التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي
تابعنا

منذ ظهورها أثارت مواقع التواصل الاجتماعي بمختلف منصاتها عديداً من التساؤلات حول شخصيات مستخدميها وذواتهم، لا سيّما وأنّ جزءاً كبيراً من الطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا ونقيّم بها ذواتنا بات مرتبطاً بدرجةٍ كبيرة بحساباتنا في تلك المواقع وما ننشره فيها وطريقة تفاعل الآخرين معنا وتفاعلنا معهم.

على أثر ذلك ظهر عديد من الدراسات السيكولوجية التي تبحث في السلوكيات المتعلقة بالسوشيال ميديا. حاول بعض منها الغور في أسبار العلاقة بينها وبين أنواعٍ معيَّنة من الشخصيات، كالشخصية النرجسية والهستيرية والحدّية. لكنْ بدايةً، حتى لا يحصل لبس في فهمنا لهذا، علينا أنْ نفهم أنه حين حديثنا عن تلك الشخصيات فنحن لا نعي أنها اضطرابٌ في الشخصية بالمعنى المرَضي، بل نتحدث عن سماتٍ معيَّنة في تلك الشخصية، التي يمكن تعريفها على أنها أنماطٌ معتادة من التفكير والشعور والتصرّفات يكتسبها الشخص في حياته، ومن الممكن أنْ تتغيّر حسب الموقف أو الزمان.

في المقابل ينطوي اضطراب الشخصية على أنماط طويلة الأمد وثابتة في الإدراك والتفكير والسلوك. وبسبب عدم مرونة هذه الأنماط وقلة انتشارها في المجتمعات، فهي عادةً ما تسبّب مشكلات وصعوبات في حياة الشخص من وقتٍ إلى آخر على مختلف المستويات الفردية والاجتماعية والأكاديمية والمهنية والعاطفية وغيرها.

وفي حين أنّ معظم الناس قد يجدون في أنفسهم سمة أو أكثر من السمات التي تميّز اضطرابات الشخصية، فإن الشخص الذي يمكن تشخيصه بالمضطرب هو الذي يُعاني معظم أعراض وسمات ذلك الاضطراب التي تستمرّ معه بدءاً من مرحلة البلوغ حتى المراحل اللاحقة. لهذا قد تتصرّف أحياناً بشكلٍ هستيريّ أو نرجسيّ دون أنْ يعني ذلك أنّك مُصاب باضطراب الشخصية.

الشخصية الهستيرية: دراما كوين

تشكّل مواقع التواصل الاجتماعي منصاتٍ جاهزة وحرّة للتعبير عن الذات ورسم الصورة التي يريدها الشخص عن نفسه وحياته وعلاقاته وتفاصيل أخرى كثيرة. وتلك المواقع بسؤالها "ماذا يحدث؟" أو "ما الذي تفكّر فيه؟" أو "ماذا في بالك الآن؟"، غذّت بطريقتها الشخصية الهستيرية وأعطتها مجالاً إضافيّاً للتعبير عن الذات وجعلها مَحَطّ الأنظار، حتى إنها تشعر بخللٍ ما حين تغيب لفترة عن تلك المواقع دون أنْ تحدّث حالتها أو صورتها الشخصية فيها أو تكتب عن أخبارها ومستجداتها.

والشخصية الهستيرية، أو التمثيلية كما يُطلق عليها أيضاً في علم النفس، هي نفس الشخصية التي نُطلق عليها ونسمّيها وفقاً للمصطلحات الشعبية بـ"الدراما كوين"، أو قد يتعدّى الأمر ذلك ليطلق عليها البعض لقب "attention whore" أو "attention seeking"، وهو الشخص الذي يكون في بحثٍ ورغبة دائمَين بجذب انتباه الآخرين من حوله، ليكون محطّ اهتمامهم أنظارهم وحديثهم بشكلٍ دائم.

ولو نظرنا إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فسنجدها ملأى بكثير من الأشخاص الذين يرغبون أنْ يكونوا محطّ اهتمام متابعيهم وجمهورهم من خلال سرد تفاصيل الحياة اليومية أو سرد الكلام السطحيّ بهدف مشاركته فقط، دون أنْ يكون وراءه أي معنى أو مضمونٍ جدّي. وهم أنفسهم الأشخاص الذين يخلقون عالماً واسعاً وكبيراً من الصداقات والعلاقات في تلك المواقع مع سعيهم بين فينة وأخرى لمدح أولئك الأصدقاء والاحتفاء بهم والتعبير عن تميُّزهم وتفرُّدهم وروعتهم وذكائهم ونجاحهم، وغير ذلك كثير. وقد يرجع هذا المديح إلى رغبتهم في التعويض عن نواقصهم من خلال أولئك الأصدقاء، أو لرغبتهم في الحصول على موافقتهم وتأييدهم في اللحظة التي يريدونها.

من جهةٍ ثانية، تستغلّ الشخصية الهستيرية الأحداث الخارجية لتحوّلها إلى ذاتها، فهي دائمة الشكوى عن حزنها وتعاستها لما يحدث في هذا البلد أو ذاك. وتستخدم مآسي الآخرين وأحزانهم لتكتب وتعبّر عن أثر ذلك عليها وعلى نفسيتها ومزاجها بشكلٍ دراميٍّ ومُبالَغٍ فيه بهدف جذب الانتباه وتحصيل الاهتمام.

الشخصية الحدّية: تَقلُّب في صورة الذات والعلاقات

تعاني الشخصية الحدّية من قدرة عالية على تطوير صورة سلبية للذات واضطراب في الهوية، إضافةً إلى انخفاضٍ كبير في صورة الذات وقيمتها. بالتالي يمكننا القول إنّ مواقع التواصل الاجتماعي بصفتها بيئةً قائمةً على عدد الإعجابات والتعليقات والتفاعلات، فهي تعمل بشكلٍ أو بآخر على تغذية انعدام الاستقرار في صورة الذات عند كثير من الأشخاص الذين يبحثون بشكلٍ دائم عن طرق وأساليب خارجية لتحسين صورة ذواتهم وأنفسهم، عوضاً عن أنهم كثيراً ما يقارنون أنفسهم بغيرهم نتاجاً لعدم الاستقرار هذا.

لذا، قد تدخل الشخصية الحدية في اكتئابٍ أو مشاعر حزن من خلال مقارنة النفس بالغير عن طريق ما يُنشر على مواقع التواصل، كما يؤدي الشعور الدائم بالفراغ واضطراب الهوية إلى قيام الأشخاص بنشر تفاصيل حياتهم كل دقيقة على تلك المواقع، وتوقّع تفاعل المتابعين واستجاباتهم، الأمر الذي قد يصل إلى نقطة تطوير الهواجس والعيش في عالمٍ مبنيّ على الإعجاب والشعور بالأهمية المتخيَّلة والوهمية.

وبحثاً عن الاهتمام والانتباه أيضاً، قد تسعى الشخصية الحدية للاختفاء عن مواقع التواصل الاجتماعي أو تعطيلها "ديآكتيفيشن"، لا لشيءٍ إلا للفت الانتباه وجذب الاهتمام وتحصيل السؤال. فالذات لديها في عطشِ دائم لصورةٍ إيجابية وحسنة يمكن تحصيلها من خلال اهتمام الآخرين بها وسؤالهم عنها وجعلها محطّ النقاش والحديث.

إضافةً إلى ذلك، تعبّر الشخصية الحدّية عن نفسها من خلال المتابعة "follow" وإلغائها "unfollow" المتكرّرين. فقد تتابعك الآن ثمّ تلغي المتابعة بعد ساعة لتعود في اليوم التالي وتتابعك. فهي تتّسم أساساً بعدم قدرتها على الاستقرار في المشاعر والانفعالات، لذلك قد تلغي متابعتها لشخصٍ ما لاختلافها معه أو لغضبها من رأيه، وبمجرد زوال الغضب وهدوء الانفعال ستقوم فوراً بإعادة إرسال طلب الصداقة أو المتابعة. أو قد تغضب من صديقٍ لها فتقوم بإزالة الإعجابات كافةً التي وضعتها له مسبقاً، واحداً تلو آخر. يظهر الأمر جليّاً أيضاً مع خاصّية إخفاء قصص إنستغرام أو سناب شات اللحظية "hide story"، أو الحظر، أو حذف الرسائل الإلكترونية والتعليقات.

لا نتحدث هنا عمّن يُخفي قصصه ومنشوراته لرغبةٍ منه في إخفاء بعض تفاصيله اليومية عن أشخاص بعينهم، فالشخصية الحدية تفعل هذا مع أقرب الأشخاص إليها، صديق أو حبيب أو فردٍ من العائلة، دون سببٍ وجيه أو منطقي سوى تقلّب مشاعرها وعواطفها تجاههم. وبتعبيرٍ آخر، لا يكون سلوك الشخصية الحدّية مفهوماً لمن حولها لانعدام الأسباب المنطقية والعقلانية في ما وراءه وانجراره للعواطف والمشاعر الآنية والفوريّة.

وبالمحصلة، قد لا يكون ظاهراً ما إذا كانت تغذّي تلك السمات وتعظّمها أو ما إذا كانت تخلقها وتحفّز ظهورها، لكن ممّا لا شكّ فيه أنها تُنتِج عديداً من السلوكيات وأنماط التفكير السلبية وغير الصحية التي تؤدِّي إلى تضخيم في الأنا وتعظيم في صورة النفس وانفصال عن الواقع وخلل في العلاقات الاجتماعية.

TRT عربي