شبابها ينتقلون إلى المدينة للعمل.

لذا يصرّ حاكمها محمد فاتح كارا مع شريف كوسيك رئيس جمعية لغة الطيور أن يقيما سنويّاً مهرجانات لتعزيز اللغة وتشجيع الشباب والصغار على تعلمها.

ومنذ 15 عاماً تُنظَّم هذه المهرجانات وتستقبل آلافاً من ولاية غيرسون بمختلف قراها.

خديجة وأبناؤها الثلاثة والعروس التي انضمّت إلى عائلتهم حديثاً، جميعهم يشاركون في المهرجان سنويّاً، يرقصون ويغنون ويتواصلون بالصفير معاً.

وقبل أن نغادر القرية وقفنا عند مدخلها حيث مطعم الكُفتة المشوية. التقطنا بعض الصور ثم أكملنا جولتنا بالعودة إلى مدينة غيرسون سريعاً قبل موعد الطائرة في الحادية عشرة ليلاً.

المحطة التالية.. قلعة غيرسون

كانت محطتنا التالية متحف غيرسون والقلعة، كانت المنطقة هناك تعجّ بالزوار العرب القادمين من طرابزون التي تكتظّ بالسياح في الصيف لا سيما القادمين من دول الخليج.

فمدينة غيرسون تقع على بعد 175 كلم من غيرسون، مما يجعلها وجهة سياحية قريبة مميزة.

يعود تاريخ هذه القلعة إلى القرن الثالث عشر، وتقع في وسط المدينة على تلة وتستضيف مجموعة متنوعة من الأحداث سنويّاً، كما تضمّ حديقة يمكن الشواء فيها وقضاء بعض الوقت مع الطبيعة.

متحف غيرسون.. آلاف القطع الأثرية

وأسفل القلعة كان المتحف، الذي يقع بالقرب من الواجهة البحرية، ويضمّ الكاتدرائية اليونانية التي يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر.

ويعرض المتحف، حسبما يُكتب على لافتة كبيرة داخله، 390 قطعة أثرية و561 قطعة إثنوغرافية و2840 قطعة معدنية مختلفة.

جزيرة غيرسون.. المأهولة الوحيدة منذ القدم

كانت وجهتنا الأخيرة هي جزيرة غيرسون، التي قرأت مراراً أنها تستقطب السياح الراغبين في معايشة أجواء الأساطير الإغريقية، من خلال عروض المحاكاة التي تقدّمها فرق تمثيل، والتجول بين الآثار التاريخية فيها.

أوصلَنا كارتال عند القوارب التي تنقل الراغبين في زيارة الجزيرة، وجلس ينتظرنا في مقهى قريب، إلى أن نعود بعد 3 ساعات.

في القارب الذي ركبنا فيه مع 10 أشخاص آخرين، كان المرشد السياحي الذي بدا من قميصه أنه يتبع شركة سياحية خاصَّة، يخبرنا عن المنطقة.

هي الجزيرة التركية الوحيدة الواقعة في البحر الأسود على مسافة كيلومتر واحد فقط من اليابسة.

ووفق روايات تاريخية، فإن "نساء الأمازون" المحاربات كُنّ يعِشْن في المنطقة قبل الميلاد، لذا تجسّدهنّ عروض تمثيلية في الجزيرة، وكذلك شخصيَّة هرقل الذي جاء إلى الجزيرة بحثاً عن "الصوف الذهبي"، وهو صوف لكبش طائر خيالي تناقلته الأساطير الإغريقية.

لم يكُن وقتنا يسمح بالبقاء لمتابعة أي من العروض التي تَحدَّثَ عنها المرشد السياحي، فأغلبها يبدأ مساءً.

كانت الجزيرة وحدها -التي يمتدّ تاريخها إلى ما قبل الميلاد، وتُعَدّ المأهولة الوحيدة منذ القدم في المنطقة- تحتاج إلى يوم كامل للاستمتاع بها حقّاً.

زُرنا بعض القبور البيزنطية والأسوار التاريخية فيها، قبل أن ننطلق بالقارب مجدَّداً إلى اليابسة، ومنها إلى المطار للعودة إلى إسطنبول.

تكاليف الرحلة:

· تذكرة الطيران من مطار إسطنبول إلى مطار أوردو غيرسون: 305 ليرات تركية.

· سيارة التاكسي والسائق ليوم كامل: 600 ليرة تركية (أو يمكنكم استئجار سيارة من المطار مباشرة وقيادتها).

· الدخول إلى القلعة مجاني.

· تذكرة دخول متحف غيرسون: 50 ليرة تركية.

· الرحلة في القارب إلى الجزيرة ذهاباً وإياباً: 35 ليرة تركية.

لغة الصفير أُدرِجَت ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادِّيّ لمنظَّمة الأمم المتَّحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) عام 2017 (iStock)
يخاف أهالي كوشكوي أن تدخل لغة الصفير عالَم النسيان، لاسيما وأن شبابها ينتقلون إلى المدينة للعمل (TRT Arabi)
في ساحل غيرسون نساء كثيرات، يجمعْن مكسرات البندق في موسم حصاده (Istock)
قرية كوشكوي هي قرية جبلية تقع في منحدرات وعرة وتبعد عن المدينة بساعة في السيارة (TRT Arabi)
المنحدرات الجبلية الوعرة التي تجعل السفر وإن كان لمسافات قصيرة أمراً صعباً للغاية، كانت الدافع إلى ابتكار لغة الصفير في كوشكوي (iStock)
قرية كوشكوي من أجمل الوجهات السياحية وأغربها في إسطنبول (TRT Arabi)
تستقطب جزيرة غيرسون السياح الراغبين في معايشة أجواء الأساطير الإغريقية (iStock)
TRT عربي