تابعنا
في مدينة مصنّفة كأكثر مدن العالم عنفاً ودموية، تُعتبر مهنة الصحافة في المكسيك، بمثابة مهنة المجازفة بالموت. حيث إن عصابات المخدرات لم تتوقف منذ سنين عن استهداف الصحفيين وتصفيتهم، وذلك وسط فشل أمني وقضائي ذريع.

منذ إعلانها الحرب على تجّار المخدرات، تتصدّر المكسيك عناوين الصحف كأكثر مدن العالم تسجيلاً للجرائم وأعمال العنف، حتى شبّهها البعض بمدينة الرّعب التي تُراق فيها الدماء باستمرار.

وتُشير الإحصائيات الرسمية الصادرة مؤخراً في هذا السياق، إلى أنّ عدد الجرائم المرتكبة خلال الأشهر السبعة الأولى من السنة الحالية 2021، قد ناهز حدود 6314 جريمة أغلبها حصلت بشكل مروّع من تقطيع وتشويه للضحايا، وهو رقم مُفزع يكشف مدى تقصير الأجهزة الأمنية والقضائية في السيطرة على الوضع وتحقيق الأمن والأمان للمكسيكيين.

وفي الوقت الذي لم تستثنِ فيه العصابات الإجرامية أحداً في المكسيك، يوجّه الصحفيون منذ عقود وإلى اليوم نداءات استغاثة، إلى الأجهزة الأمنية وكافة المجتمع الدولي، لحماية حياتهم التي ما فتئت تكون في مرمى الاستهداف في أكثر المدن خطراً ودموية بالنسبة لهم.

"انتقام" من الصحفيين

تكاد تجزم منظمات حرية الصحافة والمنظمات الحقوقية العالمية، أنّ المكسيك تُعتبر أخطر منطقة في العالم يمكن أن تعمل فيها صحفياً، وذلك بسبب جرائم القتل والاعتداء التي طالت عدداً كبيراً منهم وأفلت فيها الجُناة من العقاب.

وغالباً ما يُستهدف الصحفيون أو يتعرضون للتصفية الجسدية أو الترهيب، بدافع إسكات أصواتهم والتعتيم على الحقائق، ومنع تهديدهم للمصالح والتحالفات التي تربط بين رجال العصابات والفاسدين.

وتصاعدت الهجمات ضد الصحفيين في المكسيك منذ إعلان السلطات الرسمية، الحرب على تجّار المخدرات. وتناولت جرائمَهم وأخبارَهم، منذ ذلك الوقت، أقلامُ الصحفيين والإعلاميين بالنقد والاستقصاء، حتى قال بعضهم، إنّ مجرّد كتابة تقرير صحفي يتحدّث عن عنف تجّار المخدرات أو وصفهم بعصابات الجريمة المنظمة، يكفي لإثارة غضبهم وجعل الكاتب في فوهة البندقية.

كما يرى خبراء ومحللون، أنّ هذه العصابات الإجرامية تحاول دائماً الترويج للرأي العام، بأن المدن أو المناطق التي يوجدون بها آمنة، لمنع الحكومة من إرسال المزيد من القوات الأمنية، ولا يكون ذلك إلا عبر ترهيب الصحفيين أو الاعتداء عليهم أو قتل بعضهم تخويفاً للآخرين لإجبارهم على كتابة تقارير تتماشى مع مخططاتهم، أو على الأقل الصمت على جرائمهم وتحركاتهم.

ومع ذلك فإن الصحفيين الأكثر عُرضة للخطر على وجه التحديد هم الذين يغطّون أو يكتبون عن مساحات التقاطع والشراكات والتحالفات بين تجار المخدرات وبعض السياسيين والمسؤولين، كما يؤكد ذلك ناشطون حقوقيون.

ووفقاً للتقارير الصادرة عن الدوائر الإحصائية الحكومية ومفوضية حقوق الإنسان، فقد شهدت المكسيك خلال العقدين الماضيين مقتل أكثر من 140 صحافياً، بينهم 8 صحفيين العام المنقضي 2020، مقابل 9 صحفيين خلال السنة الحالية، وأغلبهم قُتلوا بطريقة مروعة.

وكان من بينهم الصحفي جوليو فالديفيا الذي وُجدت جثته مقطوعة الرأس عام 2020، بالقرب من قضبان سكك حديدية في بلدة موتزورونجو المكسيكية. وفي يونيو/حزيران الماضي عثرت الأجهزة الأمنية في مدينة سيوداد أكونا شمالي البلاد، على جثّة الصحفي صول تيجرينا رينتريا مطعوناً حتى الموت في سيارته.

ومؤخراً، خلال نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول المنقضي أصيب في مدينة تشياباس، المراسل الصحفي فريدي لوبيز أريفالو، برصاصة في رأسه وهو داخل منزله. وفي اليوم ذاته اقتيد الصحفي أكابولكو ألفريدو، من منزله إلى منطقة مجهولة على يد مسلحين ملثّمين، وعُثر عليه بعد ذلك مقتولاً بخمس رصاصات.

وتتالت حوادث استهداف الصحفيين وترويعهم وترهيب عائلاتهم، دون أن تكشف الجهات المختصّة الجناة الحقيقيين أو أن تفرض عقوبات على الذين ثبتت بعد ذلك إدانتهم. وتؤكّد في هذا السياق منظّمات الدفاع عن حرية التعبير، أنّ أكثر من 90% من جرائم قتل الصحفيين في المكسيك تبقى غالباً دون عقاب. وذلك نتيجة تحقيقات غير كفؤة وغير كافية، ونقص في الإرادة السياسية لوقف قتل العاملين في وسائل الإعلام، والتواطؤ المتكرر بين عصابات المخدرات.

وفي ذلك قال جان ألبرت هوتسن، ممثل المكسيك في لجنة حماية الصحفيين، في تصريح إعلامي سابق: "هذه الهجمات يغذّيها الإفلات من العقاب، الذي يكاد يكون مكتملاً في الجرائم المرتكبة ضد الصحافة. لم تكن الحكومة يوماً مستعدّة لاتخاذ أيّة خطوات ذات مغزى لتعزيز دولة العدالة أو حماية الصحفيين".

تقصير أم تواطؤ حكومي؟

ساهمت الجرائم المتتالية في المكسيك والتي استهدفت الصحفيين والإعلاميين، في ترسيخ صورة باعتبارها المدينة الأكثر فتكاً بالصحفيين في النصف الغربي من الكرة الأرضية، أو بالأحرى في العالم.

وفي الوقت الذي قررت فيه السلطات الرسمية عام 2006 شنّ حربها على عصابات المخدرات التي نما نشاطها بشكل كبير منذ ثمانينات القرن الماضي، فإنّها لم ترصد في المقابل خططاً أمنية كافية تستجيب لهذا التحدي وتؤمن حياة المدنيين، حتى بات يُشار إليها في غالب الأحيان بالتواطؤ معهم، وتُتّهم بغياب الإرادة السياسية الحقيقية في وقف إجرامهم المتمادي، والذي لم يعد يستثني اليوم أحداً أو طرفاً.

وارتفع منذ ذلك الحين منسوب الجرائم في المكسيك بشكل مروّع، وبلغ عددها، وفق الإحصائيات الرسمية، نحو 6314 جريمة خلال السنة الحالية، فيما اكتُشفت مؤخراً نحو 502 مقبرة سرية ونحو 418 مجزرة، ولا يزال الكثيرون إلى هذه اللحظة في عداد المفقودين.

ورغم الوعود المستمرة منذ عام 2006 وإلى اليوم، بإيجاد حلٍّ أمني سريع لهذه الأزمة المستفحلة وإنقاذ المكسيكيين من مستنقع العنف الذي غرقوا فيه منذ عقود، تنهار هذه الوعود مع إفلات الجناة باستمرار من العقاب، وتراخي الأجهزة الأمنية في التصدي لهذه العصابات المسلحة، والفشل في تأمين الأشخاص المستهدفين، وبخاصة الصحفيين.

وإن كانت مهنة الصحافة في العالم محفوفة بالمخاطر، فإنها في المكسيك رديفة للموت، خاصة إذا ما تعلّق الأمر بكشف الجرائم والتحالفات والتحركات لعصابات المخدرات والجريمة المنظمة.

TRT عربي