تابعنا
يبدو أن ما يدفع قاصدي القارة الأوروبية على "قوارب الموت" رغم خطورة الطريق وضعف احتمال النجاة، أسباب كثيرة لا تقتصر على الاقتصاد والأمن والسياسة والظروف المعيشية والتمييز والتهميش، بل تشمل كل ما سبق، ما يدق ناقوس الخطر أمام الجميع.

أضحت "قوارب الموت"، كما باتت تعرف في لبنان، ظاهرة مؤرقة في الأسابيع الأخيرة، لا لأنها تشهد مقتل وغرق عشرات من المهاجرين غير الشرعيين فحسب، بل لأنها أصبحت ترمز إلى حجم القهر والمعاناة التي يواجهها المقيمون في لبنان، سواء كانوا مواطنين أم لاجئين، وانقطاع سبل العيش لعدد متزايد من العائلات.

وفي وقت يشهد لبنان انهياراً اقتصادياً مطبقاً يزيد الخناق باستمرار على المواطنين، ويضيف أعداداً جديدة منهم إلى قوائم الفقر، بالتوازي مع أزمات مشابهة في سوريا المجاورة، تنطلق من الشواطئ اللبنانية مراكب تحمل بعض الحالمين بالهجرة إلى أوروبا والنجاة من دوامة الفقر والفساد وانعدام الأمل بالتغيير، وهو ما يشكل أحد أخطر الطرق التي يسلكها المهاجرون للوصول إلى القارة العجوز.

وقد تواترت عمليات الإنقاذ التي نفذتها قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان (اليونيفيل)، وعمليات الاعتراض من قبل الجيش اللبناني لعدد من القوارب التي تقل المهاجرين غير الشرعيين انطلاقاً من السواحل اللبنانية، وهي تتجه نحو جزيرة قبرص أو اليونان، ليتبين أن كثيراً من هؤلاء المهاجرين قد مات غرقاً أو حتى جوعاً، وقد سرد العديد من الناجين قصصاً مروعة في هذا الصدد.

انسداد الأفق

وفي أحدث واقعة سجلت في لبنان، أعلن الجيش اللبناني في 4 أكتوبر/تشرين الأول الجاري أنه منع محاولة جديدة لعبور البحر المتوسط بطريقة غير شرعية، عبر اعتراض مركب على متنه 37 شخصاً. وأوضح الجيش أن وحدات من قواته البحرية أوقفت مركباً يستخدم في تهريب أشخاص قبالة جزر الراكمين شمال البلاد، وأحبطت عملية تهريب 37 شخصاً، هم 34 سورياً بينهم 7 أطفال و3 نساء إضافة إلى لبنانيين اثنين وفلسطيني واحد.

ويغلب على المهاجرين الذين يستقلون "قوارب الموت" الجنسية السورية، إلى جانب عدد من اللبنانيين والفلسطينيين، في مؤشر على ارتباط الظاهرة بالأوضاع السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية في بلاد الشام، وتضاؤل الفرص وانسداد الأفق أمام مزيد من السكان.

ويستضيف لبنان مليوناً ونصف مليون لاجئ سوري، كما يستضيف قرابة نصف مليون لاجئ فلسطيني، وينخفض هذا الرقم في تقدير الحكومة إلى نحو 174 ألفاً.

وتشير إحصائية لمنظمة "سايف ذي تشيلدرن" (أنقذوا الطفولة) غير الحكومية، حسب تقرير لها نشر في 14 من الشهر الجاري، إلى أن راكبي "قوارب الموت" بلغ عددهم المئات، وأن الأسابيع العشرة الماضية شهدت قفزة كبيرة في توجه مزيد من المهاجرين نحو هذا الطريق المحفوف بالمخاطر.

وقالت المنظمة إنّها أحصت بين يوليو/تموز وسبتمبر/أيلول 21 رحلة بحرية لمهاجرين غير شرعيين من لبنان إلى قبرص، مقابل 17 رحلة فقط سجّلت طيلة عام 2019.

ووفقاً للمنظمة المهتمة بحقوق الأطفال فإنّه خلال سبتمبر/أيلول "أعيد 230 شخصاً كانوا على متن خمسة قوارب إلى لبنان بعد محاولتهم عبور البحر إلى قبرص".

لماذا طرابلس؟

ويلاحَظ أن جميع الرحلات انطلقت من شمال لبنان الذي يعاني أصلاً، وقبل الأزمة الاقتصادية الأخيرة، من التهميش وضعف التنمية مقارنة بمناطق أخرى في البلاد. ويؤكد الباحث السياسي اللبناني طارق مفيد المبيض أنه منذ أربع سنوات تقريباً كانت هناك موجة أولى للهجرة، واستطاع عدد من أبناء الشمال الوصول إلى دول مثل ألمانيا، وذلك ضمن الموجة التي حملت لاجئين سوريين إلى أوروبا عبر تركيا واليونان.

ويرى المبيض، في حديث مع TRT عربي، أن أسباب هذه الظاهرة معروفة، فطرابلس تعيش حالة فقر مدقع، وبالتحديد الأحياء الفقيرة والمعدمة في باب التبانة وباب الرمل والقبة والمنكوبين. وأضاف: "هذه الضواحي لا تعاني فقراَ فقط، وانما حالة عدم استقرار تتمثل بوجود زمر من الشباب تفرض الخوات على المحلات التجارية، وتمارس نوعاً من السطوة التي تزيد سوءاً حالة الفقر والتهميش وغياب الدولة".

واعتبر الباحث اللبناني أن من أهم أسباب تنامي الظاهرة الجديدة أيضاً "ترهل بنى الدولة اللبنانية التي لا تستطيع منع هذا النوع من الهجرة، والدليل أن الأجهزة الأمنية اللبنانية لم تستطع إيجاد وإنقاذ ركاب قوارب الموت المنطلقة من الشمال، لكن من فعلت ذلك هي قوات اليونيفيل التي استطاعت عبر طائراتها ومعداتها إنقاذ من تبقى من الركاب أحياء".

من جهته يرى محمود زغموت، الصحفي والباحث في قضايا اللاجئين، أن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والأزمة المالية التي يمر بها لبنان منذ أكثر من عام، وتبعات انتشار فيروس كوفيد-19، وانفجار ميناء بيروت، ساهمت بدفع الشرائح الضعيفة من المجتمع، كاللاجئين الفلسطينيين والسوريين وكذلك المواطنون اللبنانيون من ذوي الدخل المحدود، إلى السعي إلى الهجرة بشتى الوسائل.

أسباب إضافية

وأشار زغموت في حديث مع TRT عربي إلى خطورة الطريق الذي يسلكه المهاجرون الذين يقصدون قبرص عبر البحر، بما في هذا الخيار من مخاطر جمة، أملاً بالنجاة من الواقع المرير الذي يعيشونه في لبنان.

ويبدو أن للاجئين الفلسطينيين أسباباً إضافية تدفعهم نحو الهجرة وركوب "قوارب الموت"، أبرزها بحسب الصحفي والباحث في قضايا اللاجئين "حرمانهم من الحقوق المدنية، وكذلك منعهم من العمل سواء في القطاع العام أو الخاص أو حتى في المهن الحرة، بالإضافة إلى تقليص خدمات الأونروا، وتردي الوضع الاقتصادي والخدمي في المخيمات الفلسطينية".

وأشار كذلك إلى أن "جولات التصعيد الأمني والاشتباكات بين الفصائل التي كانت تحصل في المخيمات، خاصة مخيم عين الحلوة، وهو أكبر هذه المخيمات" ساهمت في دفعهم إلى البحث عن ملاذات آمنة خارج البلاد.

تحذير

ويبدو أن ما يدفع قاصدي القارة الأوروبية على "قوارب الموت" رغم خطورة الطريق وضعف احتمال النجاة، أسباب كثيرة لا تقتصر على الاقتصاد والأمن والسياسة والظروف المعيشية والتمييز والتهميش، بل تشمل كل ما سبق، ما يدق ناقوس الخطر أمام الجميع.

وبينما يشير الباحث السياسي طارق المبيض إلى أن نسب النجاة في هذه العملية شبه معدومة، خصوصاً أن القوارب يتم تحميلها أكثر من طاقتها الاستيعابية، يطلق تحذيراً من أن "الأيام والأشهر المقبلة ستشهد موجات لجوء أكبر وأخطر إذا تفاقمت الأزمة الاقتصادية".

TRT عربي