دي جي سنيك (Others)
تابعنا

تأتي أغنيةُ "ديسكو مغرب" لـ"دي جي سنيك-DJ Snake"، لتنقلَ في حدود الأربع دقائق، مشاهد من الحياة اليومية الهامشية عبر عدَّة مدن جزائرية ولقطات لحفلات زفاف ورقص يعكس طبوعاً مختلفة، في مزيجٍ ساحر بين الإيقاعات الكهربائية وموسيقى الرّاي، مع خاتمة باستخبار رائع للشاب خالد يرافق الشباب الذين يتسابقون بالدراجات النارية في وضعيات مغامِرة ومُلهِمة.

في المقابل غالباً ما يأتي المتنُ بأشكاله السياسية وطريقته في تكريس الإهمال وذاكرته القصيرة وعقليته الاستعلائية ليحاول دحض أو تبنِّي ما أسَّسه الهامش، وإبعاد أو الاستيلاء على منجزاته الفنية، وإهمال أو التقليل من قيمةِ ما اختبره الشاعر والملحِّن والمغنِّي والعازف كأبناء للشعب، للطبقات الكادحة، من آلام الماضي إلى مآزق الحاضر لا انتهاءً بالأمل الضئيل في المستقبل.

هناك في القاع السحيق تصبحُ أغنيةُ الرّاي لسانَ حال الناس، حالة ثقافية ممتدَّة عبر عقود طويلة من تاريخ الجزائر نوعاً من المقاومة والثورة التي لا يحدّها زمن.

"إنَّها رسالةُ حبٍّ إلى شعبي" هكذا كتب "دي جي سنيك" المنتج الموسيقي الفرنسي ذي الأصول الجزائرية عن ألبومه الأخير المعنون باسم شركة الإنتاج الموسيقي الشهيرة "ديسكو مغرب" في وهران (غربي الجزائر)، واصفاً إيَّاها بالجسر الذي يصِلُ بين أجيال وأصول مختلفة، ويربط شمال إفريقيا بالعالم العربي وما وراءهما.

الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء زيارته لديسكو مغرب في مدينة وهران الجزائرية (Others)

ولا شكّ أنّ أغنية "ديسكو مغرب" والتي حظيت بأكثر من 84 مليون مشاهدة خلال ثلاثة أشهر، أعادت الاعتبار إلى الشركة التي أنتجت كثيراً من أعمال نجوم الرّاي وكانت المنصَّة التي انطلقوا منها إلى العالمية، أو كما يصف صاحبها بوعلام بن حوَّة ذكرياته معهم: "لقد مرُّوا جميعاً من هنا".

"نحن في وهران نحتفل بموسيقى الرّاي أمس واليوم وغداً"، كانت هذه الكلمات من رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دي جي سنيك في أثناء زيارته رفقة وفد رسمي يوم 27 أغسطس/آب الماضي إلى هذا المكان الأسطوري.

لم تمرّ زيارة ماكرون إلى شركة "ديسكو مغرب" دون سخرية، خاصّة من الجزائريين الذي أبدعوا في تصميم ملصقات كاريكاتورية وواجهات أشرطة كاسيت تحملُ صورَ "الشاب ماكرون" الذي زار الجزائر هذه المرَّة لتخفيف التوتر السائد بين البلدين في الآونة الأخيرة. وكردَّة فعل على عدم الترحيب الشعبي بهذه الزيارة، علت أصواتُ الشباب بالعبارة الأثيرة "وان تو ثري فيفا لالجيري"، (1 2 3 تحيا الجزائر)، إلى مسمع الرئيس الفرنسي الذي مشى بضع خطوات محتشمة في الشارع لإلقاء التحية.

قصَّة لا تُروى إلَّا أسطورة

لا شكّ أنّ الإجابة على سؤال من أين أتى الرّاي؟ تتطلَّبُ وقفة متفحِّصة لمختلف المصادر المشكِّلة لهذا النوع الغنائي، والذي بدأ حركةً فنِّيةً مناهضةً ظهرت ملامحُها الأولى في الغرب الجزائري وتحديداً في مدينة وهران وما جاورها من مدن على غرار سيدي بلعباس وعين تيموشنت وغليزان، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية وتدهور حياة الناس في الحقب الاستعمارية منذ الإسبان وصولاً إلى الفرنسيين.

تشكَّلت تلك الرؤية الثورية على يدِ من يُطلق عليهم لقب "الشيوخ" و"شعراء الملحون"، إذ كان الحضورُ للكلمة الشفوية والشعر العامِّي الذي أبدعت فيه النسوة أو "الشيخات" من المدَّاحات في المناسبات الاجتماعية والدينية، وبرزت فيه عدَّة أسماء بقصائد وُصفت بالجريئة في طرحها للمواضيع السياسية والاجتماعية والحسِّية المرتبطة أساساً بالطبقات المهمَّشة وقصص الحبّ العنيفة والخسارات والظلم والتطلّع إلى الحرية.

الشاب حسني أحد أبرز نجوم موسيقى الراي في الجزائر (Others)

وغُنيت تلك القصائد بالاعتماد على آلةِ "القلّال" الإيقاعية أو "البندير" وأيضاً آلة النفخ الهوائية "القَصْبة".

وحسب الكاتب الجزائري سعيد خطيبي صاحب كتاب "أعراس النار.. قصة الرّاي – 2010"، فإنّ كثيراً من هذه القصائد والتعبيرات الشفوية ضاعت ولم يدوَّن منها إلَّا قليل والذي كان سبباً في نجومية كثير من مغنّيي الرّاي اليوم.

ويذكُر الكاتب أسماء شعراء من أمثال: مصطفى بن إبراهيم والحاج محمد الغوايشي الشهير بالشيخ حمادة والشيخ ميلود صاحب قصيدة "المَرسم" التي غنَّاها بلاوي الهواري، وكانت سبباً في نجومية الشاب مامي عام 1982، وتألُّق الشاب خالد لاحقاً، بذلك الاستخبار الذي كتبه الحاج خالد بن أحمد، والذي تقول إحدى جُملِه: "معرفة الكُتُب خزاين باقفالها إذا قريت خذ الكنز المقفُول".

الكُتُب والأبحاث المتخصِّصة والقصص الواقعية (Non-fiction)التي تروي سِيَر الفنّانين وحيواتهم ومصائرهم، هو ما ينقصُ ذاكرة موسيقى الرّاي باعتبارها - كما يضيف خطيبي – "الطابع الموسيقي الجزائري والعربي الوحيد الذي استطاع، في وقت قياسي، بلوغ ذروة العالمية". طابعٌ صدحت موسيقاه منذ البدايات كمشرَّد بوهيمي بين الريف والمدينة، بين الأسواق الشعبية والحانات وأرصفة الموانئ، وبين الأزمنة والأزمات لتُصبح اليوم النوعَ الغنائي الأكثر تعبيراً عن هموم الشباب، خيباتهم، وتطلّعاتهم.

في كتاب "مغامرة الرّاي.. موسيقى ومجتمع – 1996" الذي ألَّفه حاج ملياني بمعيّة بوزيان داودي نقرأ مدى ارتباط هذا النوع الموسيقي بالفئات المهمَّشة والتي تبحث عن ذاتها وعن معانٍ لوجودها في سياق تحوُّلات عميقة مرَّت بها الجزائر، خلَّفت آفات البطالة والحرڤة والانتكاسات المتتالية.

وبالتالي فإنّ الرّاي بجُرأة موضوعاتِه وتنوُّعِ إيقاعاتِه "هو حالة انتقالية، يجد الأفراد فيها أنفسهم بين مفترق أنماط من سلوكات المعيش الاجتماعي، في الحدود بين المدينة والريف من جهة وبين الفردانية والانتماء إلى الجماعة من جهة أخرى".

يُضيف "حامل همّ الرّاي" أو كما يُلقَّب الباحث ملياني: "إنَّ تواطؤ المثقَّفين مع الموقف الرسمي للسّلطة لعقود طويلة، همَّشَ التناوُل الإعلامي والثقافي وحتى الأكاديمي لهذه الظاهرة الفنية"، التي وُصفت بـ "الثورة الموسيقية"، وبــ "الزهرة البرِّية" التي نمت دون عناية، وارتمت في أحضان فئات الشعب المسحوقة لتحتضنها بجمال ألوانها وعطرها، وبشوكها أيضاً.

اختبار الزَّمن

تغيَّرَ لقب "الشيخ التاريخي لمغنّيي الرّاي، إلى "الشاب" مع جيل مامي وخالد وحسني ونصرو والزهوانية وفضيلة وصحراوي وغيرهم ممَّن يُعتَبَرون أبناء العصر الذهبي للرّاي مع بداية الثمانينيَّات، كما الجيل اللّاحق من أمثال بلال وعقيل وجنّات، والذين استلهموا من تلاقُح الموسيقى المغاربية والغربية، وأدخلوا إيقاعات تنطلق أساساً من التعبيرات الموسيقية الشعبية وتمضي في التجريب ومحاكاة الواقع عن طريق الآلات الكهربائية والإلكترونية، وإعادة غناء الموروث الشفوي من القصائد بألحان وإيقاعات حديثة على أوسع نطاق.

صورة تجمع بين الشاب خالد والرابر دي جي سنيك (Others)

أسطورية حكاية الرّاي التي يشوبُها النقصان، ولا تنقُصها براعةُ استلهام واقع الناس وهمومهم العاطفية البسيطة، لا تخلو من الصراعات والانتقالات الحادّة عبر مسيرة نضال طويلة ومؤلمة، ترسّخ فيها هذا المزيج من الأهازيج البدوية ولون "الغناوة" الإفريقي، والفلامينكو وغيرها، كفنٍّ غنائيٍّ منفتح على ثقافات البحر الأبيض المتوسّط. لأنّ السؤال الذي يرتبط بالنشأة والتحوّلات وصولاً إلى العالمية لا يجب أن يحجُبَ هذه القدرة العجيبة على صهر كلّ المتضادّات. وسواء أحبُّوه أم كرهوه، احتفوا به أو همَّشوه، فرَضَ الرّاي نفسه على الجميع.

تمسك فن الراي بمحتواه المناهضة الاستعمار، ومقاومة الظلم، وتبني قضايا الجموع المظلومة والمقهورة منذ الشيخة ريميتي (سعدية باضيف 1923 - 2006) أمّ الرّاي ومغنّية الطبقات المدحورة، مروراً بالشاب حسني (حسني شقرون 1968 - 1994) الذي اغتيلَ ببرودةِ دمٍ في زمن العشرية السوداء والذي استحقّ "لقَب ملك الرّاي العاطفي" وليس انتهاءً بالشاب عز الدين الشلفي (بن عودة عابد 1975 - 2019) الصعلوك النبيل ومحبوب المحرومين الذي ذاق المرّ بعد معارضته للنّظام والفساد زمن حكم بوتفليقة في أغانٍ كثيرة.

TRT عربي