تابعنا
بعد مرور نحو قرنين من الزمن على توقيعها، عُثر مؤخراً على اتفاقية الشراء الأصلية لليبيريا، المستوطنة الأمريكية الوحيدة غرب إفريقيا، التي كانت الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك الوقت تعتزم إرسال السود إليها، واعدة إياهم بحياة أفضل هناك.

في إطار سياسة الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال العبيد المحررين إلى إفريقيا التي كانت تعدّها أرض أجدادهم الأصلية، وتجنباً لأي توترات وحروب أهلية محتمَلة بين السود وواشنطن، اشترت جمعية الاستعمار الأمريكية سنة 1821 بضع أراضٍ في الساحل الغربي لإفريقيا، أو ما يعرف بـ"ساحل الفلفل".

وأرسلت الجمعية حينها أول مجموعة من الأمريكيين السود الذين كان عددهم يقدر بنحو 528 شخصاً، لبناء المستوطنة الوحيدة لأمريكا في غرب إفريقيا، التي أطلق عليها اسم ليبيريا، نسبة إلى "ليبرتي" أو الحرية، باعتبارها المنطقة التي ستحتضن بعد ذلك العبيد المحررين، وستكون بمثابة "أرض الوعد" لهم، حسب وصف خبراء ومؤرخين.

وعلى الرغم من مرور عقود على نيلها الاستقلال، لا يزال الغموض يلفّ تاريخ هذا البلدا الإفريقي، بالإضافة إلى ظروف وصول الأمريكيين إليها، إلى أن أماطت الوثيقة التاريخية التي عُثر عليها مؤخراً، اللثام عن عديد من الحقائق.

كيف اشترت أمريكا ليبيريا؟

في إنجاز تاريخي هامّ اكتشف المؤرخ الليبيري باتريك بوروزو بعد جهد كبير، اتفاقية الشراء الأصلية لليبيريا المكتوبة بخط اليد عام 1821، التي كانت فُقدت في مكان غير معروف منذ عام 1835، ليبقى بعض التفاصيل منذ ذلك الوقت غامضاً، إلى أن أُزيحَ عنها الغبار في أرشيف الميكروفيلم، لمجموعة بوشرود واشنطن، في متحف التاريخ بشيكاغو.

واعتبر بوروزو أن العثور على الوثيقة سيساهم في إعادة النظر والتفكير في التاريخي الليبيري، إذ انتشر عديد من الأساطير والتكهنات في ظل غيابها.

ووفق ما ورد بالاتفاقية، فقد اشترت جمعية الاستعمار الأمريكية قطعة أرض غرب إفريقيا أُطلقَ عليها فيما بعد اسم مونروفيا، العاصمة الليبيرية، وذلك مقابل 300 دولار فقط.

وأكّد بوروزو بناء على ما جاء بالوثيقة، أنه لم تُجرَ مسوحات للأراضي في ذلك الوقت، ولم تُحدَّد بالتالي أبعاد الأرض الدقيقة. إلا أنه استنتاجاً من خريطة 1824، فقد شمل الشراء الأولي نحو 140 فداناً فقط.

وبعد التحرّي الدقيق، تَعرَّف بوروزو على طرفَي اتفاقية الشراء، وكانا يتمثلان في رجلين من البيض هما الملازم البحري الأمريكي روبرت ستوكتون، ووكيل جمعية الاستعمار الأمريكية إيلي أيريس.

ووفق ما أشار إليه بوروزو وشاركه فيه خبراء وناقدون، فإن ستوكتون الذي ارتقى إلى رتبة عميد بحري لاحقاً، ثم أصبح عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي، لطالما جسّد الموقف الأمريكي "المتناقض" في ما يتعلق بالعبودية.

فبينما عُرف ستوكتون بمكافحة الرق وملاحقة سفن العبيد، وأشرف كذلك على شراء ليبيريا لإرسال العبيد المحررين إليها ليحظوا هناك بحياة أفضل، فقد استبعد في الوقت ذاته العمال الأفارقة في مزرعة قصب السكر الخاصة به في ولاية جورجيا الأمريكية.

على الصعيد ذاته طُرح عديد من التساؤلات عما إذا كانت جمعية الاستعمار الأمريكية أيضاً منظمة مناهضة للعبودية فعلاً.

ويشير خبراء ومحللون إلى أن خطوة شراء ليبيريا أثارت حفيظة تجار الرقيق في ذلك الوقت، بما تمثّله من تهديد لمصالحهم وأعمالهم، إذ تَحوَّل الساحل الغربي لإفريقيا موطناً للعبيد المحررين القادمين من أمريكا ومن عدة دول ومناطق أخرى.

موطن جديد للعبيد المحررين

خلافاً للادعاءات الرائجة حول الظروف المحيطة بشراء قطع من الساحل الغربي لإفريقيا، أكد بوروزو بعد استقراء الوثيقة التاريخية، أنه بعد الاتفاق على عملية الشراء الأولى الموقعة عام 1821، وُقّعت اتفاقيات أخرى بين عامَي 1825 و1828، اشتُريَت بموجبها أراضٍ إضافية، لتتوسع بذلك المستعمرة الأمريكية الوحيدة في إفريقيا.

وعلى عكس ما زعمه كثيرون من أن الموقعين على اتفاقية الشراء لم يكونوا في ذلك الوقت على علم بمحتوى الوثيقة، أكّد المؤرخ الليبيري دحضاً لذلك أن المنطقة كانت تشهد في ذلك الوقت تبادلاً تجارياً كثيفاً مع الأوروبيين، مما خوّل إليهم إجادة اللغات الأجنبية والتعامل بها، إضافة إلى أن الموقعين والمشاركين في المفاوضات، كانوا يُعتبرون آنذاك من النخب الإفريقية التي تلقّت التعليم خارج البلاد، وتجيد التعامل باللغة الإنجليزية.

بذلك تحققت عملية شراء ليبيريا، التي كان يطمح من خلالها القادة الأمريكيون إلى إرسال السود إلى ما يعدّونه موطن جذورهم الأصلية، ويخمدوا بذلك فتيل التوترات الأهلية بينهم وبين البيض.

وللتشجيع على ذلك وعدوهم بالحصول على حريتهم ومزيد من الحقوق الاجتماعية والسياسية، فهاجر فعلاً عديد منهم إلى ليبيريا، ومع اشتعال الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 وصل عدد المهاجرين إلى ما يقارب 15 ألف أمريكي، ثم لحقهم نحو 6 آلاف إفريقي أُنقِذوا من سفن تجارة العبيد غير القانونية، لتصبح بذلك ليبيريا موطناً جديداً للعبيد المحرَّرين.

وفي عام 1847 أعلنت المستوطنة استقلالها، وانتخبت جوزيف جينكين روبرتس المهاجر من أمريكا، حاكماً لها، وصدر بعد ذلك أول دستور لها مماثل للدستور الأمريكي. لكن اعتراف واشنطن بالاستقلال تأخر كثيراً إلى حدود عام 1862.

وعلى الرغم من المكاسب التي تحققت على أرض ليبيريا، فإن ذلك لم يُخفِ حقيقة التوترات والخلافات المعقدة المستمرة بين المستوطنين المهاجرين من أمريكا وإن كانت أصولهم إفريقية، والسكان الأصليين لهذه الأراضي.

TRT عربي
الأكثر تداولاً