همنغواي أثناء إقامته في كوبا عام 1945 (Getty Images)
تابعنا

يصعب الحديث عن الإرث الأدبي الذي تركه الكاتب الأمريكي إرنست همنغواي (1899 - 1961) والذي جعله واحداً من أهم أدباء القرن العشرين، ليس فقط بسبب ثراء تجربته الإنسانية وتعدُّد مستوياتها، وانعكاسها على نوع الأدب الذي أنتجه، بل أيضاً بسبب كراهيته تأويل الآخرين لحياته، وتعبيره عن ذلك بوضوح في الكثير من المواقف.

من بين جميع مؤلفاته تبرز رواية "العجوز والبحر" بوصفها التجلّي الأكبر لموهبته وأسلوبه الأدبي، وهي الحكاية التي ظلّت في زاوية داخل رأسه لسنوات طويلة قبل أن يكتبها وينشرها عام 1952، مُتحدياً نفسه في المقام الأول، ثم قُرّاءه والنقاد ثانياً.

أثناء كتابتها كان يعيش همنغواي في كوبا، في منزله المبني على الطراز الإسباني، والذي تحول لاحقاً إلى مركز لحفظ أعمال الكاتب كما أعلن المجلس الوطني الكوبي للتراث والثقافة يوم السبت 31 مارس/آذار 2019.

رحلات صيد وسجائر كوبيّة

ظلّ البيت الذي أقام فيه همنغواي برفقة زوجته الأخيرة ماري ويلش في هافانا، محتفظاً بطابعه الخاص منذ غادره للمرة الأخيرة عام 1960، قبل أن ينهي حياته بطلقة مباشرة في الرأس بعدها بعام واحد في بيته بالولايات المتحدة.

يتوسط المنزل بنوافذه العالية وجدرانه الممتلئة برؤوس وجلود الحيوانات المحنطة، مزرعة واسعة من الأشجار الظليلة، حيث أقام فيه همنغواي لمدة 21 عاماً، وكان صديقاً مقرباً من زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو.

التقى همنغواي عام 1928 جورجيو فوينتوس، صياد عجوز وُلد في جزر الكناري قبل أن ينتقل إلى الإقامة في قرية كوجيمار على الساحل الكوبي، وقد عاش لمدة 115 عاماً، ويقال إنه من أوحى إلى الكاتب بحكاية العجوز والبحر التي كتبها لاحقاً أثناء فترة إقامته في كوبا، حيث جمعتهما رحلات صيد الأسماك وتدخين السيجار وصداقة متينة امتدت لسنوات طويلة.

كان فوينتوس مسؤولاً عن الاعتناء بقارب الصيد "بيلار" الخاص بهمنغواي ، وبعد وفاته قام بتسليمه إلى السلطات الكوبية التي ضمّته إلى بقية مقتنياته حيث يُعرض في منزله بمزرعة لوك آوت.

الكاتب يرفض البوح بسرّ الحكاية

بدأ الأمر تحديداً عام 1938، حينما كان يعمل همنغواي على رواية "لمن تُقرع الأجراس؟" وكانت فكرة العجوز والبحر تلحّ عليه حينها، حاول كتابتها كقصة قصيرة لكنه شعر أن الحكاية التي تبدو بسيطة للوهلة الأولى تستحق المزيد من العمل، فتوقف وقرَّر إكمال مشروعه أولاً.

سيمرّ أكثر من 10 أعوام قبل أن يتمكن همنغواي من كتابتها، وخلال هذه السنوات عجز عن كتابة عمل استثنائي مثل أعماله السابقة. نشر خلال تلك الفترة رواية "عبر النهر ونحو الأشجار" التي لم تلقَ القبول وعرّضته للعديد من الانتقادات وشكّكت في قدراته ككاتب، وهو ما دفعه لأن يصف العجوز والبحر في حديث هاتفي مع محرره قبل أن يُسلمه النصّ بـ"أفضل ما كتبت في حياتي"، مضيفاً: "لعلها تُريح النقاد الذين ظنّوا بأن همنغواي الكاتب قد انتهى".

وهو ما حدث، فقد كانت الرواية الأقصر والأكثر رصانة وتعبيراً عن أسلوب همنغواي الخاص، وبعد نشرها بعام واحد حصل على جائزة البوليتزر في السرد الأدبي ثم جائزة نوبل للآداب عام 1954.

في الوقت الذي انحاز فيه النقاد إلى القول إن رواية العجوز والبحر هي قصة رمزية تُلخص حياة كاتبها وتكشف عن صراعه الخاص في الحفاظ على إبداعه بعد وصوله إلى الشهرة واعتراف العالم بموهبته، أصرّ همنغواي على إبقاء سرّه خفيّاً وحماية خصوصية صراعه الأدبي؛ حيث عارض فكرة الرمزية بضراوة "لا يوجد فيها أي رمزية، البحر هو البحر، والرجل العجوز هو الرجل العجوز، الصبي هو الصبي والسمكة هي السمكة، لا أكثر ولا أقل" على حد وصفه.

بدأ همنغواي حياته مراسلاً صحفياً وهو ما أكسبه أسلوباً أدبياً خاصاً، يمكن وصفه بالسهل الممتنع؛ حيث يصعب أن تجد كلمة في غير موضعها أو إسهاباً في الوصف، في أفضل تعبير عن نظرية الجبل الجليدي، حيث لا يجب أن يصل إلى القاريء سوى ما يظهر من قمة الجبل، أما عمقه الذي يحمله فهو يخصّ الكاتب وحده، حتى وإن اضطر أحياناً إلى إعادة كتابة صفحة واحدة أكثر من 39 مرة كما حدث في الصفحة الأخيرة من روايته "وداعاً للسلاح".

سانتياغو العجوز

تدور أحداث الرواية في إحدى قرى الصيد الساحلية في كوبا، بطلها الرئيسي صياد عجوز تركت الشمس ندوبها العميقة على وجهه ويديه، وبعد أن عُرف بقوته وشجاعته طوال حياته، بدأت تعليقات الصيادين المستهزئة تلاحقه، فقد مرّ عليه 84 يوماً دون أن يتمكن من اصطياد سمكة واحدة، لكنه يرفض قبول هذه الحقيقة التي بدأت تفرض نفسها وتُشوّه تاريخه، يصفه الكاتب بقوله "كل شيء فيه يتصف بالقدم، ما عدا عينيه اللتين كانتا بنفس لون البحر، ويطل منهما المرح وعدم اليأس".

سيُقرر العجوز سانتياغو مواجهة الأمر، وحده وبدون رفقة الصبي الذي يرغب في التعلم منه، سيذهب إلى المياه العميقة حيث لا يوجد سوى البحر وقاربه الصغير، سوف يُلقي بالطُّعم وينتظر ريثما يجد سمكته التي يتحدث إليها كما يتحدث إلى نفسه في مونولوج طويل لا ينتهي.

حين تلقم السمكة الطًعم الموصول بالحبل، وتخلّ بتوازن القارب والصياد بسبب ثقلها، سوف تبدأ الحكاية. يخوض العجوز صراعاً عنيفاً مع قوى الطبيعة، سمكة المرلين الضخمة التي أصبحت تجذبه وراءها والرياح والبحر ولاحقاً أسماك القرش المتوحشة، وهي الفكرة التي طالما فتنت همنغواي لا في كتاباته وحدها بل في الحياة التي كان يراها بوصفها صراعاً يُصقل الوجود وبدونه يفقد معناه.

سيحاول العجوز أن يجذب السمكة إلى الأعلى بمحاذاة القارب حتى يتمكن من العودة بها إلى الشاطئ وسيعجز عن ذلك، لكنه لن يُفلت الحبل. ستمر الليلة الأولى والثانية وقد ترك نفسه يتبع السمكة، وإعجابه بها وبدفاعها عن حريتها ومكانها الذي تنتمي إليه يزداد، سيتمكن في لحظة ما من قتلها، قال لنفسه حينها "إنك لم تقتل السمكة فقط من أجل أن تعيش، ولتبيعها كغذاء للناس، وإنما إرضاء لكبريائك واعتدادك بنفسك، ولأنك صياد، لقد أحببتها وهي حية، وأحببتها بعد أن فارقت الحياة، وإذا كنت تحبها فهل قتلك لها يعد خطيئة، أو أن ذلك شيء أكبر من الخطيئة؟".

تجمعت أسماك القرش حول القارب بعدما وصلت إليها رائحة الدم، وسيدور صراع أكثر حدة يحاول فيه العجوز النجاة بنفسه وبصيده الثمين الذي سيعيد إليه كبرياءه، سينتصر في المعركة وحيداً ويعود قاربه إلى الشاطئ لكن بعد خسارة الجائزة، فقد التهمت أسماك القرش سمكة المرلين ولم تترك منها سوى رأسها.

لكنه رجل، يتحمل مسؤولية المخاطر التي قرر خوضها بنفسه دون تذمُّر أو إلقاء اللوم على الآخرين، وهو الهاجس الذي شغل همنغواي وظهر في كتاباته المختلفة، دفاعاً عن تصوُّره الخاص عن الرجولة، وهو ما يبرر حديث العجوز لنفسه حينما بدأت أضواء الأكواخ الساحلية الممتدة تظهر من جديد في رحلة العودة "تساءل قائلاً: ومن الذي هزمك؟ أجاب بصوت عال: لا شيء..أنا الذي أوغلت بعيداً".

مكتبة همنغواي  في منزله الكوبي  (Getty Images)
همنغواي بصحبة زعيم الثورة الكوبية فيدل كاسترو عام 1959 (Getty Images)
جورجيو فوينتوس يجلس أمام منزله في كوبا وبيده صورة لهمنغواي عام 1988 (Getty Images)
TRT عربي