تابعنا
أمجد الكركي (40 عاماً)، مصابٌ بمتلازمة داون، ورغم ذلك يستطيع مواجهة الاحتلال الإسرائيلي بطريقته الخاصة، عبر حماية مسجد بمنطقة الخليل بالضفة الغربية.

الخليل ـــ "أنا فرحان كتير، أنا سعيد لما أفتح المسجد، وأقيم الصلاة، وأهتم فيه" عندما يكون محور الحديث عن الحب والانتماء، وعن الوطن الذي تنحني أمامه كل الأشياء؛ ندرك بأن لا شيء يجعلنا عاجزين عن العطاء، حتى وإن كان المرض.

يتعلق قلب أمجد البريء بالمساجد منذ صغره، فلم يمنعه المرض من التردد إلى الصلاة في المسجد الإبراهيمي، مع كل أذان تصدح به المدينة الخليلية، ولا يقف مرضه حائلاً أمامه للهرولة إلى المسجد والإسراع لأداء الصلوات الخمس، يومياً، في المسجد الإبراهيمي، على الرغم من أنه يبعد مئات الأمتار عن منزله.

مذبحة الحرم الإبراهيمي

منذ سنوات مضت، وتحديداً في الخامس والعشرين من فبراير/شباط من عام 1994، كان أمجد حاضراً، يُلبي نداء الصلاة في المسجد الإبراهيمي، كما يقصّ علينا والده، حينما فوجئ المصلون هناك بالمستوطن باروخ غولدشتاين الذي تسلل إلى المسجد، وانتظر سجود المصلين ليفتح بعدها نيران رشاشه عليهم؛ ليرتكب مذبحة مروعة في زوار بيت الله، رفقة بعض المستوطنين الآخرين، فأوقع 29 قتيلاً و15 جريحاً في صفوف المصلين.

نجا أمجد وقتها من تلك المذبحة بأعجوبة؛ لكن الغريب في هذا الأمر، وعلى الرغم من صغر سنه وقتها، إذ لم يتجاوز خمسة عشر عاماً؛ لكن تلك الحادثة المؤلمة التي شهِدها بأمّ عينيه، لم تجعله يمتنع عن قصد المسجد للصلاة، كما اعتاد، يقول والده "لقد كان حاضراً يوم مذبحة الحرم الإبراهيمي، ونجا منها بأعجوبة؛ لكنه أصيب بعدها بحالة ترابط أكبر مع المسجد".

حماية المسجد

قبل شهور عدة تقاعد المسؤول عن خدمة مسجد زاوية أبو الريش الذي يقع على بعد أمتار من منزل أمجد ورعايته، وقد خاف المواطنون في المنطقة من أن يستغل جيش الاحتلال والمستوطنون الأمر، ويستولوا على المسجد الذي لطالما وضعوه نصبّ أعينهم، كغيره من كل أراضي الخليل وفلسطين كافة التي يطمعون فيها، لا سيما مع وجود حاجز إسرائيلي وقوة عسكرية على بعد خمسة أمتار فقط منه، كما أن البيت الملاصق له بات تحت براثن المستوطنين منذ شهور عديدة.

لم يجد المواطنون أجدر من أكرم لرعاية المسجد، نظراً إلى تعلقه الكبير بالمساجد، ومحبته الشديدة للاهتمام بها، والمكوث فيها لأوقات طويلة، فجميع من في الخليل يعرف أمجد، ويعرف هذا الشغف الواضح لديه، ويعلمون أيضاً أنه لا يخاف من قوات الاحتلال، ولا ترهبه نيرانهم ولا أسلحتهم الثقيلة أبداً، ويدركون أنه أفضل من يحمي بيت الله ويخدمه بنور عينيه.

وافق أمجد سريعاً على الاهتمام بالمسجد ورعايته، ومضى يهتم به وبنظافته، وبحمايته منذ ذلك الوقت، يستيقظ قبل أذان الفجر مسرعاً لفتحه للمصلين، وأحياناً كثيرة كان يؤذن للصلاة بنفسه، ثم يغلقه بعد أن يتأكد من نظافته وكل شيء فيه مغادراً صوب بيته يتناول وجبة الفطور ويرتاح حتى يقترب موعد صلاة الظهر.

يداوم على الذهاب إلى المسجد ويمكث فيها حتى انتهاء صلاة العصر، ثم يعود إلى بيته ثانية، يتناول وجبة الغذاء ويريح بدنه بعض الشيء، قبل أن يقصده مرة أخرى من أجل صلاتي المغرب والعشاء، حتى يعود إلى بيته مرة رابعة، وتتكرر دورة حياته هذه كل يوم.

سدّ منيع أمام الاحتلال

وبين كل ذلك، شكّل أمجد متراساً وسدّاً منيعاً، وصخرة لا تتزحزح أمام بطش الاحتلال ومحاولاته الدائمة السيطرة على المكان، فهو يهتم بحماية المسجد، لا يرتعب بتاتاً من تردد قوات جيش الاحتلال والمستوطنين إليه بشكل دوري، ولا يأبه بمحاولاتهم المستمرة في استفزازه، أو في مخططاتهم الدائمة، إذ يدأبون على أخذ قياسات المسجد، وفرش أوراقهم ومخططاتهم التهويدية، كاشفين عن أطماعهم وأهدافهم الاستيطانية التي لا تتوقف، ولا تجد لها رادعاً غيره.

لقد منح الله أمجد هذه المحبة الفطرية الربانية للمساجد، تعوضه عمّا حرم منه من رعاية واهتمام لم يجدهما من المؤسسات والمسؤولين الذين كان يجب أن يهتموا بمثل حالته الخاصة، فكان أن عوضه الله بهذه القوة الجبارة والتفاني من أجل رعاية المسجد وحمايته من المحتلين.

أمجد سعيد بحياته هذه، تخفف عنه أي ألم ومعاناة تطاله إثر مرضه؛ بل إن حماية المسجد ورعايته شكّل له حياة جميلة، جعلته لا يشعر بالنقص؛ بل بالكمال المطلق، والفرح الكبير، يخبر أمجدTRT عربي بصوته الرخيم المتلعثم، وعيناه تفيض بالحب والسعادة "أنا فرحان كتير، أنا سعيد لما أفتح المسجد، وأقيم الصلاة، وأهتم فيه".

وحينما سألناه عن حلمه الخاص، وأكثر ما يتمناه، قال "أنا نفسي أطلع أحج".

إن الله يجعل لبيوته حراساً، ويسخّر لها خيرة أهل ديارها، فيجعلهم خادمين لها، كما فلسطين تجد لها من يزود عنها، ويحميها بجلّ نفسه، حتى وإن كان مريضاً بمتلازمة داون، إنه إصرار الفلسطيني الذي يولد معه، وكأنه يتشرب من حليب هذه الأرض وطينها.

يُشار إلى أن "متلازمة داون" هي عبارة عن تشوه جيني يسبب تأخر النمو البدني والعقلي للطفل ويحدث نتيجة خلل في انقسام الكروموسوم رقم 21 في جسم الطفل، بعد أن تبدأ الخلايا في الانقسام بعد إخصاب البويضة مباشرة في رحم الأم.

معاناة كبيرة

وتُبرز المصادر المختصة أنه من كل 770 حالة ولادة يولد طفل مصاب بالمتلازمة، ويوجد في فلسطين ما بين 3500 - 4000 حالة مصابة بالمتلازمة من أعمار مختلفة، وغالبيتهم لا يجدون الاهتمام والرعاية المناسبة لأسباب عديدة.

إذ يواجهون مشكلة كبيرة في التحاقهم برياض الأطفال والمدارس وبخاصة الحكومية على فرض أنهم غير قابلين للتطوير، مضيفاً أن المدارس والمعلمين غير مؤهلين لتوفير الظروف والإمكانيات التي تراعي احتياجات هذه الفئة.

ووفقاً لـ(جمعية الرحيم – أصدقاء متلازمة داون) فإن النسبة الأعلى من المصابين في فلسطين تتركز في مناطق الجنوب الفلسطيني، ويربط البعض السبب في ذلك بالإشعاعات النووية المتسربة من مفاعل "ديمونا" الإسرائيلي، لكن لا يوجد إثبات علمي على ذلك حتى الآن.

يتعلق قلب أمجد البريء بالمساجد منذ صغره، فلم يمنعه المرض من التردد إلى الصلاة في المسجد الإبراهيمي (TRT Arabi)
وافق أمجد سريعاً على الاهتمام بالمسجد ورعايته، ومضى يهتم به وبنظافته، وبحمايته (TRT Arabi)
 يداوم على الذهاب إلى المسجد ويمكث فيها حتى انتهاء صلاة العصر، ثم يعودإلى بيته ثانية (TRT Arabi)
TRT عربي