تابعنا
يتعرّض تاريخ العاصمة دمشق للإقبار بسبب "مشاريع استثمارية" طرحتها وزارة السياحة في حكومة النظام السوري، ما يهدد الملامح الحضارية لهذه المدينة التاريخية.

أثار المشروع الاستثماري الجديد الذي طرحته وزارة السياحة في حكومة النظام السوري إلى الواجهة ملفات العبث بتاريخ العاصمة دمشق، والعمل على تشويه ما بقي في المدينة التاريخية من ملامح حضارية تعود إلى حقب مختلفة، ولغايات تبدو للوهلة الأولى لاستجلاب السياحة والاستفادة من ريعها في بلد يعاني من الحرب، ولكنها في حقيقتها تعكس خفايا الفساد وتخفي أجندات غير وطنية.

السوق العتيق

ما بقي من السوق العتيقة الآن هو الحمام الروماني، أما الأقواس الأثرية الرومانية والمحالّ التجارية فقد تحولت إلى حديقة يؤمّها المتسولون وبعض النازحين من مناطق الصراع، وباعة متجولون فقراء، وأما الغاية المعلنة حينها لهدم السوق رغم مناشدات المثقفين والآثاريين السوريين ومنظمة اليونسكو فكانت توسعة الطريق الضيّق واستكمال مشروع الطريق المستقيم الذي لم ينفَّذ، ولكن التسريبات الإعلامية حينها تحدثت عن رغبة من تجار العقارات المموَّلين من السفارة الإيرانية في التمدد داخل المدينة القديمة.

السوق هُدِمَت عام 2007 كأولى خطوات التمدُّد الإيراني التي سبقت الحرب العسكرية، وبداية لحرب اقتصادية وتاريخية لا تزال قائمة.

استملاك جديد لحيّ الحمراوي

قصة استملاك حي الحمراوي المجاور للمسجد الأموي تعود إلى عام 1960 -زمن الوحدة بين سوريا ومصر- بعد الحريق الذي تَعرَّض له، فأصدر حينها المشير عبد الحكيم عامر قراراً باستملاكه، وناضل الأهالي لتغيير قرار الاستملاك لكونه يهدّد حياتهم المعيشية، وأعيد ترميمه، لكن محافظة دمشق أعادت تأكيد استملاكه أكثر من مرة، وهذا يقتضي هدم أكثر من 74 منزلاً و56 محلّاً تجاريّاً في منطقة حيوية من المدينة القديمة تضم المهن كافّةً التي يعتزّ بها الدمشقيون.

في 2018 عادت المحافظة للتهديد بالاستملاك بعد أن تعمدت إهماله خدميّاً ليتعرض لمزيد من التهالك بدلاً من دعمه وترميم أضراره، وهذه المرة جاء القرار بنقل بعض أملاك المحافظة إلى "شركة دمشق الشام القابضة"، ومن بينها العقارات المستملَكة في حيّ الحمراوي بدمشق القديمة، والتبرير حسب أحد مسؤوليها: "الحصول على عائد مادي كبير تستطيع من خلاله المحافظة زيادة المشروعات الخدمية المنفَّذة لصالح المواطنين".

وداعاً مقهى الحجاز

التخريب وصل أخيراً إلى ذاكرة السوريين، وهنا تبرز القيمة التاريخية والإنسانية لمقهى الحجاز الذي يتوسط قلب العاصمة بالقرب من محطة الخطّ الحديدي الحجازي الذي كان يمتدّ من دمشق وصولاً إلى المدينة المنورة، ويربط العاصمة بضواحيها عبر شبكة خطوط أخرى عُطّلَت بالإهمال والفساد طوال العقود الخمسة الأخيرة من حكم نظام البعث.

خطورة المشروع الجديد الذي يقتضي أيضاً هدم المقهى وما يجاوره من محالّ تجارية في كونه يعرّض هذا الانسجام العمراني للتشويه، ويخالف القانون السوري للآثار الذي ينصّ على عدم إنشاء أبنية مرتفعة بجوار المناطق الأثرية، إذ إن الفندق السياحي -المتوافَق على إنشائه مع مستثمر سعودي من أصل سوري- يرتفع إلى 12 طابقاً، وبالتالي سيهدّد المحطة ويحجبها.

يتوسط المكان الذي يتموضع عليه المقهى مجموعة من الأبنية القديمة التاريخية، كالتكية السليمانية وسوق المهن اليدوية والمتحف الوطني وقلعة دمشق والجامع الأموي ومقام السيدة رقية، ويجاور أهمّ أسواق العاصمة كسوق الحميدية والصالحية.

يقول الباحث ف.س لـTRT عربي حول هذا المشروع الجديد: "المشروع قديم، واعتُرض عليه لنفس الأسباب القانونية والتاريخية التي بموجبها يُمنع هدم المناطق ذات الطابع الأثري والإنساني، ومع ذلك سيجري الهدم كما حصل بالسوق العتيقة على الرغم من كل المناشدات، لأن من يحكمون هنا هم الفاسدون والتجار".

التكية السليمانية.. مشروعات قادمة

كالعادة يُسرَّب بعض السيناريوهات قبل الإقدام على أي مشروع في أي مكان له حساسية تاريخية ووطنية، وفي حالة التكية السليمانية، الأثر العثماني في وسط العاصمة، طُرحت عدة مشروعات من بينها الترميم والاستثمار، وآخرها إنشاء مطاعم ومقاهٍ في أحد أجزائها.

سوق المهن اليدوية الأثرية تُعتبر إحدى أهمّ ركائزها التجارية، إذ رُمّم في سنوات ما قبل الحرب الأخيرة بعضُ المحالّ على طريقة مثيلاتها في بعض المدن التركية، وجرى في نفس الوقت التوافق مع الحكومة التركية على أن ترمّم التكية بالكامل، ولكن هذا الاتفاق انتهى مع بداية الحرب السورية.

الضغط على التجار المستثمرين للمحالّ في السوق مستمر منذ أكثر من عقد من الزمن لأن الإيجارات قديمة، والطامعون في استثمارها يريدون تحويلها إلى استثمار سريع قد يشوّه المكان أو يغيّر هُويته، لذلك يُتريَّث ريثما يتخذ القرار بذلك.

أحد التجار يقول لـTRT عربي: "نحن نتعرض لحصارين حاليّاً، أولهما الحصار بسبب الحرب، فلا سياح قادمون ولا مشاركة بالمعارض الخارجية، وفي الداخل مَن يريد إخراجنا من محالّنا التي نستثمرها منذ عقود في مهن تاريخية كالنسيج والخزف والنحاس، وقد يستبدلون بنا بعض محالّ سندويش الهمبرغر، وكافيهات الأراكيل والشاي".

إهمال النيات السيئة

داخل سور المدينة القديمة حكاية أخرى من الوجع يعانيها الأهالي الذين لا خيارات كثيرة لديهم، وهم ينتظرون إما سقوط أبنيتهم فوق رؤوسهم وإما القبول بعروض البيع والخروج.

مع اندلاع الحرب في سوريا وضعت اليونسكو المدينة القديمة عام 2013 على لائحة التراث المهدّد بالخطر، وذلك بسبب اندلاع المعارك على أطرافها المحاذية لمناطق الصراع في غوطة دمشق الشرقية، وسقوط قذائف الهاون في بعض مناطقها كباب توما وباب شرقي.

الأخطر من ذلك كان تَمدُّد المليشيات الموالية لإيران في أحيائها القديمة، ووُضعَت حواجز لفصيل أبو الفضل العباس وحزب الله السوري اللذين مارسا ضغطاً على تنقُّل السكان وحريتهم، وهذا ما جعل كثيرين منهم عرضة للاعتقال أو القتل أو الهرب.

على صعيد آخر أهملت السلطات المحلية المدينة، وتركت مياه الصرف الصحي تأكل أبنيتها، وأما عمليات الترميم فهي في حدّها الأدنى كالتدعيم بالأعمدة الخشبية والمعدنية، ومُنحت بعض المستثمرين الذين عبثوا بنمطها التاريخي بيوتاً أثرية، وتحولت هذه البيوت إلى مطاعم وكافيهات.

حرب كبيرة تُشَنّ على معالم المدينة الأثرية تحت أسماء وشعارات وطنية، وأما الوقائع فتشير إلى أن ما يحصل هو انتزاع لتاريخها وقيمتها التاريخية لمصالح إقليمية تديرها شبكة محلية فاسدة من مسؤولين وتجار محسوبين على خانة النظام.

خطورة المشروع الجديد الذي يقتضي أيضاً هدم المقهى وما يجاوره من محال تجارية في كونه يعرض هذا الانسجام العمراني للتشويه (TRT Arabi)
السوق العتيق تم هدمه عام 2007 كأولى خطوات التمدد الإيراني التي سبقت الحرب العسكرية (TRT Arabi)
يتوسط المكان الذي يتموضع عليه المقهى قرب محطة دمشق مجموعة من الأبنية القديمة التاريخية كالتكية السليمانية وسوق المهن اليدوية والمتحف الوطني (TRT Arabi)
وفي حالة التكية السليمانية الأثر العثماني في وسط العاصمة طرحت عدة مشاريع من بينها الترميم والاستثمار (TRT Arabi)
داخل سور المدينة القديمة حكاية أخرى من الوجع يعانيه الأهالي الذين لا خيارات كبيرة لديهم (TRT Arabi)
TRT عربي