تابعنا
تعصف بالسوريين نتائج حرب شنّها النظام، ودمّرت خلالها البنى التحتية للبلاد، وبات على السوريين أن يتدبروا أمورهم كأنهم يعيشون قبل 100 عام، أما النظام فما زال ممسكاً بالسلطة ويدافع عنها بضراوة رغم فشله في تنفيذ وعوده ما بعد النصر المزعوم على الإرهاب.

لم تكن الحرب هي الطامة الكبرى التي ألحقت الأذى بحياة السوريين، إذ يعتقد كثير منهم أن ما يحصل الآن في زمن الهدوء المزيف هو أشد قسوة، وبعضهم يتمنى لو تعود الحرب ثانية حيث كانت الحاجات الأساسية متوافرة، ولأن الحلفاء والنظام كانوا يأخذون الموالين على محمل الجد ويبغون رضاهم.

اليوم يقول مازن، من سكان منطقة المزة 86 بدمشق، وهي تعتبر إحدى أهم خزانات النظام العسكرية في محيط العاصمة: "في عز الحرب لم تكن هناك سلعة مفقودة باستثناء الكهرباء والغاز، إلا أنها كانت أزمات بسيطة ولم يكن الغلاء بهذا الحد الجنوني، أما اليوم فنعاني فقدان أغلب السلع، وإن توافرت لم نستطيع شراءها".

الخبز برسائل نصية

بعد سلسلة من التجارب التي أجرتها مؤسسات النظام كالبطاقة الذكية التي جرى استغلالها والتحايل عليها، جرى اعتماد الرسائل النصية لتأكيد تسلُّم المخصصات وعدم التلاعب بها، ومع ذلك يستغلّ المواطنَ موزعو الخبز فيبيعون ربطة الخبز (7 أرغفة) بـ100 ليرة، وسعرها النظامي 50 ليرة مع زيادة 10 ليرات للموزع، أي إنها بـ60 ليرة، أما الباقي، 40 ليرة، فهو سرقة علنية للمواطن.

المخصصات للأسرة التي تزيد على ستة أفراد هي ثلاث ربطات خبز في اليوم، فيما تحصل العائلات الأقل عدداً من ذلك ما بين ربطة واحدة وربطتين، مما يُلجِئ المواطن إلى السوق السوداء.

أما السوق السوداء فهي نتاج الفساد بين الأفران وموزعي الخبز بالتشارك مع بعض المتنفذين الأمنيين، وهؤلاء يستخدمون النساء والأطفال في عمليات البيع في الشوارع الفرعية وأمام الأفران، فمقابل فرن المزة الاحتياطي، وهو من أكبر أفران العاصمة، تُباع ربطة الخبز ما بين 500 و700 ليرة.

محمد.خ، من سكان العاصمة، حي الميدان، يقول لـTRT عربي: "المشكلة ليست في السوق السوداء والتوزيع الجائر، بل أيضاً في جودة الرغيف ونوعية الطحين والخميرة، فالخبز رائحته سيئة ويفسد بسرعة".

في اليومين الأخيرين توقفت أفران كثيرة في العاصمة دمشق وريفها بسبب فقدان المازوت الذي تعمل عليه هذه الأفران، وحسب بعض أصحاب الأفران الخاصة فإنهم يعتقدون أن التوجه إلى أعمال أخرى هو الأفضل.

القمح.. أزمة وحصار

أدت العقوبات المفروضة على النظام السوري إلى توقف إمدادات القمح الروسي الذي كان يشكّل دعماً كبيراً للسوق المحلية، وتقتصر الآن على صفقات لا تتجاوز 200 ألف طن بالكاد تكفي لأقلّ من شهرين.

باحث اقتصادي، فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـTRT عربي، إن "أوسع مناطق الإنتاج في سوريا تقع تحت سيطرة (قسد)، وبعض مناطق الشمال السوري، فيما تعاني بقية مناطق الإنتاج كدرعا في الجنوب وغوطتي دمشق الغربية والشرقية، من انعدام أدوات الإنتاج الجيد، ومجموع الكميات التي استطاع النظام جمعها وتقدر بنحو 600 ألف طن، تكفي لأربعة أشهر فقط".

وفي السنوات الماضية تَعمَّد النظام إحراق حقول القمح والشعير في مناطق سيطرة المعارضة السورية في محاولة للضغط على حاضنتها وإفقارها، وذلك من خلال قذائف المدفعية أو استخدام بعض الموالين له في إشعال الحقول قبل الحصاد.

البنزين..طوابير تنتظر

ما زالت أزمة البنزين قائمة حتى الآن منذ نحو شهر، وقطعت وزارة النفط وعوداً بنهايتها لكنها فشلت في حلها، ويُضطرّ سائقو عربات النقل إلى الانتظار ليوم وأكثر من أجل ملء عرباتهم وفق مخصصات محددة، إذ يحق للسائق ملء خزان سيارته كل ثلاثة أيام بـ40 لتراً.

وللتعويض عن هذا النقص يُضطرّ سائقو العربات العمومية إلى شراء البنزين من السوق السوداء بمبالغ باهظة، فعلى سبيل المثال يبلغ سعر الغالون سعة 20 لتراً نحو 30 ألف ليرة سورية، أي إن اللتر يساوي 1500 ليرة، فيما يقدر السعر الرسمي للبنزين (أوكتان 90) بـ250 ليرة للمدعوم الذي يُباع على البطاقة الذكية بزيادة 6 أضعاف على سعره الرسمي.

أما البنزين الحرّ خارج البطاقة فسعر اللتر منه 450 ليرة، والبنزين (أوكتان 95) سعر اللتر منه 575 ليرة، عُدّل في 7 أكتوبر/تشرين الأول الحالي ليبلغ سعر اللتر 850 ليرة.

هذه الأزمة خلقت أزمة موازية لها في وسائل النقل، ومشاهد الزحام في المواقف العامة لا تنقطع حتى خارج أوقات الذروة، وهذا بدوره فتح الباب لاستغلال عربات التاكسي للمواطن بحجة عدم توافر البنزين.

من حي كفر سوسة الدمشقي يقول جيمل لـTRT عربي: "لا يقل أي مشوار في العاصمة عن 2000 ليرة سورية، أما إذا فكرت في طلب تاكسي إلى الريف ولمسافة 10 كيلومترات فستدفع 10 آلاف ليرة".

وقبل أزمة البنزين كان المشوار داخل العاصمة يكلف ما بين 500 و1000 ليرة، وخارج المدينة باتجاه الريف بحدود 3000 و5000 ليرة.

وبالعموم لم تتغير أسعار المحروقات تغيراً كبيراً، بل هوت الليرة السورية إلى حدود كبيرة وصلت حالياً إلى 2300 ليرة أمام الدولار، وهذا ما جعل الفارق يبدو بعيداً بين سعر السوق ودخل المواطن.

ولا يستطيع المواطن حساب مدفوعاته بالدولار بسبب الأجور المتدنية، فالحد الأدنى للأجور 50 ألف ليرة في آخر زيادة عام 2019، وهو ما يعادل 22 دولاراً أمريكياً، فغالون البنزين يقترب سعره من نصف راتب الموظف حديثاً.

أما أسعار البنزين مقابل الدولار بحسب نشرة صرف البنك المركزي (1250 ليرة مقابل الدولار) فتساوي على سبيل المثال: بنزين (أوكتان 95) بسعر 850 ليرة يساوي 1.65 دولار للتر الواحد، وهذا لا يتطابق مع صرف السوق (2300 ليرة)، وبالتالي يكون سعر لتر البنزين المبيع في السوق السوداء 1500 ليرة = 65.2 سنت، وهذا غير منطقي كما هو كل شيء في السوق السورية المنهارة.

ملاحظة: بعد إتمام هذا التحقيق أصدرت حكومة النظام قراراً برفع سعر مبيع لتر البنزين الممتاز المدعوم للمستهلك بـ450 ليرة سورية، ما يقارب الضعف، إذ كان السعر السابق 250 ليرة.

كذلك رفعت سعر لتر البنزين الممتاز غير المدعوم للمستهلك بـ650 ليرة سورية بدلاً من 450 ليرة، وعللت هذه الزيادة وقت بيانها، بالتكاليف الكبيرة التى تتحملها الحكومة لتأمين المشتقات النفطية وارتفاع أجور الشحن والنقل فى ظل الحصار الجائر الذي تفرضه الإدارة الأمريكية على سوريا وشعبها.

تبريرات واهية

بدوره، للنظام وسيلته المعتادة في تبرير أزماته، ومع ذلك يسخر الموالون له من كذبة الحصار الاقتصادي وقانون قيصر والمؤامرة الكونية، فكيف يتوافر البنزين في السوق السوداء ولا يتوافر في محطات الوقود؟ وفي هذا الصدد يقول الإعلامي الاقتصادي ناصر علي لـTRT عربي: "لم تعُد هذه الأحجيات تنطلي حتى على المؤيدين، فالوقود المتوافر هو لصالح الجيش وضباطه وعناصره، والنظام يهرّب النفط ويشتريه من لبنان ومن المليشيات الكردية، وهذا ليس خافياً على أحد، ولا ينكره ما يسمى "الإدارة الذاتية"، وبتوافق روسي-أمريكي.

وقود التدفئة.. مستحقات وهمية

يقول مراد، من سكان ريف دمشق، الشتاء الفائت الذي لم تصل إليه فيه الـ200 لتر من المازوت التي سجّلها في البلدية: "سجلتُ مثل كل المواطنين، ومع ذلك لم أحصل على المازوت واضطُررت إلى شرائه من السوق السوداء، وأحياناً الاعتماد على الحطب في التدفئة، فالشتاء هنا بارد جداً".

بعض المواطنين حصل على الدفعة الأولى، وهي 100 لتر مازوت في العام الفائت، وأما المئة الأخرى فدخلت في متاهات الأزمة من فقدان للمادة وحصار اقتصادي، أما السوق السوداء فلا تتوقف عن البيع بأسعار كبيرة، وهذا ما لا يقدر عليه الموظف الذي يحصل على راتب 50 ألف ليرة في الشهر، وكذلك العمال العاطلون عن العمل أو من يعملون باليومية.

عن أحوال هذا العام يقول أبو خالد، من غوطة دمشق الشرقية، لـTRT عربي: "نحن عانينا من حصار النظام خمس سنوات، والآن بعد أن سيطر النظام على المنطقة، لا خدمات ولا كهرباء والمياه تنقطع لساعات طويلة، أما المازوت فلا أمل لنا في الحصول عليه، والأشجار حُرقت وقوداً في سنوات الحصار".

كورونا.. كذب مفضوح

لم تتجاوز إصابات فيروس كورونا، وفق إعلام النظام ووزارة صحته في مناطق سيطرته، حاجز 5000 إصابة، ويتكتم عليها كأنها أحد أسراره الاستراتيجية، مع أن صرخات الاستغاثة انتشرت منذ أشهر في كل مواقع التواصل، واختفت الأدوية المتبَعة في علاجه كالفيتامينات والزنك وخوافض الحرارة وأسطوانات الأوكسيجين، ووصلت أسعارها إلى أرقام قياسية، وخرجت صور فاضحة لمشافي الدولة المنهارة وعدم قدرتها على استيعاب الإصابات الكثيرة.

الآن في ظل توقعات ببدء الموجة الثانية من الوباء، لم يتخذ النظام أي إجراءات وقائية، وافتُتحت المدارس التي سجلت حتى الآن 200 إصابة بين الكادر التدريسي والطلبة.

كذلك لم تتوقف الأنشطة الرياضية ودخول الجماهير للملاعب والحفلات، أما العامل الأهمّ الذي يخيف المواطنين فهو حسب ممدوح، من سكان الريف الغربي لدمشق، "طوابير الناس المتوقفة على الخبز ومحطات الوقود"، ويضيف: "وإذا لم تتخذ حكومة النظام إجراءات سريعة فستقع الكارثة، خصوصاً ونحن على أبواب الشتاء، والموجة الثانية للفيروس قادمة لا محالة".

تعصف بالسوريين نتائج الحرب التي شنّها النظام، ودمّرت خلالها البنى التحتية للبلاد، وبات على السوريين أن يتدبروا أمورهم كأنهم يعيشون قبل 100 عام، أما النظام فما زال ممسكاً بالسلطة ويدافع عنها بضراوة رغم فشله في تنفيذ وعوده ما بعد النصر المزعوم على الإرهاب.

TRT عربي