تابعنا
تسعى الأنظمة العربية إلى إخراس أصوات المثقفين وصرف انتباهم عن القضايا الكبرى التي تعيشها المنطقة العربية والمغاربية، خاصّةً بعد انتفاضات الربيع العربي.

لطالما ارتبطت أدوار المثقف، بإحراج السلطة ومناقضة آرائها و"تكدير الصّفو العام" من خلال طرح الأسئلة القلقة، وتفكيك بنيات المجتمع والنظام، من أجل الانتصار في النهاية للإنسان وقضاياه العادلة، ولمبادئ الحرية والديمقراطية، فوفقاً للراحل إدوارد سعيد، الذي كان من أهم المفكرين العرب الذين وقفوا عند سؤالي الثقافة وأدوار المثقف، فإن النشاط الرئيسي للمثقف، يتمثل في "استجوابِ السّلطة إن لم يكن تقويضها، وتقديمِ صوت مختلف".

إن هذا الدور الذي قدمه سعيد للمثقّف، قد يبدو للوهلة الأولى موغلاً في المثالية، غير أنّه يؤكد خلاف ذلك، في كتابه "صور المثقف"، قائلاً: "إن قول الحق في وجه السلطة ليس مثاليّة مفرطة في التّفاؤل. إنّه تأمل دقيق في الخيارات المتاحة واختيار البديل الصالح، ومن ثم تمثله بذكاء، أينما يمكن إعطاء النّتيجة الفضلى وإحداث التّغيير الصائب".

بعد موجات الربيع الديمقراطي التي عصفت بأنظمة وغيّرت أخرى، تمر المنطقة العربية والمغاربية اليوم بسياق خاص، يستدعي حضور المثقف واضطلاعه بأدواره كسلطة مضادة مُمانعة، بالنظر لحجم القضايا والرهانات المطروحة، بعد أن انكسرت أحلام الربيع وانقلب على آماله، غير أن ما يلاحَظ اليوم، هو العكس تماماً، حيث استطاعت السلطة استقطاب مثقفين، كمحامين مدافعين عنها، ومروّجين لأيديولوجيتها، أو في أحسن الحالات دفعتهم نحو الصمت والحضور الباهت. فهل يمكن اعتبار هذا الصمت، راجعاً إلى تأنٍّ وتريث، قبل استصدار الأحكام أمام تعقد الظرفية وتسارع التغيرات، أم أن الأنظمة استطاعت شراء الأصوات، بآلياتها الخاصة وبالتالي ساد هذا السكون؟

الانزواء أو الصراع

ميّز الالتباس علاقة المثقف والسلطة، كونها علاقة مُركّبة وجدليّة، تتغير مستوياتها ومسافاتها بتغير السياقات، غير أنه يمكن اعتبار أن ما وسمها تاريخياً، هو الصراع والتنافر.

وحول غياب أو خفوت هذا الصراع اليوم، يقول المفكر المغربي أحمد عصيد لـTRT عربي إنّ "وضعية المثقف في السياق الراهن أكثر تعقيداً"، كاشفاً أنه "في ما سبق كان المثقف في وضع صراع مع سلطة التي كانت ترفض التغيير، إلا أنه اليوم اختلطت الأمور لأن السلطة انتهت إلى خلق مجتمع ممانع ضد التطور، وبالتالي أصبح المثقف في صراع مع جبهتين، مع المجتمع ومع السلطة".

من جهته، يقول مصطفى المرابط رئيس "مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني"، إن هناك خصوصيات في المجتمعات العربية، تجعل المثقف مرتاباً نوعا ما، أمام هذه الحراكات، التي تعرف غلياناً إيديولوجياً، لا يسفر عن وجهه الحقيقي، خاصة بعد النهايات المأساوية التي آلت إليها ثورات واعدة، كما حدث في مصر وسوريا"، مبرزاً أن المثقف "وَجد نفسه أمام دولة تزداد تغولاً وتزداد إحكاماً للقبضة على كل مرافق الحياة، ما خلق لديه حيرة، بين أن يتقدم إلى الدولة ويصبح جزءاً منها ويكون أداة من أدواتها، كما هو الواقع اليوم، أو الانزواء على نفسه بعيداً عن الصراع".

وفي الوقت الذي يؤكد فيه المرابط، على "حالة التردد والنكوص والانزواء"، اعتبر أن صمت المثقف، صمت صارخ في الوقت ذاته، تنديداً بتغول الدولة الأمني، وصرخة ضد الصراع الإيديولوجي الذي يغتال كل أمل وفكرة، كان يمكن أن تساعد هذه المجتمعات على الانعتاق السياسي من القهر الذي تعيش فيه، مشيراً إلى أنه "قد لا نجد تبريراً لهذه الحالة لكنها واقع يُتَفَهَّم".

"تغييب ممنهج"

غيابُ المثقفين عن الساحة، أو تغييبهم لم يكن وليد هذه المرحلة أو نتيجةً لما يحدث الآن، بل إنه منذ عقود قادت الأنظمة العربية منظومتَها لإنهاء أي مشروع ثقافي حقيقي. هذا التغييب تمّ حسب الكاتب السوري، المعتصم خلف، "من خلال استخدام كل الأساليب، التي يمكن من خلالها تحجيم وتأطير المثقف ضمن حلقات صغيرة لا يستطيع من خلالها الوصول للمجتمع والتأثير فيه لتغيير واقعه، أو يتعامل مع السلطة ومع ما يحدث من حوله".

بالنسبة للمرابط، فإنه لا يمكن إصدار حكم إطلاقي حول الغياب أو التغييب، مشيراً إلى أن الثورات والحراكات التي وقعت بالمنطقة العربية، لا يمكن أن توعَز إلى الصدفة أو كونها أحداثاً اعتباطية، مشيراً إلى أنها "نتيجة ما تمّ غرسه، من نضالات وقيم وجهود فكرية وبحثية قام بها مثقفون على الأقل، منذ الاستقلال عن الاحتلال الأجنبي"، مضيفاً في حديثه مع TRT عربي، أنّ العمل الثقافي لا يؤتي أُكُله في فترة زمنية قصيرة، إنما على المدى البعيد"، غير أنه سجل في المقابل، غيابَ هذه النخب الفكرية والثقافية، خلال الثورات والمرحلة التي تلتها، وظهور نُخَب وقيادات اجتماعية.

تغييب المثقف عن الصورة وتضييق مساحات التعبير والحرية أمامه، أدى حسب أحمد عصيد، إلى انسحابه من فضاء النقاش العمومي، وخلق أربعة أنواع من المثقفين؛ الخبير، الذي يشتغل على الدراسات والأبحاث لصالح المؤسسات والمختبرات الفكرية، والأكاديمي المنغلق في الجامعة وغير المهتم بالنقاش المجتمعي، ثم المثقف الحزبي، المنشغل بالحزب والأيديولوجية بعيداً عن هموم الشارع الحقيقية، ونوعٌ رابع يشاغب ويطرح الأسئلة القلقة، تهاجمه السلطة ويهاجمه المجتمع، أصبحت وضعيته أكثر صعوبة اليوم، نتيجة تدجين المجتمع، وسيادة وعي مجتمعي مضاد للنقد والمعرفة برعايةٍ من السلطة.

"شراء الصمت"

ولتفادي الأسئلة المحرجة والنقد المقلق، تعمد السلطة، حسب المفكر المغربي أحمد عصيد، إلى شراء صمت المثقفين، وتكميم أفواههم، معتمدةً في ذلك على عدد من الأساليب والآليات، أهمّها الاحتواء والإغراء، من خلال التحفيزات المالية أو المناصب الإدارية أو الوزارية، وأشار المتحدث إلى أن المثقف، بمجرد خضوعه أو استسلامه للمغريات المادية أو الرمزية، يفقد أدواره، "لأنّه لا يمكن أن يقوم بدوره النقدي من داخل المنظومة ومن داخل المؤسسة الرسمية، إذ أمام غياب الاستقلالية تغيب الحرية، وبالتالي لا يمكن لشخص غير حرّ أن يكون مثقفاً".

الآلياتُ الأخرى التي تعمد إليها الدولة تتمثل في توجيه المثقف لأمور أخرى غير أدواره لصرفه عن مهمته الحقيقية وفرض حصار عليه من خلال منع إصدار ونشر كتبه وتقييد انتشارها.

أحمد عصيد، مثقف وشاعر مغربي

الآلياتُ الأخرى التي تعمد إليها الدولة، وفق عصيد، تتمثل في توجيه المثقف لأمور أخرى غير أدواره لصرفه عن مهمته الحقيقية، وفرض حصار عليه، من خلال منع إصدار ونشر كتبه وتقييد انتشارها، ثم مساءلته عبر الاستنطاق البوليسي، والترهيب والإقصاء من الإعلام، فضلاً عن تسليط تيارات التطرف عليه وتحريض رجال الدين والإعلام ضده.

تبذل دوائر السلطة جهداً كبيراً في فصل المثقف والمجتمع، حتى يبدو صوته نشازاً وغير مسموع، وتستطيع بالتالي تمرير الخطاب والرأي الواحد ـ رأيها ـ خلال هذه العملية، عمدت الأنظمة، حسب الكاتب السوري، لاستخدام، كل أساليب القمع، من اعتقال ونفي واغتيال".

ويضيف الكاتب السوري أنّه عندما كُشفت هذه الأساليب المفضوحة، "اختُرعت وسائلُ أكثر عمليةً ونجاعة، من خلال القمع المركّب أو المخملي الذي يتم بقفازاتٍ أنيقة، ويعتمد أساساً على زيادة منصات النشر، الأمر الذي يؤدي لزيادة عدد المقالات والكتب والأفكار والآراء، وكل ذلك من خلال كُتّاب موالين للسلطة يغلفون تصرفاتها، ومنهجيتها بالصواب والحقيقة والعدل. ووسط هذا الكمّ الكبير من المنصّات والمقالات والآراء يتيه المواطن ويغيب المثقف القادر على تقديم نقد حقيقي، وأفكار بنّاءة يمكن من خلالها تغيير ظروف المجتمع وقيادته".

ضمان عدم وصول العمل الثقافي الحقيقي من مقالات وكتب وأبحاث وإبداعات فنية، إلى القارئ هو من أدقّ الأساليب التي تعتمدها السلطات لإخراس أصوات المثقفين، حسب المعتصم خلف، حيث يتم فسح مجالات أوسع لصحفيي ومثقفي السلطة ومنحهم مساحة نقد فارغة، وتقديمهم للمجتمع كأبطال وكأدوات نقد فعالة، بينما يعبّرون عن السطحي ويدافعون عن أطروحات الأنظمة.

وختم خلف تصريحه بالقول إن "المثقف الحقيقي اليوم، هو الذي يملك أفكاراً مختلفة وغير مؤدلجة، يعمل في حدود الممكن، ويقوم رهانُه على مدى وصولها، وليس على المادي لأنه يعمل ضمن حدود اختياراته الشخصية، ويراهن على القارئ القادر على الاطلاع والبحث والوصول لما يكتب".

تغييب المثقف عن الصورة وتضييق مساحات التعبير والحرية أمامه أدى إلى انسحابه من فضاء النقاش العمومي (AP)
TRT عربي