تابعنا
"مطبخ دوار" ليس مجرّد مطبخ، بل هو مكانٌ دافئ يوفّر فرص عيشٍ للكثير من المهاجرات اللواتي تقطّعت بهنّ سبل الحياة في بلدانهنّ، وخصوصا القادماتِ منهنّ من سوريا والسودان.

القاهرة ـــ منذ أن تطأ قدماك أرض العزبة كما يلقّبها سكانها، عزبة خير الله، ثاني أكبر الأحياء الشعبية بمحافظة القاهرة، ترى كثيراً من الأخشاب وألواح الحديد متراصة على جانبي المطلع الذي يأخذك إلى داخل العزبة، أزقة ضيقة ومتعرجة ولكنها تتسع لكثير من سكانها أصحاب الأيادي الخشنة المتحجرة، ولكن بقلوب طيبة وابتسامة سمحة يستقبلون بها الضيوف أو الأغراب عن العزبة، والذين اعتادوا مجيئهم دوماً لتوافد كثير من منظَّمات المجتمع المدني التي تتخذ من العزبة مقرّاً لها لتقديم أنواع شتَّى من الدعم لسيدات وأطفال العزبة.

عربات بدائية تجرها الحمير، وفي بعض الأحيان الأحصنة، محمل على تلك العربات بضائع متهالكة تسمى "روبابيكيا"، أي خردة، تسير إلى الأمام بضع خطوات ثم تنحدر أكثر من يمين ثم كثير من اليسار، حتى تلمح عيناك جداريات ملونة لرسمة مصغرة بألوان مبهجة للتخطيط العمراني للعزبة من أعلى، لتجد أمام تلك الجدارية بناية مكوَّنة من ثلاث طوابق. إنه مبنى "مطبخ دوار".

باب حديدي قديم، يفتحه لك أطفال، إنهم أبناء العاملات في المطبخ حيث خصص الدور الأول لتعليمهم القراءة والتمثيل وبعض الأنشطة الصيفية. في الدور الثاني للمطبخ تعلم أنك وصلت بالفعل من الرائحة، رائحة الطبخ الشهية، الخليط بين الكبة الشامية وتقلية البصل المصرية، لتجد مطبخاً واسعاً، في المنتصف طاولة مستطيلة يتلف حولها عدد من السيدات من جنسيات مختلفة ومصريات، تجتمع حول تلك الطاولة ضحكات المهاجرات. اختلفن في الجنسية واللون والعرق، ووحّدهن الإصرار على تخطى أزمات يخلقن مستقبل جديد لانفسهن.

"روح العمل واحدة.. أشعر كأنني في مطبخ بيتي"

لمياء المهدي سيدة سودانية، أتت إلى مصر منذ 14 عاماً، تعمل في المطبخ منذ ما يقرب من 6 أشهر، عرفت المطبخ من خلال البحث عن فرصة عمل على مواقع التواصل الاجتماعي وتواصلت معهم وبدأت العمل على الفور، تقول لمياء: "أعمل على تجهيز المأكولات السودانية وغيرها هنا بالتعاون مع السيدات الأخريات المهاجرات من سوريا، وهنا سيدات عاملات مصريات أيضاً، فأشعر بالألفة والطمأنينة. روح العمل هنا واحدة؛ أشعر كأنني أطهو الطعام وأنا في مطبخ منزلي. أحب هذا المكان للغاية، ولا أفكر في الانتقال للعمل في مكان آخر"، حسب وصف لمياء.

سيدات هذا المطبخ قرّرن أن لا يتوقفن عند الظروف الحياتية التي مررن بها، فقرّرن أن يتخطين آلامهن التي واجهنها في بلدانهن، بالطبخ والاندماج وسط ثقافات مختلفة وتمضية الوقت مع سيدات أخريات يتشاركن موهبتهن كي ينسين ما مررن به من ظروف قاسية كادت تقضي عليهن نفسيّاً.

عمل تلك المهاجرات داخل المطبخ لم يقتصر على الطبخ، ولكن وُلدت بينهن علاقات إنسانية وصداقات وطيدة، فأصبحن يعملن بروح الفريق الواحد.

تقول دارين التي اتت إلى مصر من سوريا منذ نحو 9 أشهر: "عندما بدأت العمل هنا في المطبخ وسط صديقات أخريات من بلدان مختلفة انتابني شعور بالراحة النفسية، فعندما أستمع إلى معاناة كل منهن أشعر بأن سيدات يشاركنني نفس الآلام، لذا نحرص دوماً على أن نتحدث معاً كثيراً ونتشارك المعاناة والأحلام وتفاصيل حياتنا معاً، كي يشدّ بعضنا أزر بعض".

بات هذا المشروع طوق نجاة لكل منهن، وانتشالهن من معاناة وأوجاع حملتها كل منهن بداخلها من بلد إلى بلد، هاربات من واقع مرير، آملات أن تتكرر مثل تلك المشروعات لتقديم العون والدعم لعديد من المهاجرات واللاجئات الباحثات عن فرص عمل كريمة.

"مصريات يعملن في المطبخ لتعزيز الإدماج المجتمعي بين مختلف الجنسيات"

اللافت للنظر أن الدعم الذي يقدّمه مطبخ دوار لا يقتصر على المهاجرات من دول أخرى، بل يُقدَّم أيضاً لسيدات مصريات يعُلن أُسرَهُن، كنوع من تعزيز الدعم المجتمعي بين تلك السيدات من البلدان المختلفة، مِمَّا ساعد على كسر الحاجز النفسي بالحديث عن معاناة هؤلاء السيدات، وتخطِّي أزماتهن رغم اختلاف انتماءاتهن وجنسياتهن ومعاناتهن، إذ واجه عدد من السيدات المهاجرات في بداية الأمر عقبات خاصَّة بكيفية الاندماج والتعامل مع المجتمع المصري نوعا ما، وهذا ما عملت عليه مؤسَّسة دوار للفنون، على وجه التحديد داخل المطبخ، حيث حرص فريق تأسيس المطبخ على انخراط المهاجرات في العمل داخله مع سيدات مصريات يتشابهن معهن في الظروف الحياتية.

تُطِلّ علينا بصوتها العذب وهي تطهو أمام الموقد، جيهان ربيع، مصرية تتحدث ببساطة وتلقائية عن حياتها وكيف اختلفت بعد العمل في المطبخ والاندماج مع سيدات أخريات بالاستماع إلى تجاربهن، أخبرتنا أنها منفصلة عن زوجها منذ سنوات ولديها ثلاثة أبناء تعولهم. تقطن جيهان في عزبة خير الله لكي تكون بجوار عملها، صارحتنا بأنها تأمل أن تصبح طباخة ماهرة، فضلاً عن أنها تهوى الغناء.

"المشارِكات في المبادرة.. في حياة كل منهن تجربة مؤثرة"

ندى الشاذلي إحدى مؤسِّسات "مطبخ دوار" والمسؤولة التطوير، نوهت بأن المطبخ هو مشروع مجتمعي بدأ في أبريل 2018، توضّح أن الفكرة نمَت لديها ولدى فريقها عام 2016، "فلدينا مؤسَّسة تنموية تُدعى (دوار للفنون)، وكان يتوافد عليها عديد من السيدات لتقديم الدعم النفسي لهن ولكن بنمط مختلف، ولكن دائماً ما كانت تواجه تلك السيدات المهاجرات عقبة واحدة، هي كيف يمكنهن العمل وهن لا يملكن أي أوراق رسميَّة قانونية حول إقامتهن هنا في مصر".

وتضيف: "لذا فكرنا في أن علينا تقديم دعم أكبر لهؤلاء السيدات بتوفير فرص عمل كريمة لهن، تضمن لهن دخلاً ماديّاً، وفي الوقت ذاته يكون نوع من الإدماج المجتمعي لهن وسط المجتمع المصري، عملنا على تجهيز المكان داخل أحد الأحياء الشعبية، يسمى عزبة خير الله".

لم يكُن اختيار المكان بمحض المصادفة، ولكن ندى وشركاءها اختاروه تحديداً لأنه يُعَدّ ثاني أكبر منطقة عشوائية بالقاهرة، وهناك أيضاً سيدات ظروفهن لا تختلف كثيراً عن السوريات، فقرّروا توسعة المشروع وإدماجهن، وقد تمكنت السيدات اليوم من تطوير أنفسهن بعد أن تلقّين تدريبات عدة في الطهي وما شابه كي يعتمدن على أنفسهن، وهن واثقات بقدراتهن، وها هن أولاء اليوم يتمكنَّ من العمل على تجهيز طلبات لمحالّ كبرى وحفلات وعدد من السفارات في مصر.

ويقدّم مطبخ دوار قائمة طعام متنوعة، من مصر وسوريا وبلاد أخرى، ويعتمد المطبخ على تسويق منتجاته المطبوخة عبر خدمات التوصيل، كما يقدم خدمة الطعام المجمد، كما يهدف إلى توسيع نطاق المبادرة، وضمّ بعض الفاعليات التي تستخدم في العلاج الجماعي لأصحاب الظروف الإنسانية القاسية.

وترى ندى أن السيدات المشاركات في المبادرة صاحبات في حياة كل منهن تجربة مؤثرة، وحاليّاً لديها أكثر من 10 سيدات يعملن في المطبخ من السودان وسوريا ومصر، يعملن معاً على تحضير الطعام بخلاف تدريبهن على إدارة أماكن بجانب الدعم النفسي، لأن أغلبهن ناجيات من أزمات في بلدانهم ومطلقات وتعول كل منهن أسرتها.

وأضافت في ختام حديثها أن المطبخ أصبح مركزاً ثقافيّاً اجتماعيّاً للعزبة والسوريين وغيرهم، وتحرص ندى وفريقها على إقامة حفلات صغيرة في مؤسَّسة دوار للفنون، حيث تطلق دعوات عامَّة لكي يتعرف كثيرون حكايات هؤلاء السيدات ويتذوقوا أكلات مختلفة ويدعموهن.

أغلب النساء العاملات في هذا المطبخ ناجيات من أزمات في بلدانهم ومطلقات وتعول كل منهن أسرتها (TRT Arabi)
تقول ندى الشاذلي، إحدى مؤسسات "مطبخ دوار" إن فكرة المطبخ جاءت من أجل توفير فرص عمل للنساء المهاجرات وإدماجهن في المجتمع المصري (TRT Arabi)
سيدات هذا المطبخ قرّرن ألا يتوقفن عند الظروف الحياتية التي مررن بها، فقرّرن أن يتخطين آلامهن التي واجهنها في بلدانهن (TRT Arabi)
يوجد مطبخ دوار في مبنى قديم في عزبة خير الله وهي أكبر حي شعبي في محافظة القاهرة (TRT Arabi)
عندما بدأت السورية دارين التي جاءت إلى مصر منذ 9 أشهر، العمل في المطبخ وسط صديقات أخريات من بلدان مختلفة انتابها شعور بالراحة النفسية (TRT Arabi)
لمياء المهدي سيدة سودانية، أتت إلى مصر منذ 14 عاماً، وتعمل في المطبخ منذما يقرب من 6 أشهر (TRT Arabi)
باب حديدي قديم، يفتحه لك أطفال، إنهم أبناء العاملات في المطبخ حيث خصص الدور الأول لتعليمهم القراءة والتمثيل وبعض الأنشطة الصيفية (TRT Arabi)
TRT عربي